صفحات الرأي

خوف الديكتاتور: في آليات الممارسة الشمولية

 

    مازن معروف

كل نظام ينزع إلى ديكتاتورية ما، هو نظام يمكن أن نختزل فترة إقامته بنيَّةٍ واحدة: محاولة تقنيع خوفه. هذا بغض النظر عن أشكال القمع أو المستويات التي يمارسها أو ينشط دورها في المجتمع لصالحه. تحت هذه الممارسات القمعية، يتوارى عاملان: الاول خوف الديكتاتور كفرد، وهو خوف يتحرك في محور بسيكولوجي، وينتج منه أحيانا سلوك يفوق قدرة المجتمع الخامد على التسليم بأمر الديكتاتور كظاهرة موقتة مهما طال أمدها. أما العامل الثاني فهو ارتياب نظام الديكتاتور كمؤسسة ناشطة لكن متوترة، وهو ارتياب يتحرك في محور سياسي، وتتمخض عنه مجموعة مبتدعة من القيم غير المسبوقة، والقوانين الجائرة، ووسائل استبعاد النقد، والزام التاريخ وجهة نظر مطلقة. هذا ما تعلله المنصة الاعلامية للديكتاتور، والرقابات الموضوعة في حال طوارئ، كترتيب وقائي لتحصين ذات الأمة استراتيجياً.

النظام الشمولي، يقيس ويترقب، ويبدو دائماً جاهزاً لمعاقبة نموذج معارض، أو منتقد. لكن ذلك لا يتم بدون آلية متكررة، وهي دفع الأصوات المعارضة إلى حجرة الخونة والعملاء بدعوى الطموح إلى تحطيم الهوية القومية. لكن هذه العملية من الإبعاد القسري، المتعجل والجائر، لا تفضح فقط همّاً سياسياً يمارس رمي أطراف من المجتمع خارج السفينة، وإنما تمثل إنفاذا ميكانيكيا لقرار يتدحرج عبر المؤسسات ليصل إلى المراقبين الأمنيين. ويكون مصدر هذا القرار الديكتاتور نفسه.

لا بد من الاعتراف بأن النتاج العلمي والثقافي للبشرية مدين في بعض وجوده لفترات زمنية كان الأمن يسود فيها تحت جناح ديكتاتوريات أو امبراطوريات عظمى أو قياصرة وربما حكام عسكريين. ذلك أن هذه الدول الجائرة، إما عززت الامن وهيأت فكرة المنفى امام العلماء والمفكرين، وإما حضتهم على الكتابة ضدها مستفَزين بسياستها. يتحتم علينا عزل الديكتاتور، كي نفهم الدوافع التي تحضه على تحصيل مجتمع سلبي، يمتص من دون أن ينفجر. خوف النظام يكون جاهزاً قبل نشأة النظام نفسه، لا بعده. وهو خوف له علاقة بالطبيعة النفسية للحاكم/ الشخص، يسبق الخوف السياسي أو الظرفي الذي يستجد بسبب مصالح دول غريمة أو تغييرات في أولوياتها أو توزيع جيشها أو تعديل استراتيجياتها أو إقدامها على حلف سياسي أو عسكري أو اقتصادي. يقوم النظام الديكتاتوري على تطويع المجتمع بما يؤمن للحاكم أرضاً بصرية تناقض خوفه النفسي.

يكون الحاكم في حاجة إلى حجة دامغة تطفو كبقعة زيت عريضة على وجه الماء، خافية السخام الأسود الذي يلمع في العمق. المجتمع خانعاً يمثل بالنسبة إلى الديكتاتور، مادة سينمائية، بانورامية، مونوكرومية، ممنوع أن يتنفس أي جزء فيها مستقلاً عن المجموعة. إنه كنظام النقاط التي تكوّن خط الموجة، “واجب” عليها أن تخضع للطاقة نفسها، وأن تتفاعل بالطريقة نفسها دائما، هبوطاً أو صعوداً. بينما يمثل الخوف النفسي النيغاتيف غير القابلة تفاصيله للقراءة الواضحة. لأنها تفاصيل لا يريد صاحبها (الديكتاتور) الإعتراف بوجودها. يحظر على نفسه الغوص في أعماق ذاته لنبش هواجسها. بدلا من ذلك، يختار أن يوجه مناورته مع الذات عبر محور آخر.

هكذا تبدأ شرعية الديكتاتور باتخاذ اتجاه واحد: انطلاقا من خيوط بذلته العسكرية نحو تلك النقطة في دماغه التي منها ينبثق وهمه أنه على صواب. إنه بحاجة لعامل أكثر حميمية، فالشعب بالنسبة إليه أداة، يريد منها أن تكون عاملاً يسلّم الديكتاتور بوجوده من دون أن يكون قادرا على تفسيره. يعرف الديكتاتور في قرارة نفسه أن سلوك الشعب حياله هو عامل قابل للتفسير والتأويل وقد يتأجج على حين غرة، وينفلت من قبضته. ذلك أن الشعب يتموضع، بحسب الديكتاتور، في مربّع هو نقيض الحميمية. الشعب لا يمكنه أن يكون حميما لدى الديكتاتور، والديكتاتور لا يمكنه أن يكون حميماً لدى شعب. الإثنان، الديكتاتور والشعب، لا يجرؤ الواحد منهما على الإفصاح للآخر. تتحول صورة الديكتاتور، في مرآته البسيكولوجية، مجرد رتوق موصولة بخياطة ضعيفة، ويولّد ذلك لديه إرباكا يضاف إلى خوفه المنقول معه قبل تسلم السلطة. وهذا ما يفسر تماثل سلوك كل أباطرة التاريخ وتميُّزهم جميعاً بالبطش والحزم والإنفعال والعناد والعصبية (عصبية الآلة العسكرية المعلنة على الأقل). هذا ما يفسر عدم قدرتهم على تحمل مشهد تظاهرة ضدهم، ولا سماع هتاف يندد بهم او يدعوهم لترك السلطة. الامر مسألة شخصية بامتياز، فتتحول البلاد طاولة شطرنج مؤجلة، بينما يقف اللاعب الوحيد على طرفها شاهراً سكينه وجاهزاً لمعاقبة الخصم/ الشعب، لأن هذه الكتلة الديموغرافية فاجأت الديكتاتور بأمرين: أولاً قدرتها على نقل حجرها الوحيد، وثانياً حقيقة أنه لا يمتلك هذا الحجر.

إن نشاط المجتمع فجأة لاستعادة حقه، يراه الحاكم مجسّماً متمدداً لفشله. في كل يوم، يصبح وزن هذا المجسّم أكبر، وتتضخم ملامحه ويجوع أكثر. يصبح فشله فشلاً جائعاً. يوقن الديكتاتور فجأة أنه فقد اللحظة، وأن اللحظة انزلقت من قبضته، وأن قبضته مثقوبة. بفقدانه الشعب الذي لم يكتسبه أصلاً، يفقد الشرط الضروري لتصريف خوفه. يضطر للإستعانة بالنسخ المعدّلة لصورته، نسخ أقل تمزقا لكن أكثر هشاشة. هؤلاء أتباعه، الأكثر جهوزية لبذل ما أمكن لإعادة الشعب إلى طاولة الشطرنج مكبّل اليدين وأمامه حجره الوحيد. وفيما يمضي الشعب في تطوير نشاطه، لاستعادة حقه الانساني، يكون الديكتاتور منشغلا بوضع الخطط لاستعادة الرقع التي سلبه إياها الشعب. الشعب يرتبط وجوده بقيمة إنسانية، والحاكم يقيس وجوده بقدرته على ملء ثقوب صورته المعطوبة. يتحركان ضمن معطيين مختلفين، وغالبا ما يحدث أن صاحب الصورة الممزقة يكون غير قادر على مطاردة الخصوم، وأغلب الظن، ينفرط قبل نهاية الطريق.

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى