رفيق شاميصفحات مميزة

خواطر في الثورة السورية: -6-


الحلقة السادسة

ضحكة علي فرزات، أو ما الذي يحدث عندما تقابل إبرة بالونا منتفخا

إلى علي فرزات مع دعاء شامي قح

(الله) يكسر ديات اللي ضربك

رفيق شامي

يبالغ الألمان حين يقولون: رب صورة أفصح من الف كلمة. لكن المغزى صحيح. منذ بدء الثقافة الإنسانية كانت الصورة التعبير الأبسط للمقصود. وإذا إنتصرت الكلمة فإنما لأنها اسرع واقل تعقيدا وأكثر ديناميكية وإنتاجية. الكلمة حلت شيئا فشيئا مكان الصورة لأنها تستطيع ببراعة التعبير عن مجتمع إزداد حضارة وتعقيدا. لكن هذا الإنتصار لم يدم للأبد.

ظلت الصورة وسيلة تفاهم عالية المستوى وليس تفوق وسائل الإعلام المصورة ( والفيلم ليس إلا صورا كثيرة ) اليوم بحاجة للشرح. لماذا؟ لأن الصورة تدخل في وعي الإنسان بأقل جهد ممكن وأسرع وقت بينما القراءة تحتاج أولا للمقدرة على القراءة وثانيا للصبر والجهد وثالثا للوقت. القارئ يفحص ما يقرأه وقد يقتنع به أو لا الصورة تدخل بدون إذن للوعي، يظن المرء أنه رأى كل شيء بعينيه…وقد لا نلاحظ كل الصورة إنما نشعر بتأثيرها الإيجابي والسلبي وعلى هذه القاعدة تبني الدعاية الغربية كل صرح نجاحها… ومنذ الخمسينيات من القرن المنصرم بدأت الصورة تحتل أكثر فأكثر مساحات من وعينا. واليوم نلاحظ إستعادة الصورة زمام المبادرة وسيطرتها على أهم مقومات التواصل والذي كان يوما سبب هزيمتها منذ إنهيار النظام الهيروغليفي أمام الحروف: السرعة.

 الصورة خرجت من الظل الذي فرضته الحروف وهي اليوم اقوى وسائل الإتصال.

فكل مشاهد للأفلام الملتقطة من وسط مظاهرات الثورة السورية الرائعة يعرف أنها سلمية دون شرح طويل كما أن منظر جثة الشهيد البريء حمزة الخطيب يخرس حتى كذابة بسماجة ووقاحة بثينة شعبان.

عندما إنتقد الكثيرون علي فرزات لأنه اصدر مجلة الدومري في ظل سيادة الأسد الإبن دافعت عنه لأني  أيقنت ان النظام لن يتحمل حتى كاريكاتور مهذب. فعلي فرزات كان يضرب بيد من فولاذ ترتدي قفازا حريريا. وكنت أرجو أصدقائي أن يرسلوا لي أعداد  الدومري كلها وقد قرأتها بنهم كنت اقرا به المضحك المبكي جريدة والدي المحببة.

ما الذي حدث؟ لم يتحمل النظام رغم أجهزة مخابراته وجيوش مرتزقته ريشة علي فرزات. فهم محتواها الثائر أكثر من اصدقاء علي فرزات.

الشيء الطريف والفريد في سوريا والذي غاب عن كثيرين من اصدقاء علي فرزات ولم يغب للحظة عن أعين أعدائه، هو أن كاريكاتوره عن الديكتاتورية السورية ومرتزقتها كان بدقة صورة طبيعية بينما تحول من يرصد علي فرزات حركاتهم لكاريكاتور…لكي اشرح ما أقصد… قبل أيام شاهدت بطريقة الصدفة في اليوتوب مقابلة قديمة مع مصطفى طلاس كان فيها يكاد لا يستطيع السير لثقل جاكيته بالنياشين… فعلا كان المظهر مضحكا وكأنه دور فكاهي في فيلم. نصف متر مربع من النياشين وكأنه مهرج في سيرك. وكلنا يعرف وطلاس أول العارفين أن هذا التنك والقماش الملون على صدره لا يستطيع تمويه كل تاريخه في الجيش الذي لم يحصد سوى هزائم. أردت القول الجنرال الذي يظهر في صورعلي فرزات واقعي جدا وبشع كبشاعة كل الديكتاتوريين… والقذافي او الطالح علي صالح في كل حركاتهم ومظهرهم كانوا كاريكاتورا لصور فرزات الواقعية جدا.

لكن من أين يأتي هذا الحقد الدفين الذي أدى بحياة ناجي العلي وكاد يؤدي  بحياة علي فرزات؟

قد يفترض البعض أن السبب هو دقة الكاريكاتور وجرأته في التعبير عن الواقع المزري الذي يتحول فيه رقيب في الجيش لملياردير ونصاب آخر لصاحب كل وسائل الإتصال الهاتفي. والذي يحكم فيه وريث الجمهورية بخمسة عشر جهاز مخابرات وشبيحة وكتائب من مرتزقة الكلمة ويخاف من بيت شعر، يموت رعبا من تحليل إقتصادي يقوم به خبير بضمير. لكن الدقة والجرأة في وصف المصيبة ليست السبب الرئيسي لهذا الحقد المميت. السبب الرئيس برأيي هو قدرة علي فرزات وتوأمه الشهيد ناجي العلي على إضحاك المقهورين على قاهريهم.

يعتبر علماء النفس الضحك نوعا من الترابط / المشاركة / التحزب بين من يتكلم أو يرسم أو يمثل وبين من يستمع أو يرى. هو تعبير عن تفاهم شديد وإلا لما ضحك أحدنا…أنا لا استطيع الضحك على نكت طائفية أو عنصرية مثلا والنساء لا تضحك على النكت الساخرة من النساء إلا إذا كن قد فقدن عمودهن الفقري…

هذا النوع من الضحك الذي يسببه / يطلقه كاريكاتور علي فرزات أو حنظلة ناجي العلي أو فيلم من أفلام شارلي شابلن  يؤدي لإنتصاب القامة ورفع الجبهة وعندها يتبين للمقهورين الضاحكين قزم السلطة التي إعتقدوها إلها. علي فرزات يشبه ذلك الطفل الجريء الذي يصرخ في خرافة شهيرة: “الملك عاري” بعد أن أوهم المتملقون والإنتهازيون الملك أنه يلبس حلة فريدة من نوعها. الضحك الذي يولده كاريكاتورعلي فرزات ليس ذلك الضحك الأبله على نكت يرويها بعضهم دون توقف أو أفلام دريد لحام وإسماعيل ياسين التي تسبب القهقهة الغبية كصدى لفراغ في المخ.

أتذكر لليوم كاريكاتورمن سلسلة حنظلة  لناجي العلي عن سوريا إبان ديكتاتورية الأب وصراعه مع الإخوان المسلمين يقول سجين لآخر على ما أتذكر: أنا مسيحي لكن بعد ما عذبوني أقريت أني إخوان مسلمين. مصطفى خليفة يروي عذابه كمسيحي متهم بالعمل مع الإخوان في روايته “القوقعة” شبه الوثائقية وكأنه وضع صورة ناجي علي قبالة عينيه أثناء الكتابة.

هذا الضحك الذي يفجره كاريكاتور علي فرزات يجرح الديكتاتورية لأنه يصيبها في موقع ضعفها…يظهرها كقزم كذاب وعديم الأخلاق كأي أزعر سوقي وبذلك يمزق هالة القدسية التي تعب في بنائها آلاف العبيد الثقافيين والإعلاميين… هذا أحد اهم أسباب الحقد. فالديكتاتور يصدق كذبته ويعتقد فعلا أن شعبه بهائم تشبه البشر. وأنه خليفة لفرعون…هكذا كان صدام حسين الفاشل يدعي أنه يفهم في علم الذرة والرواية والإستراتيجية العسكرية وهو حقير تعيس من أسفل حفرات الشقاء…لابل نظم له بعض عديمي الشرف قصائد تؤلهه…وهاهم شبيحة الأسد يهتفون بهستيرية المشعوذين: الله، سوريا، بشار وبس، ومطرح ما بتدوس بدنا نبوس، ويأتي علي فرزات ليبين وبصورة واحدة أن هذا الديكتاتور ليس سوى لعبة أو جزء من آلة الإغتصاب وبالنهاية قزم لا تقوم له قائمة دون الديكتاتورية الأكبر منه والتي تحركه كدمية…

الحكام يتضايقون من الكاريكاتور والأدب الساخر أكثر من التحليل العلمي لأنهم يأملون دوما ألا يفهم غالبية الشعب تلك الكتب الرائعة لكونها معقدة. وحتى في الديمقراطية الغربية لا يتحمل بعضهم كاريكاتور ظهر ليوم واحد في جريدة، فيقاضي الوزراء والحكام الفنانين هنا أمام محاكم نزيهة. غالبا يخسر الحكام لأن حرية التعبير عالية المكانة في المجتمع الديمقراطي دون إسقاط حق كل إنسان أن يتهم فنانا أو كاتبا ما انه جرح شعوره أو أهان كرامته.

هذا الضحك أسرع تأثيرا من مقالات دون ان يكون بديل عنها. اسرع لأنه يمس العقل والقلب معا، لأنه يحرض دون أن يقول ذلك. لأنه يدفع للضحك حتى المرير منه، يحرض العبيد ليرفعوا جبهتم، يحرض المنهوبين ضد لصوص ذوي النفوس الدنيئة والذين سيهربون بأموال الشعب كما فعل مخلوف والشلاح ورفعت الأسد وغيرهم. هذا الضحك خطير جدا. إنه الإبرة التي تلاقي بالونا منتفخا لتفضح بعد أول تماس عدمية البالون.

…إذا أراد علي فرزات، أروع إبرة سورية، نصحيتي فهي أن يختفي بأسرع وقت ممكن ويطلق كاريكاتوره ضحكة مجلجلة إلى سوريا البطلة الصابرة والشجاعة.

أيلول 2011

يتبع

خاص – صفحات سورية –

أي نشر أو اعادة نشر لهذا المقال يجب الاشارة فيه إلى المصدر: صفحات سورية

كل الحقوق محفوظ للكاتب ولصفحات سورية.

يحيي كاتب هذه الأسطر أي نسخ وإعادة طباعة هذه الخواطر في أية صحيفة، طبعا بأمانة مهنية مع الإشارة إلى المصدر، لكنه لا يعترف على اية منها إنما على الأصل الذي ينشر دوما في صفحات سورية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى