صفحات الرأي

خمسون عاماً مضت: ما الذي كانته «الثورة الثقافية» في الصين؟/ أحمد بيضون

 

 

أطلق ماو تسي تونغ ثورته الثقافية، إذن، (واسمها الكامل «الثورة الثقافية البروليتارية العظمى») في الربيع من سنة 1966، أي بعد سنوات قليلة كانت قد انقضت على فشل «الوثبة الكبرى إلى الأمام» وما خلّفته من خراب مهول في الاقتصاد الصيني، وعلى تراخي القبضة الماويّة، من جرّائها، على الحزب وعلى البلاد.

وعلى غرار ما هو مألوف من أحوال الأنظمة المُعْتمة التي تزعم تنوير العالم، لا يُعرف عدد الذين قضوا في «الوثبة الكبرى» التي تكشّفت عن وثبة نحو المجاعة، فيتراوح تقديره ما بين خمسة عشر مليوناً وخمسة وخمسين مليوناً. وكانت الغاية المعلنة من «الثورة الثقافية» ضرب البرجزة أو الانحراف الرأسمالي والتحريفية ذات المشرب السوفييتي والبيرقراطية في الحزب والدولة والقضاء أيضاً على «الأشياء الأربعة البالية» أي على الفنون والآداب التقليدية وعلى التراث الفكري القديم وعلى معالم تاريخية مختلفة أخصّها المعابد إلخ. وكان من الشعارات: «النار على القيادة العامّة». وكانت القوّة الضاربة بضعة ملايين من «الحرّاس الحمر» أكثرهم من الطلاب والتلامذة، رفعوا «الكتاب الأحمر» وفيه نصوص مختارةٌ من أعمال ماو وأطلقت أيديهم مدّة من الزمن في التشهير والمعاقبة والعزل والاستبدال، وفي القتل عند الاقتضاء وكانت القيادة مجسّدة في الرئيس ماو الذي بدأت تدركه الشيخوخة وفي من سُمّوا لاحقاً «عصابة الأربعة» من خلفه وأهمّ عناصر «العصابة» زوجته. وكان في الصدارة أيضاً لين بياو، وزير الدفاع المرشّح لاحقاً لخلافة ماو، وقد قُتل سنة 1971 (أي بعد الانقلاب على الثورة الثقافية) في حادث طائرة مشبوه. وقد كرّر الرئيس وأركان حربه الظهور على المنصّة في ساحة تيان آن من، يستعرضون طوابير الحرّاس الحمر عند مدخل «المدينة المحرّمة»، بيجنغ الأباطرة القدماء.

وفي رأس من طالهم العزل والعقاب ليو شاو شي، رئيس الجمهورية، الذي كان قد حلّ محلّ ماو في هذا المنصب مع تحوّل «الوثبة الكبرى» إلى كارثة عظمى. وقد عُزل ليو واعتُقل في حمّى الثورة الثقافية ولم يلبث أن قضى في المعتقل حيث كان يلقى أسوأ المعاملة. وفي وقتٍ ما، اهتزّت الأرض تحت قدمي رئيس مجلس الوزراء شو إن لاي، رفيق ماو القديم والمسؤول المخضرم الذي كانت الصين تستعير لسانه لمخاطبة المجتمع الدولي. ولكن شو إن لاي صمد. وفي ما دون هذه الدائرة العليا، عصفت الثورة الثقافية بأوضاع بشر لا يحصون على كلّ مستوى. حصل ما كان منتظراً فراح الابن يشي بأبيه والطالب برفيقه والموظّف بزميله إلخ. وفضلاً عن ضحايا المقاومة التي لقيها «الحرّاس الحمر» من خصومهم، لم تلبث الشيع المختلفة أن ظهرت بين صفوف الحرّاس أنفسهم ودبّ العنف بينهم ومال بعضهم إلى السلب والنهب فيما بدا أن الانتهازية وريث محتمل للبيرقراطية وأن البلاد كلّها – وهذا هو الأهمّ – وصلت إلى شفير الحرب الأهلية. ولعل المختصّ الفرنسي ميشال بونّان يحسن تقديم جوهر الماويّة حين يقول إنها تختلف عن الستالينية التي كان العنف والقمع فيها شأن أجهزة متخصّصة بِكَوْن العنف والقتل في الماويّة قد أصبحا «ديمقراطيين» يسع كلَّ من ينتحل دعوى الضرب بقبضة «الشعب» أن يُقْدم عليهما.

مع هذا كلّه، بقيت القيادة الضيّقة ممسكة بالزمام. فبعد أن أزاح «الحرّاس الحمر» خصومها في الحزب والدولة، أطلقت الجيشَ على «الحرّاس الحمر» ومع استمرار الإشادة بدورهم «الثوري»، انتهى أمر هؤلاء إلى الترحيل بالملايين من المدن التي كانوا منتشرين فيها إلى الأرياف التي شهدت نهايتهم بما هم قوّة سياسية. فيما كان المؤتمر التاسع للحزب يردّ لأجهزة هذا الأخير وظائفها ويثبّت القيادة الماويّة في سلطانها. وعلى غرار ما سبق ذكره بصدد «الوثبة الكبرى»، يتراوح العدد المقدّر لمن سقطوا في «الثورة الثقافية» ما بين بضع مئات من الألوف وبضعة ملايين وهؤلاء ضحايا ينبغي لحظُ توزّعهم ما بين «أعداء الشعب»، على اختلاف الأنواع، وبين الشيع الثورية التي دبّ بينها الشقاق.

ثبَّتت «الثورة الثقافية» الرئيس ماو وأعوانه في السلطة، إذن، ورفعت شخصه إلى مستوى من العبادة غير مسبوق. على أن هادم اللذّات وافاه سنة 1976.. وكان رئيس مجلس الوزراء شو إن لاي قد سبقه إلى الدار الآخرة بأشهر. فلم تصمد «عصابة الأربعة» بعد رحيل ماو سوى أسابيع أصبحت بعدها نزيلة السجن… حُمّلت «عصابة الأربعة» عبء المسؤولية عمّا اعتبرته السلطة الجديدة «كارثة وطنية كبرى» (وما هو غير «الثورة الثقافية البروليتارية الكبرى»). أمّا مسؤولية الرئيس ماو عن هذا الأمر الجلل فغلب ميلٌ إلى طمسها سبقت الإشارة إليه واستُبقيت صورة الرئيس عنواناً للصين الحمراء ولو ان البلاد سلكت بعده طريقاً ما كان ليرضى أن يضع فيها قدمه.

في كلّ حال، حيلَ دون دخول الصينيين في مراجعة جادّة لما جرى لهم. ولفّت العتمة أعوام الثورة الثقافية في الجامعات وفي إعلام الحزب والدولة وفي سائر المراكز ذات الصلاحية. فلم ينفذ من هذا الستار سوى أصواتٍ صينية نادرة وجدت سبيلاً إلى الساحات العامّة هنا أو هناك ، في الصين، أو نَشرت – وهذا هو الأهمّ – شهادات أو جردات بعضها مروّع تناولت الثورة الثقافية أو شخص ماو أو المرحلة الماوية كلّها. في الصين، لم يزل الصمت سائداً اليوم ولو ان أهل الخبرة يلاحظون عند الجيل الجديد من الحاكمين مَيْلاً مستجدّاً إلى نوع من ردّ الاعتبار للثورة الثقافية ويرون في هذا الميل وجهاً من وجوه مَيْلِ أوسع إلى مزيد من التضييق لهوامش الحرّية في البلاد.

أمّا ما جرى في الصين وللصين، بعد أعوام الثورة الثقافية، فقصّته طويلة ولها رواتُها. وفي القصّة عبرٌ وفيرة، لا شكّ، إذا هي رُوِيت في ضوء وقائع «الثورة الثقافية البروليتارية الكبرى» وحصائلها. وقد لا تقع هذه المهمّة على عاتق المؤرّخ العربي. ولكن الماويّ العربي – السابق أو الحالي – عليه حسابٌ نقدي يجب أن يؤدّيه. وهذا واجب لا تبطله المذابح أو المحارق الجارية بين ظهرانينا، بل هي قد تزيده إلحاحاً. ففي الثورة الثقافية نقع على جميع أبطالنا الذين نتداول ذكرهم في هذه الأيام: على الثورة نفسها وانحطاطها وتوزّعها شيعاً وعلى الجيش بما هو قوة احتياط للنظام وعلى الحزب واستحالاته وعلاقته بالدولة وعلى القيادة وسلطتها وطاقة التخريب التي ينطوي عليها جنوحها إلى الانتهازية وعلى كارزما القائد ووجودها في جهة وافتقادها في أخرى وعلى دورة العنف بين هذه الأطراف كلّها ومفاعيلها ودلالاتها إلخ.

نقف أيضاً أمام التباين الرهيب في تقدير أعداد الضحايا وبيان الوقائع، وهو مألوفٌ في المجتمعات الموصدة. وهو يشبه مثلاً (على ما بين الحالتين من تفاوت شاسع في الأبعاد) ما نعرفه من تراوح مستمرّ حتى يومنا في العدد المقدّر لضحايا مجزرة حماه سنة 1982: ما بين بضعة آلافٍ وبضع عشراتٍ من الآلاف. فوق ذلك، يحمل مصير الماويّة والثورة الثقافية على طرح السؤال الكبير عمّا يُسقِط من المخيّلة التاريخية الراهنة وجهاً وحركةً وفكراً ومصطلحاً كانت كلّها تتصدّر هذه المخيّلة في وقت غير بعيد. وما نصيب العناصر الساقطة من التسبّب بهذا السقوط وما نصيب الأطوار التي تقلّب فيها مذ ذاك أصحاب المخيّلة؟

واجب النقد هذا مستحقّ على الماويّين العرب وعلى ورثتهم من زمن طويل. والظاهر أن انهيار الحركة الشيوعية العالمية برمّتها لم يسهّل ركوب هذا المركب بل زاده عُسْراً. والنقد مستحقّ أيضاً على كلّ قادر عليه من كَتَبَتنا في هذه الأيّام أكثر ممّا كان قبلها. وقد كانت الذكرى الخمسون للثورة الثقافية مناسبة لوضعٍ الحاضر الذي هو لنا على محكّ ماضٍ هو لغيرنا. ولا يبدو أن هذه المناسبة حرّكت همماً. غير أن الأوان للقيام بهذا النوع من المهامّ لا يفوت أبداً وإن يكن تبدُّلُ السياق يبدّل كثيراً أو قليلاً من جداول الأعمال ومن التوجّهات.

كاتب لبناني

القدس العربي

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى