صفحات الثقافة

خوان بلا أرض، خوان لكل السماوات/ عبد اللطيف عدنان

 

 

في البداية كانت الدهشة. عتبة الاكتشاف والقرار الحاسم أمام التردد: هل الرجوع للمكتسب، المستأنس به والممتلك، أم دفع الباب بكل قوة والدخول دون شرط الاستعداد. الاكتشاف هو كذلك طقس مقارنة بين عالمين حتما تتحول هذه المقارنة لصراع. من سيلغي الآخر؟ ما هو موجود وما فات، أو الذي ها هنا وما هو آت؟ لكن الاكتشاف قد يرسو على نتيجة مخالفة: رغبة البحث المستمر عن الدهشة الأولى. الاكتشاف من هذا النوع يخلص لمنطق النسبي الذي يلغي كل المطلقات ويتأبط السؤال كعدة وحيدة وعتاد لا ضمانة لمفعوله. إنها دهشة الدخول لعالم غويتيسولو الأدبي، العالم الأرضي الذي يتجول فيه ملاك مطرود من الفردوس. إسبانيا السقوط من الفردوس. إسبانيا الفردوس المفقود. ملاك مقبرة. 

سنين مرت، تغيرت ملامح القارات وأعيد النظر في عدة قرارات، وذلك اليوم لا زال يصرُّ بزمنيته على الذاكرة، يوم اكتشاف خوان غويتيسولو غير الذي تكتب عنه الملاحق الثقافية في جريدة أنوال أو الاتحاد الاشتراكي. خوان بلغته. أو خوان بلغتي داخل لغته بلكنته وكلامه الخاص.

حين فتح طالب السنة الأولى في الأدب الإسباني تلك الرواية المعنونة بكلمة عربية مقبرة Makbara، وقرأ عتبة الإهداء التي تقول “إلى من ألهموا كتابتها ولم يقرأوها”، لم يسأل من هم؟ أو هل هو أحدهم؟ قلَّب الصفحة، لم يأبه بعتبة أخرى منسوبة لكارل ماركس، ولا بالمقطع الرباعي لشكسبير المكتوب بلغة لا يعرفها.

انجذبت عيناه مباشرة لجملة مكتوبة بالخط العربي: “مثل الريح في الشبكة”.

لحظتها اكتشف من هم وقرر أن يكون منهم. أن يكون أحدهم. من العتبات يدخل الشاب إلى عوالم لن يخرج منها أبدا: الكتابة، كريح يعبر دون أمل في حائط يتوقَّف عنده. الكتابة، كفخٍّ لاصطياد الرياح.

كان الشاب في روتين الخلوة على سطح بيت داخل حي سكني قام بقدرة الرغبة في البقاء على هضبة، كانت تحمل اسم جبل الزعفران، أيام استوطن فيها أول موريسكي، وبنى مسجده الأول، وحفر في الهضبة أول قبر أعاد الدفن فيه لوليِّه الصالح المستقدم في تابوته من قرطبة أو المرية، علَّها يبصم إسلاميته أخيرًا.

كان يقرأ مقبرة ويشاهد المقبرة أمامه تتلاشى لحودها في تضاريس ساحل المحيط الصخري. بنفس الشكل وعلى نفس الوثيرة كان هذا التمرين المدرسي المبتذل في البحث عن خيوط يقبض بها أركان حكاية ما ويجمع أطرافها بما يرمم معنى ما لديه، يتلاشى في حذر انبهار غريب ومغترب بمقاطع جملها لا تبدأ لكيلا تنتهي؛ كلماتها الأولى لا تبدأ بحرف التاج؛ فقيرة إلى رحمة العلامات الترقيمية.

مفردات من العامية المغربية مستنسخة صوتيًا بإسبانية غريبة عليه. خاءاتها تتحول إلى “X”. فصول معنونة كذلك بالعربية والإنكليزية والفرنسية. منطق غير الذي اعتاده يحرك الكلمات نحو بعضها بعض يُجاور عناوين “دار الدباغ” و”راديو ليبيرتي”. سارد يستطرد في كلامه كأي حلايقي من “جامع لفنا”.. إلى أن يستوقفه عنوان الفصل الذي يصل فيه بطل الرواية الغريب عن كل الأبطال السابقين، الملاك المطرود من الجنة، إلى حي يحمل اسم لوبيرة، اسم الحي الذي يسكن فيه. الاسم الذي تعبر به إسبانيا إلى الموريسكي الذي يستوطنه.

يدخل الملاك المطرود مدينة الرباط العتيقة عبر “باب العلو” إحدى بواباتها في جانب السور الغربي، وكأنه كان قادمًا من “حي المحيط” أو ربما من ماضيه الإسباني حين كان يسمَّى “كوارتو لوثييانو”. يمرُّ عبر نفس مكتب البريد، يقطع الرصيف المعج بكل حركات رصيف يجمع المقاهي والدكاكين من كل اختصاص، من بائع الصوف إلى بائع السجائر. في الصفحات البيضاء يشتمُّ رائحة الخبر الطري من كلمة المخبزة، يزيل ملح الشاطئ الصيفي بوصف النافورة قرب بوابة المقبرة، يشتغل كحارس الدراجات في نظرة الملاك المطرود للمصطفين بجانب حائط مكتب الخدمة العسكرية، يتلصص من شق الباب الحديدي على المشاهد والمشاهدين معا في “سينما سطار” وهي مطبوعة بكل جمال حروفها السوداء على بياض الورقة. الملاك يمرُّ، وينعت له سكان الحي بكلامهم المألوف “راه راه.. حدا الحانوت د الدخان.. ما كَتْشوفش.. جلابة جديدة..” يتعرَّف الشاب على من ينعت، بنبرة صوته بالدارجة، يتعرَّف عليه داخل هذه الإسبانية التي كتبت كلماته وهو ينعت..

كل الحي كان هناك.. صار يقرأ وجوده بالحواس الخمس.. حيطانه البيضاء.. أطفاله وهم يركضون بين القبور المرمرية المصممة بعناية على الطراز الأندلسي.. أنغام موسيقى مجموعة “جيل جيلالة”.. رائحة الحريرة القادمة من “مطعم الدغمي”.. وثنائي من القوات المساعدة في روتين مراقبتها اليومي. داخل فصل الرواية، المعنون بمقبرة بحرية Cementerio Marino، كان الشاب. في فعل حاضر كامل. اكتشف ذاته المكتوبة سنوات قبل أن يقرأ قصتي كتاب الرمال والألف.

سنوات قبل باشلار والبيت الأول، قبل إيكو ونظرية استجابة القارئ. فقط الملاك والدهشة والسحر.

في نفس محل بيع السجائر الذي جاء ذكره في فصل الرواية، طلب الشاب نسخًا متعددة من “المقبرة البحرية”، ألح صاحب المحل على الاحتفاظ بإحداها هو الآخر. فقد أجزم وأقسم بأنه يتذكر الكاتب حين توقف عنده وابتاع علبة سجائر من صنف التبغ الأسود، ولم لا؟ من في المغرب، من مراكش إلى وزان لا يعرف خوان غويتيسولو. وزَّع الشاب النسخ على دائرة الأصدقاء الذين اعتاد الجلوس معهم في مقهى “دارنا”، لتتحول إلى وثائق تاريخية ثمينة. ورغم أن لا أحد منهم يتكلم أو يقرأ الإسبانية، إلا كلمات التي بقيت عالقة في دارج لسان أهل الرباط مثل كلمتي “كتري” أو “الشليا”، أو تسربت للعامية ككلمة “سيمانا”، لم يقف جهلهم باللغة عقبة في البحث عن الكلمات العامية داخل سطور الفصل، ليكون العثور عليها فتحًا ونصرًا لا حد لنشوته. كانت الاستنساخات الصوتية تلك الفرصة الوحيدة لبعضهم لقراءة مخطوط بلغة أجنبية.

خبأ كل منهم الأوراق بعناية تامة في جيبه. وشكروا الشاب على مشاركتهم هذا الاكتشاف. الاكتشاف “الغربي لذواتهم”. منهم من قدَّم نسخة منها لعشيقته. منهم من بعثها لأخيه في أميركا. ومنهم عرضها لسائح إسباني جذبته المقبرة التي تصب الأموات في البحر. في بعض المناسبات يطلب أحدهم من الشاب إعادة رواية حكاية الملاك المطرود بعد ذكر العنوان منطوقًا بالإسبانية، فينخرط الشاب في  درجنة مضمون الفصل بين وقفات متزامنة مع رشفات من فنجان القهوة “نص نص”.

من فضاء الحلقة جاءت مقبرة، وإلى فضاء الحلقة تعود.

جرت مياه كثيرة في البحر، وبين قارَّتين. والشاب ما زال يعاود قراءة فصل “المقبرة البحرية” من رواية Makbara. لا لكي يبحث فيه عن مشهد آخر في مسرح الصراع بين الغرب والإسلام، يمنح ثرثرات أخرى في الهنا والهناك تدعِّم قوائم كرسيه في جامعة أميركية. لا لكي يخوض في لوي معادلات باردة عن التعالق النصي بين الشاعر بول فاليري وخوان غويتيسولو من خلال عنوان المقبرة البحرية. وإنما ليسترجع حرارة الاكتشاف الأول. لذة نص متوقد لا يريد أن يطفئ لهيبه في ثلج تمرين في مقارنات الأدب المقارن. سحر فضل أن يبقى رهين مخيال أدبي يمتد في قماشة يشد أطرافها عبد الفتاح كيليطو من جهة وبول بولز مع محمد لمرابط من جهة أخرى.

يحكي بورخيس أنه كان يعيد قراءة دون كيخوته فقط ليعيش لحظات من طفولته. دافع مقنع لكي يعاود قراءة “مقبرة”. لكي يخترق مع الملاك المطرود فضاءات الفردوس المفقود. قراءة من داخل معادلة الريح في الشبكة.

ضد الإنتلجينسيا

في كتاب “القوس والقيثارة” يعرف أوكتافيو باث، الرواية كملحمة صراع مجتمع ما مع ذاته. تعريف ينضاف إليه المعنى الذي تحمله كلمة رواية في أصلها اللاتيني novela، بمعنى حاملة للجديد، ليصف مشروع خوان غويتسولو الروائي داخل سياق الرواية الإسبانية خصوصًا والغربية عمومًا كهذا الكاتب الذي يبني عوالمه الروائية على أوجه الصراع الثقافية والإيديولوجية داخل مجتمعه الإقليمي والدولي.

في هذا المشروع ينطلق غويتيسولو من وعيه التام بخصوصية الأرضية الثقافية التي يشتغل فيها، وهي التجربة التاريخية الخاصة بشبه الجزيرة الإيبيرية وانعكاساتها في الحاضر، بأوجه التلاقي والتقاطع فيه وبه مع سياقها الغربي عمومًا. فإسبانيا تشكِّل هذا المسرح الحضاري الإشكالي الذي ما زال الماضي يحدد، بشكل واع وغير واع، مسار الحاضر فيه. غويتيسولو يصف مشروعه الفكري الإبداعي “كعملية تحليل نفسي وطني” تتجاوز البعد التزامني للأعراض، على المستوى الواقعي الآني، إلى جذورها التعاقبية في التجربة التاريخية الإسبانية. يعي كذلك قوة التجاذب والانصهاره بينه كذات إسبانية، ومشروعه كموضوعة إسبانية. لهذا ينبِّه في كتاب يوميات شرقية  Crónicas Sarracinas، والذي يشمل باقة من النقد الذاتي، خص به الكاتب أهم متونه في هذا المشروع، روايتي دون خوليان ومقبرة، لأزمة المسافة بين الذات الكاتبة والموضوع، حين يتعلق الأمر بسياق  ثقافي كالإسباني، لا يمكن أن يكون أي كاتب فيه محايدًا أو بريئًا، ويستحيل أن يتصرف فيه انطلاقًا من معايير جد موضوعية بغض النظر عن الحقل الثقافي الذي ينتمي إليه. فهذا الكاتب، شاء أم أبى، يعيش في عالم تسكنه أشباح وأساطير تراكمت قرنا بعد قرن لتنتهي هذا السمك الميثولوجي الصّلد الذي تتدعَّمُ به الأرضية الخلفية للفكر الجماعي. تنبيه غويتيسولو ينسحب على أي سياق سوسيو ثقافي، وبالأخص هذا السياق الذي كان أحد الجنود المدافعين عن قضاياه، وأقصد السياق الثقافي العربي، المقابل الأكثر شبها بسياق غويتيسولو الإسباني.

أن تكتب في إسبانيا، من منظور غويتيسولو، هو أن تكتب انطلاقًا من موقف تجاه، vis a vis، تجربة تاريخية لا تنفصل عن التعصُّب الذي يقتات من، ويُغذّي في نفس الآن، ذهنية جماعية يحرِّكها العقل المؤسَّسِ عن تركيبٍ بين ثنائيات متضاربة هي الأنا الإسباني، المسيحي الكاثوليكي كحيز للإيجابي، والآخر العربي المسلم كحيز لكل ما هو سلبي، تكوَّن كرد فعل أسطوري أكثر منه تاريخي تجاه حدث الغزو العربي لشبه الجزيرة.

نيران القصف الطيراني لجوية الجنرال فرانكو التي أودت بحياة أم الكاتب في برشلونة، هي الوجه المادي لنيران هذا التعصّب المتكلس في الذهنية الإسبانية، والذي لم ينجُ منه، في نظر غويتيسولو، حتى اليسار الإسباني حين كان يجتر، ويردد دون وعي، ولو بأشكال أكثر مرونة، نفس برنامج وخطاب اليمين، كلما تعلّق الأمر بجيران الضفة المقابلة بشمال إفريقيا، حيث يظل مغربي اليوم مجرد امتداد لـ”مورو” moro الأمس بكل ما تحمل الكلمة من ترميزات قدحية في القاموس الإسباني. اكتوى غويتيسولو بهذه النيران في ترحالاته الجغرافية بين المنافي والسياسية كيساري منشق داخل فئته وحتى الشخصية منها كمثلي جنسي. في هذه الترحالات لم يكن غويتيسولو الموروفيليو، العاشق والمعجب بالآخر، بل المورو نفسه، ما يكرِّسه قراره في الاستقرار بمدينة مراكش بكل الحمولات الرمزية بما فيها الإختيارات الجنسية، حين توافيه المنية في حضن أسرة كوَّنها عشيق سابق.

بين مفكك للخطاب الاستشراقي الإيبيري المتعصب، ومتسلِّحًا بترسانة نظرية تتوزع بين إدوارد سعيد وعبدالله العروي، ومستعرب يحمل عدّة نقدية من منهج غوميث وخوليو أورتيغا وأميريكو كاسترو، يحفر غويتسولو في تضاريس المتن الأدبي الإسباني الممتد من القرن الخامس عشر إلى الفترة المعاصرة، باحثًا عن هذا العرق الذي لا زال يضخ دماء الحقد تجاه الآخر المسلم، والمتلونة بتاريخانيات وحساسيات مختلفة رهينة بالظرفية والمقصودية. فالحضور الشمولي للإسلام، كما يشير في يوميات شرقية، لا يصعب العثور على أثره في الأدب الإسباني، ولو في القراءة السطحية لهذا الأدب، حيث “يحضر المسلم بأساميه المتعددة كالشرقي الشبقي، كالموريسكي، كالتركي، وكالمغربي.. ويحضر كذلك بكل النعوت المقترنة بهذه الأسامي كالمغتصب، والجبان، والحسود، والمنهزم، وكل ما يبعث على التخوف وأخذ الحيطة”. بدون وعي منه، ونتيجة تطبيع طواعي مع تقليد تراكم منذ قرون، لا زال الإسباني يعيد إنتاج نفس الصور المثالية عن ذاته وطبقًا لنموذج نمطي يتواجد في خلفية المسرح الذهني المفعِّل لطريقة تفكيره. صورًا يعثر عليها غويتيسولو في سلوك اجتماعي كنعت الطفل الذي لم يعمَّد بالمورو والتي تعتمد خلفية تاريخ محاكم التفتيش؛ أو في الإجراء الأمني لحكومة جيل روبليس حين اعتمد جحافل من الجيش الريفي المنتمية لشمال المغرب لقمع حركة عمال المناجم بأستوريا، مستحضرًا شبح المورو المغتصب، أو في قيام الرئيس خوسيه ماريا أثنار بتوشيح أميرال البحرية الإسبانية بأعلى أوسمة الدولة بعد نجاحه في إكمال المهمة التاريخية في “إعادة فتح” reconquista الأراضي الإسبانية المقدسة وتحرير ترسانته الضخمة لصخرة في البحر الأبيض المتوسط من رجلين من الدرك الملكي المغربي.

مشروع غيتيسولو هو قراءة في طوباوية إسبانية نُسجت خيوط قماشتها الأولى مع محاكم التفتيش، والتي باسم الصفاء الديني والعرقي، وضعت الموريسكي وكل من يحمل دمًا عربيًا أو يهوديًا، بغض النظر عن مسيحيته المعلنة، في نفس قارب الترحيل نحو مدن الساحل المغربي. هذه الطوباوية، يستنتج الكاتب، تربط الماضي بالحاضر عبر سدنة من الأكاديميين لا زالت نظرتهم للماضي شعرية وملحمية أكثر منها تاريخية. تجاه هذه النظرة الملوثة للماضي، يشارك غويتيسولو صديقه الكاتب الكوبي ليثاما ليما رأيه، وبجرعة فكرية قوية من تأثير عبدالله العروي، في كونها المسؤولة عن الإحترام الزائد والزائف لمثقفي الماضي، والذي بدوره حكم على قدرة النقد بالشلل لدى العديد من مثقفي الحاضر. في إسبانيا تضرب الإنتلجينسيا حمائية ثقافية من منطلق هذه الطوباوية الوطنية والدينية، حين تعمل جاهدة على إنتقاء ماض يبدأ بإسبانيا ما بعد سقوط غرناطة يمتد من الخلف لإسبانيا الرومانية، ومن الأمام يمتد بالإثنين معًا في إسبانيا الاتحاد الأرووبي، إسبانيا “الأغنياء الجدد” الذين يواجهون مشاكل الهجرة مع “المورو الجدد”.

من منظور غويتيسولو، تقويض هيكل هذه الإنتلجينسيا هو تحرير إسبانيا من فصام يكبِّل تطورها في اتجاه إنساني متفرد، يتجاوز الانسداد الأوروبي في قوالب الفكر الغربي المتطرف والأحادي، الذي يعتمد الإقصاء وإلغاء الآخر من أفقه ومن داخل كينونته. إسبانيا هي التجربة المؤهلة لتقويض هذا الفكر الذي قيَّم ثمانية قرون من الحضارة الإسلامية بالقارة كمجرد فترة سبات انتهى بعصر “النهضة”.  وهو ما لن يتم في نظر الكاتب دون إعادة ربط إسبانيا الحاضر بماضيها العربي الإسلامي. والنظر لثمانية قرون كفترة حضارية وليس كطفرة انحلال تاريخي مرتبطة بالاحتلال والغزو. يكمِّل غويتيسولو هنا مشروع أستاذه بلانكو وايت حين يهدم الهيكل ويعيد بنيانه بنظرة تصحيحية ترى في العنصر العربي الإسلامي مكونًا عضويا في الهوية الثقافية والنسيج الاجتماعي الإسباني. مشروع لا يقتصر فقط، صنوة بالمستعربين، على الاحتفاء  بإنجازات أعلام كزرياب أو ابن عربي، أو رصد الموشحات في الشعر الإسباني الحديث والقديم، وتفكيك قالب ألف ليلة وليلة السردي في دون كيخوته، بل مشروع يراجع الفكر الإسباني من داخل نسق التفكير الإسباني الذي قاوم التعتيم والتزييف، أي من داخل النسيج اللغوي نفسه الذي قاوم برنامج الإنتلجينسيا في الطمس والمحو، وظل حاضرًا في الذاكرة القاموسية عبر خمسة آلاف كلمة إسبانية من أصل عربي، إضافة إلى عدة  تنويعات لفظية وسيمانتيكية مركبة حسب القواعد النحوية للدارجة المغربية واللغة الأمازيغية.

اشتغل غويتيسولو على اللغة من داخل اللغة نفسها. الحيز الذي يتحرك فيه فكره ونقده هو نفسه الذي تنتمي له مفردات كـ sarracino بمعنى الشرقي عوض oriental أو muslime بمعنى مسلم عوض الكلمة الأكثر استعمالاً في الإسبانية المتداولة musulmán. عبر هذه الاختيارات المعجمية لا يعرض غويتيسولو لأثر عيني وموروث حضاري ناتج عن الحضور الإسلامي في شبه الجزيرة، كما يفعل جل المستعربين والعرب معًا انطلاقًا من الأسطورية الوردية لثمانية قرون من التعايش والتسامح. بل يقترح برنامجًا مضادًا لعملية الطمس والتزييف موجهًا في جدليته، لإنتلجينسيا الماضي التي أسقطت الكثير من مفردات هذا القاموس وعوَّضتها بمرادفات من أصول إغريقية ولاتينية، ولإنتلجينسيا الحاضر التي تمارس طمسًا لينًا ومرنًا يكمن في البحث على مخارج فيلولوجية تلغي الكلمات العربية في إتيمولوجيات مستمدة من النسق اللغوي الما قبل روماني.

يعري غويتيسولو على وجه آخر من وجوه هذا الطمس المرتبط باللغة في هذا النوع هذا النوع الأكثر لباقة الذي صار يميز الكتابات المعاصرة، ويشترك فيه الإسباني ومع الأمريكي والغربي عمومًا حين يتعلَّق الأمر بموضوع تمثيلية الآخر وفلك الخطاب المابعد حداثي المحيط بها. إنه هذا الحضور الذي يقصد من وراءه التَّغييب. فالكاتب الإسباني، كما يلاحظ، أصبح مسكونًا بهاجس الابتعاد عن كينونته الخاصة بأي ثمن، إلى صار فيه حين ينبهر بالعنصر الشرقي لا يفعل ذلك انطلاقًا من حميمية إسبانيا مع الشرق بحكم التركيب العضوي الهوياتي في التاريخ، ولكن عبر تأثير قنوات خارجية من طبيعة فرنكوفونية وأنكلوفونية. كما يعلِّق غويتيسولو في يوميات شرقية، “ما كان في حوزتنا ومن ملكنا الخاص، ولعدة قرون، أصبح الآن يأتينا عن طريق قنوات أوروبية، كلمات يراد بها صومعة أو الكسكس توضع لها مفردات إسبانية من طراز minarete أو couscous ذات الأصول الفرنسية عوض كلمتي alminar أو alcuzcuz الموجودة في القاموس الإسباني المروث من الماضي العربي اختيارات تعكس هذه الرغبة في قطيعة درامية مع الماضي دون التوقف للتأمل في النتائج الوخيمة لهذه العملية”.

غويتيسولو هو المثقف الإسباني الوحيد الذي لا ينظر لهذا القاموس في توصيفه السطحي كصورة من صور التناقح الثقافي في مجتمع الأندلس، بل كعامل إيجابي فعّال في تاريخانيته كمركب لغوي عضوي كان حاضرًا جنبًا إلى جنب مع التنوعية اللاتينية المعروفة بالرومانسي Romance في فترة تكوين ما سيصير لاحقًا اللغة القشتالية، أي اللغة الإسبانية كما ورثناها اليوم. لولا آلية الطمس لكان للإسبانية اليوم أصول عربية أكثر منها رومانية. ومن بوابة هذه اللغة يمكن الإطلالة على إسبانيا في برزخ التاريخ بين ما ضيها الماقبل إسلامي وحاضرها المابعد كولونيالي، إسبانيا مختلفة ومتفردة ليست الشرق وليست الغرب، وإنما تركيبة إنسانية متميزة كان الحفاظ عليها فرصة لتعرف الإنسانية معنى التعايش بعيدًا عن خطاب الكلشيهات الوردية.

كتابات غويتيسولو تغنى بمصطلحات كالذاكرة والتاريخ والتأريخ والتأريخات. عناوين مؤلفاته كـ معارضة Disidencias أو عزل (بالمعنى الجنسي) Cogitus Interruptus، واللائحة تطول، تخندقه في معسكر الكتابة كمراجعة وتصحيح revisionist وإعادة البناء، لتدور في فلك النسبية، أمام مطلقات ومتعاليات البرنامج السردي الذي تفرضه الرؤية الأحادية والمسيسة للأطراف الغالبة على حساب الأطراف المغلوبة في وجه، أو التبريرات التآمرية للأطراف المغلوبة تجاه الغالبة في الوجه المقابل. في مسحه لماضي وحاضر جغرافية تمتد من الشرق إلى أمريكا الإكتشافات الجغرافية، يرصد غويتيسولو، كضمير إنساني متوقد ويقض الأنماط التي تكررت في مشروع المحو الحضاري والإبادة بكل أوجهها الهجنة والهمجية. في دفاتر ساراييفو Cuadernos de Sarajevo وحصار الحصارات El sitio de los sitios عرض لهذا التقاطع التاريخي في نمط الشرعنة للإبادة العرقية، باسم إعادة الفتح الديني وتطهير الأراضي المسيحية الذي استندت عليه الحملة الصليبة، في نموذج محجة “سانتياغو دي كومبوستيلا” التي قدمت ذريعة لطرد المواطنين المسلمين من شبه الجزيرة، وفي مشروع التصفية العرقية الذي قاده الصرب باسم تطهير المكان الذي يأوي القديس “سان سابا” حامي الصرب. نفس نمط الشرعنة الدينية تناوله في سياق التعسف الكولونيالي الصهيوني في الأراضي المقدسة.

بتسليطه الضوء على الأقنعة التي يرتديها نمط الشرعنة الدينية هذا في تأسيسه لسردية العنف، يصير التعسف الكولونيالي والإبادة العرقية، والإرهاب الدولي، مجرد ترحالات شكلانية لدور واحد على نفس خشبة مسرح الصراع يلبس فيه الجلاد كما الضحية أقنعة مختلفة. في هذا المسرح يحضر الماضي الأسطوري في شكل حاضر سياسي. فيه يلعب البوسني دور الموريسكي، وهذا الأخير دور الفلسطيني، مع إمكانية كليهما أداء دور الأهلي الأمريكي المسمى تعسفًا الهندي الأحمر. نفس العنف يتكرر في صور مختلفة، أو نفس الصورة تولد عنفًا مختلفًا حسب ترابطها مع صورة أخرى. في مجال العنف والصورة هذا يحضر خوان غويتيسولو جنبا إلى جنب مع الشاعر الفلسطيني محمود درويش في دوكودراما موسيقانا  Notre Musique (2004) للمؤلف السينمائي جون لوك غودار، كعلامتين ثقافيتين في العصر يتواجد الكاتب والشاعر داخل ما تبقى من مبنى مكتبة بسراييفو بعد تعرضها للقصف العدواني الصربي. كلاهما من داخل دوره الأليغوري المرجعي يخصِّب لحوارية حول خطاب إنساني كوني مضاد لكل أنماط العنف والطمس والمحو الذي يمارسه طرف باسم الأسطورة التي تغذي خلفيته الذهنية على حساب الطرف الآخر. في هذا الفيلم وعبر التوليفات الغودارية، التي تترك للصورة والصوت خلق منطقها الترابطي الخاص لقدح فكرة نقدية في ذهنية المشاهد، نشاهد غويتيسولو داخل حطام المبنى يشير بيده إلى النقوشات الهندسية العثمانية وقد عبث بها الرصاص في محاولة لتشويه ملامحها. في نفس الوقت نسمع صوته يعلِّق: “أن تقتل إنسانًا من أجل الدفاع عن فكرة لا يعني أنك دافعت عن هذه الفكرة؛ يعني فقط أنك قتلت هذا الإنسان”.

في خيانات الكوندي خوان الحميدة

اختلاف خوان غويتيسولو ككاتب منشق ومثقف مناهض لنواميس الإنتلجينسيا يجد أرضية تخصُّبه في الضفة المقابلة لشبه الجزيرة الإبيرية، أرضية الجارة الجنوبية التي كانت حيز تفعيل عملية الفتح المضاد بامتياز، وجغرافية الآخر والخلفية السلبية للأنا الإيجابي الإسباني. تموقع الكاتب في مدينة طنجة بالذات يعني تبني بؤرة تحدد وجهة وشكل هذا الاختلاف. فضاء مدينة طنجة هو حتمًا فضاء البداية. سبعة أميال في المسافة مع الساحل الإسباني تنعكس في الزمكان الإسباني الأسطوري في سبعة قرون من الصراع. الصراع الذي يسم كذلك شكل هذه البداية، أي الخيانة العظمى التي اقترفها حاكم جنوب شبه الجزيرة القوطي الكوندي خوليان.

في كل مناسبة لحديثه عن رواية مطالبة الكوندي خوليان، قبل وبعد تحول عنوانها إلى دون خوليان، يذكِّر غويتيسولو أنه من الصعب أن تتواجد في مدينة كطنجة وتواجه هذا القرب والحضور للساحل الإسباني ولا تستثيرك الشخصية الأسطورية دون خوليان، أو لا تحلم بخيانة عظيمة كالتي قام بها (يوميات شرقية). غويتيسولو لم يصف خيانة دون خوليان بالعظمى capital، لم يلجأ لقاموس المؤسسة الإسبانية، بل اختار توصيف العظيمة grandiosa الذي يناسب وعي الرواي – المؤلف المنشق. سارد دون خوليان كائن مجهول اختار المغرب كمنفى للهروب من أربعين سنة من فاشية فرانكو. من موضعه في مدينة طنجة جلس يتأمل الساحل الإسباني ويتماهى مع الكوندي خوليان ويقرِّر هو الآخر القيام بخيانة جديدة على أثر التي قام بها الحاكم القوطي حين أهانه الملك رودريغو باغتصاب ابنته. يحلم الراوي بغزو جديد لإسبانيا كالغزو الأول، هو الآخر تنجم عنه آثار وتبعات لمدة ثمانية قرون. غزو يرى فيه الراوي، من خلفية وعي المؤلف، فرصة لهدم المؤسسات التي هيكلت الشخصية الإسبانية كرافضة ومحاربة للإسلام، وبالتالي إعادة فتح إسبانيا كفضاء يستقبل التجربة الشرقية ويتطور فيها وبها في جو تعايش وتشارك وانسجام. بفتح جديد كهذا، ونتائجه التصحيحية، قطعًا سيتهشم صنم الفارس الصليبي، هذا الذي صار حسب أميريكو كاسترو، الكنه الأزلي للذات الإسبانية، وبالتالي ستتقوَّض كل مفاهيم الفحولة والعذرية وكل أشكالها الميتافيزيقية التي لعبت دورًا تأسيسيًا في فكر جيل الثمانية والتسعين الذي أنتجت أدبياته المتشائمة والمتعصَّبة معًا ظاهرة فرانكو الفاشية.

الفتح الذي يحلم به راوي دون خوليان ليس هو الفتح الذي يتخوَّف منه المستعرب الإسباني، الذي كان يومًا من مدير مركز ثريباتيس بالقاهرة، سيرافين فنخول. فتح هذا الأخير ناتج عن مشكل الهجرة وعن تفجيرات مدريد وعن موقفه المنسجم مع إنتلجينسيا الماضي والحاضر. فتح الراوي هو فتح مراجعة وتصحيح وتغير بؤر نظر تجاه تجربة تاريخية متفردة. فتح الموروفوبيا والتخوف الواقعي، مقابل فتح الموروفيليا والطوباوية القابلة للتحقق.

غزو الراوي – المؤلف – المضاد يتطلب كذلك موقفًا سلبيًا من هذا الذنب الناتج عن خطيئة رودريغو والميتافيزيقا التي ترتبت عنه. لذا يلجأ هذا الراوي لممارسة اغتصاب جنسي مضاد وبنفس درجة عنف الإغتصاب الأول. وحين يكون الهدف من هذه العملية إجهاض جنين الأسطورة التي تغذي المخيال الإسباني الجماعي في موقفه السلبي من الغزاة، سيأخذ هذا الاغتصاب شكل العزل، كما يحمل لاحقًا مؤلف لغويتيسولو العزل Cogitus Interruptus 1999، أو sodomito، كما وصفت الناقدة آني بيرين بدقة وذكاء ما يميّز مشروع غويتيسولو الروائي والنقدي وحتى الفردي الإنساني، يعني تملُّكها من الخلفية. في كلا شكلي الاغتصاب الجديد هذا يتحقَّق قطع الطريق على إمكانية تخصيب وتوليد الأسطورة.

حين يتوجه الغزو الرمزي والثقافي لأسس ونواميس خطاب وطني فاشي، تشكَّل في الفترة الرومانسية، تنحاز عملية الخيانة من حقلها السيمانتيكي المتداول، وتكتسب دورا ديناميكيا وإيجابيا لتصبح عملية قلبٍ لسلّم القيم والمعايير الملزمة. بدوافعه التدنيسية يواجه خطاب غويتيسولو التصحيحي قداسة الخطاب الأيديولوجي المبنية على أسطورة الخيانة الأولى. فكتابة رواية دون خوليان تأتت عن نية مطالبة هي الأخرى، وكانت على حد تعبير الكاتب المنشق رغبة ملحة في تخلصه من القيم الرسمية السائدة، والتي تأجَّجت لديه إلى درجة أصبح فيها تدنيس هذه القيم، وتدميرها رمزيًا، هاجسًا لا يفارقه. “المشكل الوحيد الذي يطرح نفسه هو اللغة التي يجب اعتمادها في تنفيذ هذه الخيانة” (معارضة).

لكي تغتصب الأساطير يجب كذلك أن تغتصب اللغة. أن تُصهِر بنفس العدوان العنيف الأولى في الثانية. فمطالبة الخيانة reivindicación هو محاولة لإبطال قرون وقرون من اللغة العدائية التي تراكمت في التاريخ، وهدم خطاب مسكوك ساهم في صقله المؤرخ والشاعر والروائي. من أفق نظرية باختين، تأتي رواية دون خوليان كفسيفساء من الإحالات والأصوات التي تنتمي لهذا الخطاب. هذه “الانتحالات” المبيتة، حسب تعبير غويتيسولو، تتغيَّا فتح أفق تناص وحوارية مع مؤلفي هذا الخطاب سواء من دخل منهم في أفق إعجاب الكاتب أو من ظلوا خارجه. في ترحالها وهجراتها اللغوية والزمكانية تثور دون خوليان عن فكرة الوطن بالمعنى المادي والروحي. مثل الراوي والمؤلف، هي كذلك بدون أرض. لغتها عبارة عن كائنات من المعنى تهاجر طليقة في الجغرافيا والتاريخ. تقفز من كوبا إلى إسطنبول، ومن نيويورك إلى الصحراء الكبرى، تسافر من الماضي إلى الحاضر، ومن هذا إلى المستقبل والطوباوية.

رواية دون خوليان تؤسس لفعل الكتابة التي تحفر في ذاكرة الأمكنة كما تمَّ تعريفها مع خوان غويتيسولو. فهي ليست الرواية التاريخية، كما يمكن أن تضلِّل من عنوانها، على الأقل داخل مفهوم المتداول للرواية التاريخية. وليست التأليف التحليلي بتقريريته الموضوعية ولا السيري بشبه ذاتيه الشعرية. هي تدشين لمرحلة كتابة تتخلص من استبداد الأنواع الأدبية لتصبح الشعر والنقد والمسرح والسرد في نفس الآن. هدف الرواية “التيماتي” يتساقب مع هدفها الشكلي في تكسير كل البنى التي رسخها التقليد في الفكر بما فيها أدوات وصيغ وقوالب التواصل التي يعتمدها هذا الفكر. في دون خوليان تَتحَلُّل الخيانة كموضوع مع الخيانة كلغة.

تحمل رواية دون خوليان، كما لاحظ خوليو أورتيغا نفسًا أمريكولاتيني أكثر منه إسبانياً. وهو ما يؤكده غويتيسولو معترفًا ومدينًا للتجربة الروائية في أميركا اللاتينية هذا الانفتاح والحرية في ربط علاقاتها مع الماضي، ليس ماضي الإسباني فقط، بل كذلك ماضي اللغات والثقافات الأخرى. انعتاق فعل الكتابة والسرد “يجد رائده الأول في بورخيس والذي بدونه ليس هناك شيء اسمه الرواية الأمريكو لاتينية الجديدة، وبدون هذه يستحيل شيء اسمه رواية دون خوليان” (معارضة).

هاجس غويتيسولو تجاه اللغة ينطلق، أولاً، من وعيه كمثقف يعيش داخل حركية عصره الفكرية، وثانيًا، من موقفه تجاه اللغة التي يشتغل بها وعليها في مشروعه الفكري الأدبي. تجاه هذا الوعي، يقول لخوليو أورتيغا في صدد كلامهما عن رواية مقبرة: “تأملاتي النقدية في هذه الرواية تنهل من قراءاتي للشكلانيين الروس وبينفنيست وجاكوبسون ومجموعة حلقة براغ.. بالنسبة لي أي كاتب يأخذ مسافة من التطور، الحاصل في مباحث الشاعرية واللسانيات، يعيش نوعًا من المفارقة التاريخية مع عالم اليوم.. الكاتب لا يمكن أن يترك نفسه رهينة لخوالجه التعبيرية مدَّعيًا نوعًا ما من البراءة تجاه اللغة، لأن اللغة هي الأخرى لم تعد بريئة”.

إدانة اللغة هذا ناتج عن موقف غويتيسولو تجاه لغته الأم التي يجدها متحجِّرة ومقوقعة داخل الحمائية الفكرية التي ضربتها عليها الإنتلجينسيا لتصير أنساقًا عقيمة لا تنتج بل تكرِّر. في سياق نفس الحوار مع خوليو أورتيغا يسترجع غويتيسولو ما قاله بلانكو وايت بخصوص اللغة الإسبانية كلغة محتلَّة: “مثلما هناك بلدان محتلة هناك كذلك لغات محتلة، والإسبانية محتلة باسم الصفاء العقائدي والأحادية الإيديولوجية وهو ما يجعلها مباشرة تفتقر لهذه اللياقة والمهارة في تطويع ذاتها كوسيط للفكر والحساسيات الحداثية” (معارضة).

بمجموعة ثلاثية الشر Tríptico del Mal التي تتضمن روايات إشارات الهوية Señas de Identidad، دون خوليان، وخوان بلا أرض، وبرواية مقبرة يقطع غويتيسولو مع بداياته السردية في تجربة الواقعية الاجتماعية، وكذلك مع مرحلة الرواية التقرير الذي يطبع شكليًا روايات لا تشانكا La Chanca والجزيرة La isla، ليدشن لكتابة تجمع بين النقد والرواية كتطبيق نقدي praxis وتتموقع خارج التصنيفات وتقترح عدة مستويات من القراءة. في هذا التحول يظل هاجس اللغة هو المحرك الرئيسي، لنجد متون الثلاثية لا تتحقق كامتداد على المستوى السردي في الفضاء أو الحدث أو الجو العام الذي تتحرك فيه الشخصيات، ولكن على مستوى خطاب ينفرد فيه كل كتاب من الكتب الثلاثة بقماشته اللغوية الخاصة.

الملاك يترك وصية لقبيلته

يحمل مشروع غويتيسولو الثقافي، والذي جعله علامة في ثقافة العصر، كل توصيفاته ووصفاته في ثلاثية الشر وبالأخص منها رواية دون خوليان. نحن العرب بالذات، خصوصًا أفراد قبيلته المغربية، كما كان ينعت أهل مراكش، معنيون أكثر بهذا المشروع وتقترح علينا متونه قراءة من نوع خاص.

بالاصطلاح السيميائي تحمل كل رواية للكاتب برنامجًا مضادًا بجانب برنامجها التأسيسي الأول، يستهدف في تواصله هذا الآخر الواقعي الساكن في عوالم هذه الرواية. فكرة إسبانيا الفردوس المفقود تتحمَّل إسقاطين؛ في أسطورة الأنا الإسبانية هناك سقوط من الفردوس ناتج عن عقاب ربّاني سببه ذنب من طبيعة جنسية وهو عملية الاغتصاب. لذا فسقوط إسبانيا سقوط بالمعنى الأسطوري الديني. خروج المسلمين من إسبانيا كان كذلك خروجًا من الفردوس. في كلا البرنامجين تظل إسبانيا هذا الفردوس “المفقود”. في غزو إسبانيا يصير المسلم الآخر هذا العقاب الرَّباني، ويصير طرده بالتالي مغفرة ربانية كذلك. لكن المغفرة في تمثل الأول تصير الغضب في تمثل الثاني.

قد يكتب غويتيسولو عن تحجُّر اللغة الإسبانية كوعاء لتنميطات وقوالب تشفَّرت بقرون من الرتابة وبحمائية ضربها سدنة من الماضويين باسم المعتقد الديني والإيديولوجي، لنقرأ كلامه عن تحجر اللغة العربية من داخل نفس الوصف والتحليل.

ثقافتنا هي الأخرى بحاجة لدون خوليان وبعض الخيانات الحميدة.

كتب غويتيسولو الكثير عن المغرب. من نقده للاحتلال الإسباني في الشمال ومشكل الصحراء إلى تحليله للعلاقات التاريخية بين ضفتي المتوسط وتمفصلاتها الثقافية والاجتماعية بين البلدين. مقالاته خصت شخصيات مغربية كشخصية عبد الكريم الخطابي، وفضاءات مغربية كساحة جامع الفنا بمراكش. في كتابته الروائية، كان المغربي هذا الإنسان الذي يعيه الكاتب ويحاول تمثيله من داخل واقعه المزري، منصتًا لهمومه، متماهياً مع تطلعاته، مؤمنًا بانعتاقه. كان المغربي في روايته وعلى حد تعبيره هذا الإنسان الذي تراه متجولاً في أزقة فاس وشوارع طنجة أو متحلقًا حول حكواتي في مراكش. مغربي آخر مختلف غير مغربي لوحات دولاكروا أو هذا الكائن الافتراضي الذي يلبس كل الأقنعة التي صنعها خيال الأوروبي والغربي الاستشراقي. وهو يكتب عن هذا المغربي، لا يخفي خوان غويتيسولو كذلك وعيه بحقيقة أن هذا الأخير يظل الأقل حظًا في قراءة ذاته داخل هذه الكتابة، اللهم الفئة المشفَّرة والمحصورة جدًا في دوائر مصغَّرة تتقلَّص أكثر فأكثر.

غويتيسولو كان يتكلم الدارجة المغربية، لكنه تعلم اللغة العربية. بين القدرة على الكلام الدّارج والرغبة في تعلم اللغة العالمة، هناك أكثر من ترميز سواء لمن يتحجر لثقافة الحرف أو من يجاهد للتخلص من هذا الحرف. قرأ لعبدالله العروي والجابري وهشام جعيط وغيرهم من المفكرين العرب. قرأ الشعر العربي والرواية العربية. كتب في ابن حزم والروض العاطر. قرأ دون كيخوته، أم الرواية الحديثة، على ضوء ألف ليلة وليلة، ورواية القوادة La Celestina وأدب الصعاليك El género picaresco كنمط يحفظ لإسبانيا ذاكرتها الأدبية العربية. يرصد ابن عربي في شعر سان خوان دي لا كروث، وينهل من صوفيته في روايته الأربعينية La Cuarentena. كما احتفى بقديم الفكر العربي يحتفي بجديده ويحاضر فيه عبر المدرجات الغربية في كل مناسبة. كتابته عن إبراهيم الكوني أو تقديمه لأمجد ناصر قراءة في نصوص عربية من داخل نصيتها العامة في مرجعيتها الثقافية، والخاصة في إطار جنسها ونوعها الأدبي، وتختلف، في الشكل والجوهر، عن هذه المقارنات التي عهدناها في الكاتب الغربي حين يقدم لكاتب عربي في ترجمته، والتي تضيء الغربي في نموذج الأصل وتعتم العربي في تمرين النسخة.

كما كان خوان غويتيسولو ملمًا بخطاب الغرب عن الشرق، كان كذلك واعيًا بطبيعة الصورة التي ينتجها العالم الإسلامي عن الغرب. فتشكيل صورة الآخر، كما أشار، سواء كان هذا المتوحش النبيل أو هذا الهمجي، ظاهرة كونية تتغير حسب طبيعة الترابطات التاريخية والثقافية والاجتماعية للمجتمع الذي ينتجها. الشرق هو الآخر والغرب هو الآخر. غويتيسولو كان هذا المثقف الذي، بحكم تموضعه الجغرافي والفكري، تنسحب عنه معادلة عبدالله العروي “لا تعريب ولا تغريب”. كان يحاول مد جسر تواصل في هذه المسافة التي لا تخترق بين “نحن” العربية و”هم” الغربية والعكس بالعكس. في مقدمته للترجمة الإسبانية لكتاب هشام جعيط الغرب والإسلام يسطر على حقيقة أن كلا الكيانين المجرَّدين، الغرب والإسلام، يستندان على بعضهما بعضا، خالقين بذلك نوعًا من اللعب الجدلي لصور ومشاهد يحملها كلاهما عن الآخر. في تسليط الضوء على هذه المقايضة الرمزية لفكرة الآخر، بين العربي والغربي، يدعو غويتيسولو أهل قبيلته إلى الانخراط في مشروع غويتيسولوي خاص، يتجاوز الكتابات التي تعتمد تنميطات جمالية الضحية، والمقاربات التي تجنِّد، بالمفهوم العسكري، كتاب إدوارد سعيد.

بهذه التركة يودع الملاك المطرود من الفردوس قبيلته على وجه الأرض.

ضفة ثالثة

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى