رفيق شاميصفحات مميزة

خواطر في الثورة السورية -7-

 الثورة السلمية بين مطبي المسالمة والعسكرة 

رفيق شامي

سرني أيما سرور انتهاء الفوضى وإصدار البيان الذي طال انتظارنا له عن المجلس الوطني. وتأثرت جداً وأنا أرى برهان غليون يلقي بصوته المتعب والمليء بالهموم كلمات تبث الشجاعة وتنبذ الشك عن أوصال المستمعين أينما كانوا.

أكثر ما أعجبني هو إدراك المجلس العميق لواجبات الساعة وإيمانه بمصداقية برهان غليون ودوره الهام في هذه اللحظات التاريخية.

الفرد له، على عكس ما يظنه بعض المتمركسين، دور حساس، وحتى الصراع الطبقي ليس إلا حصيلة لصراع أفراد. برهان غليون قبل المهمة هذه بشجاعة اليائس، فعمله في المرحلة الانتقالية من أصعب الأعمال في التاريخ وهو كالرقص على حبل دون شبكة أمان، خطوة صغيرة في الاتجاه الخاطئ تكفي لدق عنقه سياسيا أو جسديا.

هناك برأيي خاصة فريدة وخطيرة بذات الوقت للثورة السورية وهي: هذه الثورة جديدة بكل خطوة من خطواتها من يوم فجرها أطفال درعا وحتى اليوم، فليس لدينا تاريخيا مثال نحتذي به ولا مراجع سوى التطور الآني وقراءته واكتشاف الخطوة المستقبلية الواجبة باستقراء عقلاني للمعطيات.  ما العمل إذا؟ الواجب الآني يفرض علينا جميعا ألا ننتظر حتى يصيب المجلس أو يخطأ بل أن نرفع عبر وسائل الاتصال الحديثة من درجة تعاوننا مع هذا المجلس…نضع بين يديه وبكل تواضع ما يتوصل إليه فكرنا. هكذا وهكذا فقط يمكن للمجلس أن يتحاشى أكبر عدد من الأخطاء.

يصعب علي كقارئ هضم موقف بعض المثقفين ( من معارضة الداخل والمنفى)  المتبجح والممسك بالحقيقة “من ذنبها” فكيف على الثوار وعلى المجلس الوطني أن يأخذ نقدهم بجدية؟ ما اقترحه على هؤلاء لشفقتي بحالتهم المزرية أن هذه الثورة التي إنطلقت دونهم (في الداخل) ودوننا ( في المنفى) تعلم التواضع ونسيان الذات في كل ما نعمله.

المجلس الوطني هو أعلى سلطة للثورة وهو ليس فقط وجهها بل عليه أن يكون في المستقبل القريب عقلها وأن يتخذ القرارات التي تتقدم بالثورة باتجاه واضح. وأول تلك القرارات هو موقف واضح من تصرف العسكريين الفارين من الجيش.

يزداد عدد أفراد الجيش من مجندين وضباط صف وضباط الذين يرفضون البقاء في جيش حرفت السلطة واجبه من مكافحة الأعداء ( والتي لم يقم بها الجيش السوري منذ عام 1973) إلى مكافحة بنات وأبناء الوطن. وقد صرح الكثيرون منهم أمام الكاميرا بما يعرفه كل سوري منذ زمن أن هذا الجيش الذي جبن على مواجهة العدو الصهيوني يهاجم خاصة بوحداته (الفرقة الرابعة مثلا)  المجهزة بأفضل الأسلحة المدنيين العزل بوحشية لا تفوقها وحشية.

وتدعو غالبية الضباط والجنود عبر الإعلام للمقاومة المسلحة. ويبرر اغلبهم ذلك بضرورة الرد على بطش الآلة الدموية للمخابرات والشبيحة والفرق الدموية التي لم تتعلم سوى الحفاظ على النظام حتى ولو كان الثمن الوطن ووحدته وسلامة مواطنيه. وهذه الدعوة تبدو وكأنها منطقية وعقلانية وردد الكثيرون مبدأ “السن بالسن والعين بالعين والبادئ أظلم”

لكن هذه الدعوة للمقاومة المسلحة خطيرة جدا، وخطأ كهذا قد يدق عنق الثورة. لماذا؟ ليس لأن أغلب المجندين والضباط لا يفقهون إلا القليل من السياسة، ناهيك عن الثورة أو آلية الثورة المضادة. شجعان، نعم، لكن الشجاع ليس بالضرورة ان يكون حكيما. فهم بمثل هذه الدعوات قد يبلغوا درجة من الحمق مؤذية لهم وللثورة وكأن النظام الذي هربوا منه قد استأجر لسانهم دون إرادتهم.

الرد العسكري بمجموعات منفصلة كبيرة كانت أو صغيرة غير متكافئة بالأسلحة والتنظيم هو نوع من الانتحار ولا يصل إلا إلى نتيجة واحدة: تقديم انتصارات سهلة وصغيرة كهدية للنظام تؤدي بمجملها لإحباط وليس لتقدم الثورة. إنها تأكيد لذريعة المافيا المهيمنة أن هناك من يطلق النار لذلك تهدم قوات ماهر الأسد البيوت فوق رؤوس سكانها الأبرياء. من يقول بعد هذا أنه لم يدر ولم يقدر عواقب رفع السلاح في وجه السلطة فهو واحد من ثلاثة: مغامر طائش (سواء عن يأس شخصي أم حبا بالمغامرة العسكرية)، أو عميل للسلطة يمثل دور العسكري الشريف المستعد لتقديم نفسه كبش فداء على مذبحة النظام، أو وهذا أفضل الإمكانيات غبي لا يدري ما يفعل.

التمرد على السلطة ورفض المشاركة في ذبح الشعب بطولة ولا يحق لمن يقوم بها رغم الإعجاب ببطولته أن يحولها لسكين على رقبة الثوار.

وهنا بالضبط يأتي دور كلمة فاصلة واضحة للمجلس الوطني يوجهها للجنود والضباط طالبا منهم إلقاء السلاح إلى الجحيم والهرب ليعلنوا للملأ سبب هروبهم… وأن هذا الهروب من اقتراف جريمة بحق الإنسانية بطولة كفاية… ولا يحق لأي كان، مهما كان عذره أن يرفع السلاح دون أمر من المجلس الوطني. بهذا وبهذا فقط يحبط المجلس أية محاولة لجر الثورة إلى مذبحة الحرب الأهلية.

ومن واجبات المجلس أن يساعد هؤلاء الشرفاء على حماية أنفسهم. لكي لا يتعرضوا للاعتقال والخطف كما حدث للمقدم هرموش وللبطل أحمد البياسي الذي فضح النظام  ولشاعر ومنشد الثورة إبراهيم القاشوش الذي ستخلد سوريا المستقبل اسمه…

العصيان المدني ونبذ الخوف في مواجهة مخابرات السلطة وشبيحتها هو أفضل وجه للثورة السلمية السورية والتي ليس لها مثيل في التاريخ…وهي ثورة سلمية وليست مسالمة كبعض ممثلي أحزاب المعارضة وهي ليست عسكرية كما يريدها بعض الضباط والجنود. الثورة السلمية هي القمة الآمنة بين مطبي المسالمة من جهة والعسكرة من جهة أخرى.

أحبط الفيتو الروسي الصيني همة عدد من الأصدقاء، لكن هذا الإحباط غير مبرر. فالسوريون قطعوا مسافة بطولية لمدة ستة أشهر الحقوا فيها دون مساعدة أحد هزائم كبيرة بالنظام، الذي، وعلى عادته، يحول كل منها لنصر له على شاكلة انتصاراته وصموده، وجبهة رفضه وممانعته.

رغم معرفتي بأسباب امتناع القيادات السياسية في روسيا والصين وكوبا وفنزويلا من الوقوف مع أية ثورة في المنطقة واحتقاري الشديد لتبريرات هذه الأنظمة، لا بد لي من نظرة نقدية لمواقفنا نحن تجاه التطورات في بلدنا الحبيب، وأنا أعتقد أن غياب قيادة موحدة للثورة قد أعاق كثيرا اعتراف العالم بهذه الثورة البطلة. ليست المسألة أن نكون فقط أصحاب حق بل المسألة أن نقنع الآخرين بهذا الحق. ألم نتعلم بما فيه الكفاية من مصيبة ومأساة الشعب الفلسطيني؟

يكرر لي أحد الزملاء، وهو مسيحي مثلي، مخاوفه من استلام الإخوان المسلمين زمام السلطة في سوريا وتنكيلهم بالأقليات الدينية. ولا يجتر هذا الزميل، مع احترامي لأبحاثه العلمية، إلا مقولة النظام التي ما زال يكررها منذ أربعين سنة. “أما أنا أو الفوضى” وكأن الفوضى الوحشية التي سيطرت على البلاد و نهبت العباد يمكن أن يفوقها فوضى. “إما أنا أو بحر من الدماء” وكأن دماء الأبرياء  التي سالت وتسيل أنهارا منذ أربعين سنة في سوريا قد أهرقها عدو من كوكب آخر في جزر الواق واق.. “إما أنا أو الإخوان” والجواب الصحيح لا أنت ولا الإخوان بل هو الشعب السوري الذي يقرر والذي سيصعب على أي حاكم أن يركعه بعد كل هؤلاء الشهداء.

وأنا لا أخشى الإخوان لأنهم في طريق الزوال فليس لأي حزب مبرر تاريخي إن لم يمتلك البرنامج القادر على تقدم المجتمع… هرم الأحزاب وزوالها بعد صعودها شيء طبيعي تعيشه كل البلدان الديمقراطية…قد يبدو حزب الإخوان الآن وهو في صفوف المعارضة وبدعم من السعودية وأردوغان  أكبر من حجمه…لكن هذا لا يعمي البصر عن فشل الإخوان في أربعين سنة في وضع برنامج يخرج سوريا من الأزمة… وإلى هذه اللحظة لم يسعدني الإخوان بطرح أي حل لكل مشاكل سوريا الاقتصادية والسياسية لا محليا ولا دوليا. الكلام البراق الفضفاض والواعد قد ينفع حزب ما في مرحلة معارضة للحكم لكنه ينهار فورا متى طلب منه حلا واقعيا لمشكلة البطالة، لمشكلة سيطرة الصين شيئا فشيئا على الأسواق العالمية، للصراع العربي الإسرائيلي، لمشكلة التضخم المالي، لموقفهم المتذبذب من الغرب والشرق، لمسألة المرأة، لمسألة حق أي سوري أن يتبوأ أي منصب مهما كان دينه…إلخ، أين أجوبتهم الواقعية؟

الإخوان لم يتجرأوا، مثلهم مثل النظام، إلى اللحظة هذه أن يعترفوا بأن رفعهم للسلاح في الثمانيات من القرن المنصرم، (حتى ولو كان الإسلامويون يدعون أنفسهم الطليعة المقاتلة…فهم بالنهاية من صفوف الإخوان) كان كارثة على الوطن، ولا هم اعتذروا لذوي آلاف الشهداء الأبرياء.

طبعا سأكون أول من يوافق على تأسيس كل الأحزاب بما فيها حزب للإخوان وللقوميين وللبعثيين والليبراليين ولعشاق الياسمين وللصوفيين وللشبيبة الثورية …لماذا لا؟ لكن هذا الحزب عليه ككل الأحزاب تأكيد موافقته واحترامه للدولة الديمقراطية ودستورها ومبادئها وأولها تساوي المواطنين أمام القانون دون أخذ الانتماء الثقافي والديني للمواطن بعين الاعتبار. وأن يوافق على أن أية إهانة لمعتقدات الآخرين ستلاحق بالقانون وأخيرا وليس آخرا تقديم بيان واضح عن تمويل هذا الحزب.

بهذا الشكل لن تتعدى نسبة أصوات الإخوان المسلمين في أول انتخابات 15% وفي الانتخابات الثانية 10% وهكذا دواليك… وبالتالي فهم كتلة من كتل هذا المجتمع السياسية ويمكن العيش معهم كباقي الأحزاب.

يتبع

خاص – صفحات سورية –

أي نشر أو اعادة نشر لهذا المقال يجب الاشارة فيه إلى المصدر: صفحات سورية

كل الحقوق محفوظ للكاتب ولصفحات سورية.

يحيي كاتب هذه الأسطر أي نسخ وإعادة طباعة هذه الخواطر في أية صحيفة، طبعا بأمانة مهنية مع الإشارة إلى المصدر، لكنه لا يعترف على اية منها إنما على الأصل الذي ينشر دوما في صفحات سورية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى