حسام موصلليصفحات المستقبل

خواطر في المجزرة/ حسام موصللي

بعد كارثة تشيرنوبيل، أثبتت الطبيعة قدرتها على النهوض من جديد بدون أي تدخل بشري. بل حدث أن معدلات النمو الطبيعية ارتفعت أكثر مما كانت عليه، ليصبح المكان محمية طبيعية تحوي في داخلها أنواعاً كانت قبلُ مهددة بالانقراض بفعل الممارسات البشرية. أما الإشعاعات التي لا تزال موجودة في التربة، فلم تعد تشكل أكثر من جدار عازل مهمته حماية المنطقة من تدخل الإنسان مرةً أخرى.

* * *

بينما كنت اقرأ بعضاً من تعليقات المؤيدين والشبّيحة حول مجزرة الكيميائي في الغوطة- وهي لم تخرج عن إطار “هذه المجزرة تمثلني”- تذكرتُ لاعب كرة القدم السويدي زلاتان إبرهيموفيتش لأدرِكَ الشبه الهائل بيني وبينه. زلاتان أيضاً، وبعدما فعلَ كلّ ما يستلزمه الأمر من فرد كي يرفع كأس العالم، يستطيع أن يلقي بكامل اللوم على وطنه الذي حرمه حلمه، بعدما جعل معه في الفريق نفسه أفراداً آخرين سقفهم أن ينالوا ميداليات برونزية في دوري الحارات للمبتدئين في حال وقوف دعاء الأمهات إلى جانبهم.

– صدى: إحدى العبارات التي ترد على لسان العميل سميث في فيلم “ماتريكس”: “البشر فيروسات، وسرطان هذا الكوكب”.

* * *

المجزرة أيضاً موسم وفير لشعراء العالم الافتراضي الذين باتوا اليوم أكثر من اللون الأزرق على صفحة الـ”فايسبوك” الرئيسية: هذا يكتب عن القيامة، فيردّ آخر بقصيدة عن الخلود، ومن ثم يأتي ثالث من العدم ليتحدث عن العدم، ثم يتلاشى في العدم… هكذا إلى أن يخلد الأول إلى الـ”أوف لاين”، فتتوقف العجلة التي ستتابع دورانها في اليوم التالي. في هذا الشأن يقول الكاتب والصديق خلف علي الخلف في إحدى مقالاته بعنوان “نانسي عجرم وشعراء الحداثة”: “يمكن الشاعر الحديث أن ترافقه راقصة بجوار المنبر وهو يلقي شعره، أو أن يصوّر فيديو كليب مع بعض الحسنوات لبعض قصائده وينزلها في سي دي. وكاقتراح مثلاً، عندما يقول: النمل يحفر جمجمتي ليلد الضوء ويعود متناثراً، تكون الكاميرا تنقل صورة لجمل يركل علبة بيبسي كولا، وتركض أمامه حسناء بلباس البحر، في دلالة على لا برهانية المعنى الذي يحسه الشاعر”.

يمكن الجميع أن يكتب عن المجزرة. البعض يعبّر ببساطة شديدة. فعلى سبيل المثال: “البارحة، تحت الشمس نفسها، وفوق التراب نفسه، كنا نتشارك الأوكسيجين مع ألف آخرين، واليوم باتت حصتهم من نصيبنا. إذاً فلنعطهم حصتهم من الذاكرة في كل شهيق”. وقد يأتي آخر أكثر تعقيداً وغُلُوّاً في اللغة فيقول: “يسقط في المجزرة ألف، وتسقط في اليوم مجزرة. هذه المعادلة تقول بأن اليوم قد أصبح بمجزرة مما تعدّون، تلك إذاً قسمة ضيزى. رُفعَت الإنسانية، وجفت المآقي”.

إلا أن كلاماً يُقال في حضرة المجزرة لا يمكن إدراجه في خانة الألم مهما كُسرَت حُروفه. الكل يكتب عن المجزرة، ولكن أحداً ما لم يستطع وصفها. ربما لأن ما كُتب ليس سوى مبادرة فردية من صاحبه لينفي عن نفسه الشبهة بأن مشاعر الحزن لديه قد ماتت أيضاً، فيحاول بما يكتب أن يظهر للآخرين أن لحظات حزنه قد نجت من الوأد في العراء بعدما مَرَّت المجزرة الأولى بسلام. لكن ذلك في أحسن الأحوال لن يتعدّى أكثر من محاولة إنعاش عابثة أشبه بعملية تنفس اصطناعي يُجريها ممرض مبتدئ لمصاب برصاصة في الرأس.

* * *

بدأت أميل إلى متابعة “ناشيونال جيوغرافيك” أكثر من أي قناة أخرى. ذلك لأنها الوحيدة التي لا يفرض فيها المالك رأيه على المشاهد عندما يتعلق الأمر بالمعارك التي تخوضها الحيوانات. لكنني في كل مرة أرغب أن أراقب سلوك الطرف الآخر، أتوجه مباشرة إلى “الخبر” وهي إذاعة تلفزيونية تميل الى دعم الأسد ونظامه. بعدما تابعتها أياما عدة متواصلة، بدأت أفكر جدياً في التعرف إلى القائمين على البث فيها. أما السبب فهو الدقائق الخمس المقبلة: بثت القناة منذ أيام خبراً تتهم فيه ماجدة الرومي ضمنياً بالعمالة لآل خليفة في البحرين، وبعد ذلك أتبعتهُ بخبر آخر ينتقد تصريحات صدرت عن إليسا حول التفجير الذي هزّ الضاحية الجنوبية، ومن ثم أوردت خبراً ثالثاً مفاده أن مغنّي “هيب هوب” ألمانياً وصل إلى سوريا وانضم إلى “جبهة النصرة”، والأهم بين كل ما سبق أن الخلفية الصوتية لهذه الأخبار كانت أغنية “ما حدا بيعبّي مطرحك بقلبي”!

* * *

لا يمر يوم من دون أن تغادرني بضع دمعات من الحنين إلى سوريا. لكن هذا الشعور لم يتملكني بهذه القسوة قبل أول اشتباك بين الجيش و”الإخوان” قرب منزلي في الاسكندرية، لتبدأ الصور باجتياح مخيلتي من كل مكان في وطني. لم أتذكر منه سوى القصف والخراب والموت، ربما لأنني لم أكن أعرفه قبل أن أراه مدمراً. ما دفع بي دونما تفكير نحو النافذة، كان صوتاً لرصاصة قناص لم أستطيع تمييزها حتى في أعتى الاشتباكات. أذهلني جداً ما سمعت. فلطالما اعتقدتُ أن القنّاص شأنٌ سوري داخلي فقط. أما الآن، فلم نعد نحتكره بعدما أصبح لدى المصريين قناص أيضاً.

* * *

بينما كنت أتجول في صفحات الـ”فايسبوك” متفقداً أخبار من لم تلتهمهم القذائف أو أقبية السجون بعد، قرأتُ تعليقاً لفتاة على صفحة أحد الأصدقاء. لا أذكر ما كتبته تلك الجميلة، بل للأمانة، لا أذكر أنني قد قرأت حرفاً أبعد من اسمها الأزرق. كان كلّ ما فعلتُه هو الضغط على صورتها بسرعة كبيرة خوفاً من أن أفقدها في زحمة التحديث التلقائي للصفحة. الحقيقة أنني كنت أبحث عن مَهربٍ يأخذ بي بعيداً ولو للحظة عن صوت تلك الطفلة التي كانت تنادي “عمو أنا عايشة”. لا ازال حتى اللحظة أفكر في ماهية اللامكان الذي كانت عيناها تنظران إليه بخوف، ثم تسأل الطبيب الى جانبها: “عمو أنا بالجنة؟”. هل الجنة مخيفة إلى هذا الحد؟ أنهى المتصفح تحميل صفحة الشخصية لتلك الفتاة الغريبة. نظرتُ في البداية إلى عدد الأصدقاء المشتركين، ثم أرسلت إليها: “أليس غريباً ألا أكون قد رأيتكِ من قبل مع أن ما بيننا يزيد على مئة وسبعة وعشرين شعاراً للسلاح الكيميائي؟!”.

 كاتب سوري

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى