رستم محمودصفحات سورية

خمس صور من حياة سوري قبل الثورة


رستم محمود

كانت طريق المدرسة طويلة جدا، كانت في وسط المدينة تقريبا، وبيوتنا في الأطراف. كنا نتسلى بأي شيء في طريق عودتنا عصرا كل يوم. كنا نغني مرات ونتسابق مرات ونمتحن بعضنا البعض في حفظ جدول الضرب والإعراب أحيانا أكثر. في أحدى عصاري شباط الباردة، وكان ذلك قبل خمسة عشر عاما أو أكثر، كنت مع “ردولة السمين” في آخر قافلة الطلبة الذين كانوا يغطون الشارع الطويل، كنا نتسامر بركل حجرة ملساء اعتبرناها بمثابة كرة، حيث كان كل واحد منا يتقصد أن يصيب قدم الآخر ليوجعه، رغم الضحكات التي كانت تعلو محيا كل منا. بالصدفة، وقرب بناء فرع الأمن السياسي، رميت الحجرة بشكل قوي فاصطدمت بالباب، انفض الطلبة بشكل غريزي عن الشارع، وراحوا يراقبون عن بعد. خرج عنصر الأمن مذهولا، حيث لم يجد أمامه غير “ردولة السمين” قادما حاملا تلك الحجرة بيده، فناداه زاجرا :”هنت ألي ضربت الحجرة عالباب”. أحمرت وجنتا ردولة ورد ببراءة طفولية: “والله يا عمو بلا خبرنا انضربت الطابة بالباب” فرد العنصر حانقاً:”ولك ماتكذب كمان، شايل الحجرة بأيدك وماتقول طابة” وبدأ يمسك ردولة من شعره ويشبعه ضربا..

هرولت مسرعا لبيت ردولة لأخبر والده بما جرى. بعد أقل من دقائق كان والده يسبقني لذلك المكان. ويحاول باستماتة إخراج ردولة المدمى من بين أيدي عنصري الأمن، اللذين كانا يتناوبان على ضربه، حيث كان كل الطلبة يخرجون رؤوسهم فقط من زوايا الشارع ليتابعوا ما كان يجري، وقد كان آخر ما تلقاه ردولة، صفعات من أبيه نفسه، الذي كان يخاطب عنصر الأمن : “أنا راح قلع عيونو لو قلل أدب معكون يا سيدي”.

منذ ذلك اليوم، بتنا ننادي صديقنا باسمه الحقيقي “رادل” ولم يعد أحد في المدرسة يناديه بـ”ردولة السمين”.

كان ذلك قبل ثمانية اعوام بالضبط، انطلقت جنازة الضحايا الثلاث من جامع قاسمو، كان المشيعون يعدون بالمئات في أول الصباح. كنت أعرف الشهيد كيفارا خلف عن قرب، فقد كنا ننحدر من نفس القرية، وكانت تجمعنا لعبة كرة القدم في الساحات المغبرة التي تتوسط حيّنا المغبر، فقد كانت شقاوة الصبا تتجاوز كل شيء، ولا تعير أذناً لما كان من ماض غير حميد بين عائلتينا في القرية نفسها. حاولت دون انتباه أن اقترب من نعش كيفارا وأن المس جسده وأتغلب على خوفي الداخلي القديم من الموت والموتى، فكأنما كنت أظن، بأن معرفتي بكيفارا ستبعد عني ذلك الخوف. حين فعلت ذلك، لم يرتجف جسدي مثلما حدث حين رأيت جثة جدي قبل سنوات خلت. في تلك الاثناء صار المتجمهرون بالآلاف، لم يعد أحد يسمع صوت أحد آخر، فقد كان الكل يصرخ بصوت واحد “بالروح بالدم نفديك يا شهيد، بالروح بالدم نفديك يا شهيد”.

قبل ثمانية أعوام، سرت مع المتجمهرين لساعة أو أكثر، مطأطئ الرأس ثقيل المشي، فقط كانت شمس آذار وفرادة المشهد، تغريان بالصمت. كنت أتابع مشهد السيدات وهن يزغردن وينثرن الأرز على رؤوس المشيعين، من على الشرفات في آخر حيّ “قدور بيك” حيث كنا قد وصلنا، حينها قٌطع ريتم الصياح صوت سيارة كبيرة يعتليها رشاش كبير، ولثوان قليلة ساد صمت أجوف، ثم علا صراخ رهيب مرفق بصوت اطلاق النار الكثيف، صمت الجميع، ولم يكن من صوت سوى أنين الموجوعين الذين سقطوا في كل ناحية. حملت أحدهم وكانت اصابته في الكتف، كانت شمس آذار تلمع من فوق دمه، وفقدت حينها وجل الموت للأبد.

على بعد مئة متر من المعبر الحدودي الفاصل بين سوريا وتركيا، الواقع في مدينة القامشلي، تقف دورية للأمن الجوي دائما هناك. نعم، دورية للأمن الجوي، في ذلك المعبر الأرضي. كنا يافعين، حين كنا نذهب لذلك المكان لنراقب حافلات الحجاج الذين كانوا يعطوننا التمور وماء الزمزم. كان فاضل الأعرج جارنا، وكلما شاهدناه قادما من المعبر التركي، كان فتيان الحي يهرعون لمساعدته، فوضعه الجسدي كان يحول دون قدرته على حمل القطع الثقيلة التي يتاجر بها بين سوريا وتركيا، كعلب الزيت وأكياس الحرامات، حيث كان مجموعها لا يتجاوز عدد أصابع اليد، فهذا كان العمل الوحيد الذي يستطيع ممارسته، وسد رمق أطفاله. اقتربنا مع فاضل الأعرج من تلك الدورية، حيث خرج أبو كاظم وكرشه متثاقلين من سيارة الستيشن. أخرج دفتره الصغير من جيبه وآلته الحاسبة وبدأ يكلم فاضل: علبة الزيت بتركيا بـ800 وبالسوق بسوريا ب 1200 وانت معك علبتين، يعني ربحان 800 ليرة من الزيت، وقطعة الحرام بتركيا بـ 600 وبالسوق بسوريا بـ900 وأنت معك تلت قطع يعني ربحان 900 ليرة من الحرامات.. وفاضل يهز رأسه: نعم سيدي. يقرب أبو كاظم الدفتر الذي عليه كل الأسعار في سوريا وتركيا كل مرة من نظره وهو يراقب بضائع فاضل الأعرج، وعلب البسكوت بتركيا بـ125… وأنت… يعني ربحان… بالمجموع يا فضل أنت ربحان بالبضاعة 3825 ليرة… أيدك على ألف ليرة حبيبي. يرد فاضل بحزن: بس يا سيدي، أسيادي بدورية الأمن السياسي والامن العسكري وأمن الدولة، يقاطعه أبو كاظم: ولك حمار كم مرة بدي فهمك أنو مالنا علاقة بحدا، غير أنو نحنا ستة وغير حصة المعلم، ولك شو ما بتفهم؟ يرد فاضل الأعرج: بفهم سيدي بفهم، الله يعطيكون العافية ويقويكون.

في ذلك اليوم رفض فتيان الحيّ أخذ قطع الخبز التركي المحلى من فاضل الأعرج ككل مرة، تضامنا.

أثار صخب السيارة المسرعة التي دخلت حرم كلية الآداب بجامعة دمشق أنتباه مئات الطلبة المتجمعين في ساحة الكلية الرئيسية. خمسة أو ستة مسلحين نزلوا مسرعين وأحاطوا السيارة، حيث كانت الدهشة تلف المكان. أخرجوا رجلا مزنرا بالسلاسل من أدنى قدميه إلى قبضتي يده. كان منظرا مروعا بالنسبة للطلبة، فماذا الذي يفعله هذا الشخص في ساحة كلية الآداب. هل سيعيدون تصوير جريمة سابقة كان قد اقترفها؟!!. هل سيدلهم على مكان جريمته وسرها ؟!!. ومن بين تلك الأسئلة، غلني الفضول للاقتراب ورؤية “المجرم” المفترض. فجأة ظهرت “أم راوية” أمامي وصوت النواح يغلي بداخلها ودموعها لا تتوقف: يريدون إهانته، شايف حالة عمك سليمان، يجرجونه وكأنه مجرم، يقيدونه وكأنه خطير ومذنب كبير، يعني معتقل سياسي غلط وقال بدي أقدم امتحان بالجامعة، هل يستحق كل هذه الإهانة يا ولدي”.

وقتها، لم يكن يظهر من وجه المعارض السوري سليمان الشمر “أبو راوية” سوى حبات العرق الغزيرة التي كانت تتساقط من على جبينه الاسمر. لم أمتلك نفسي، أسرعت لاحتضانه وتقبيله: ولا يهمك ابو راوية، أنت الكبير. تعالى صراخ المسلحين وبدأوا بمدافعتي، وما كانوا لينهوها كذلك لولا احساسهم بأن الموضوع قد يحدث ضجة في الحرم الجامعي.

طوال ايام الامتحانات كانوا يأتون بالصديق سليمان شمر بتلك الطريقة، ويوما بعد آخر نشرنا قصته ودوره في الحياة السورية المعارضة، حيث كان كل مرة يزيد من رفع رأسه وتوزيع الابتسامات على زملائه الطلاب، الذين كانوا يصفقون له في قلوبهم.

– روح وقف هونيك، وانا بناديك لما بيجي دورك بالتحقيق. (مشيرا بيديه للرصيف الآخر لباب فرع الأمن السياسي).

– عفوا لو سمحت، أمبارح كمان وقفت ساعتين وما ناديتني، وآخر شي رحت، بعدين الشمس حراقة والدنيا تموز.

– والله ما حدا قالك تضيع هويتك، ليصير فيك هيك.

– طيب ما كفرنا، وهي ضاعت بدون انتباهي، في حدا بدو يدخل هيك موقف.

– عم قلك روح وقف هونيك لأناديك، البرنامج بدو يوصل لقراءة برجي اليومي وأنا بدي اسمع الراديو برواق.

– طيب اسمعو برواق، بس ممكن أعطيك رقم موبايلي ولما بيصير دوري بالتحقيق تعطيني تأشيرة لأجي مباشرة، راح أكون بمكان قريب من هون، بشي حديقة أو قهوة قريبة.

– بالله شو !!. شو رأي جنابك نطلبلك أركيلة، ولا نجيبلك مرجوحة، روح أنقلع وقف هونيك وبلا أكل خ….

– طيب يعني صار أسبوع ع هالحالة، وأنا بتلزمني الهوية منشان تجديد جواز السفر وأوراق الجامعة.

– لا تحكيلي قصة حياتك، ولا تزعجني، العمى. لو أنك طالب جامعة محترم مو حمار وبتنتبه على هويتك، ما كنت ضيعتها وتبهدلت هيك.

– طيب ليش عم بتسب.

– لأنو ما تفهمون، شعب ما بيمشي بالحضارة، شعب بدو صرماية، أنقلع.

يخرج رجل خمسيني من بوابة الفرع، يحييه الحارس الغليظ بإجلال، ألاحقه لأسأله : إذا سمحت، بتعرف حدا أسمو ابو سعيد بالفرع؟.. مسؤول قسم التحقيق بشأن الذين اضاعوا هوياتهم، أنا صارلي منتظرو أسبوع …. يرد باستغراب : نعم نعم بعرفو، بس هو بإجازة من عشرة أيام، وبدو يجي بعد خمسة أيام.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى