صفحات الثقافةهيفاء بيطار

خيانة المثقفين/ هيفاء بيطار

 

 

بداية أحب أن أشيد بمواقف القلة من المثقفين العرب الذين ومنذ اللحظة الأولى آمنوا بثورة الشعب على الظلم والاضطهاد وكتبوا بنزاهة وشجاعة معبرين ومتبنين آمال وتطلعات الناس إلى الحرية والكرامة، ودفعوا الثمن بالاعتقال أو اضطرارهم لترك الوطن. لكنهم استمروا في مشروعهم الإنساني الإبداعي الذي هو تبني قضية الحق والدفاع عن المطالب المحقة للناس في العيش الكريم. وبعضهم لم يترك الوطن لكنه عاش متآلفا مع فكرة اعتقاله أية لحظة أو منعه من السفر. أو تكفيره من قبل الجماعات التي تتخذ من الدين حجة لقتل كل فكر حر. هؤلاء القلة القليلة من المثقفين يستحقون كل تقدير وسيبقون في أذهان الناس شعلة من نور الحق.

لكن أكثر ما لاحظته خلال ثلاثة أعوام من اندلاع ثورات الربيع العربي، وخاصة في سوريا التي كنت أتابع بفضول واهتمام كبيرين موقف العديد من مثقفيها خاصة الذين يعتبرون أنفسهم النخبة والذين يطيرون من مؤتمر إلى مؤتمر أدبي أو فكري، هؤلاء لم يكتبوا شيئاً عن الغليان الذي يحصل في بلادهم، لم يكتبوا شيئاً صادقاً وشجاعاً يلامس شغاف القلب عن القتلى الذين ماتوا في سبيل الحرية والكرامة، ببساطة لم يلعنوا ولم يباركوا، اختبأوا في قوقعة الصمت الجبان منتظرين كيف سترسو الأحداث ليعلنوا مواقفهم التي ستكون مع المنتصر. رغم أن انتصار الباطل لا يُعتبر انتصاراً بل عار، وهؤلاء اعتقدوا وما زالوا يعتقدون بأنهم قادرين على خداع الناس بأنهم كتاب ومبدعون، فيكتب أحدهم مقالات عن نظريات أدبية نقدية بطُلت وأكل عليها الدهر وشرب وينشرها في مجلات تدفع بسخاء، بينما على بعد كيلومترات من منزله تحدث مجازر ويُسفح الدم بغزارة شلال، ولا أنسى أبداً ذلك العنوان العريض في إحدى الجرائد السورية وهو قول لأحد رؤساء اتحاد الكتاب العرب في مدينه سورية قال: إنه يشعر بالفخر والاعتزاز كون كل شباب سوريا مشروع شهداء!. يا سلام على البلاغة الطنانة ولا أعرف إن كان أحد قد سأله لماذا هرب ابنه خارج سوريا!

لكن أكثر ما يؤلمني ويُشعرني بالخزي هو ذلك التشنج واحتقار الرأي الآخر وتخوين كل ما لا يفـكر كما نريد، ويكفي أن نتابع ما يكتبه المثقفون على صفحاتهم على الفايسبوك، وهول الشتائم التي يتبادلونها علناً حتى ندرك أننا أبعد ما نكون عن الديموقراطية واحترام الرأي الآخر المختلف، وسأذكر من باب النزاهة كيف كتب أحد أهم المثقفين على صفحته على الفايسبوك على فلانة وهي كاتبة أيضاً لكنها تُفكر بطريقة تختلف عنه: أنت عاهرة وسافلة الخ. وهي امتلكت شجاعة أن تترك كتابته ولا تحذفها، وأنا أحتفظ في علبة رسائلي على الفايسبوك برسالة من مثقف يُمطرني فيها بأحقر الشتائم لأنني كتبت مقالاً لم يعجبه، وسوف أستشهد ذات يوم بتلك الرسالة في مؤتمر ما كدليل على أن هؤلاء المثقفين الذين نعول عليهم يعانون من الأمراض والآفات ذاتها التي تعاني منها الأنظمة التي اعتقدوا أنهم ثاروا عليها. ويكفي أن نذكر اللغط الهائل الذي أثارته تصريحات زياد الرحباني وعن قوله إن أمه، ملكة الغناء الأصيل ورمز الرقي والفن، السيدة فيروز تحب السيد نصر الله.

لكن رغم ذلك التخبط والمواقف التي تكرس الاستـبداد إنما من نمط آخر، وهو استبداد المثقفين وتخوينهم لبعضهم البعض، ويكفي أن نتابع العديد من البرامج الحوارية لنرى كمَّ الشتائم والصراخ الذي يصل حد تناول الأعراض والضرب. لأن أحد المتحاورين يتبنى موقفاً مختلفاً لموقف الآخر. متجاهلا كل منهما أن كل شيء نسبي حتى الحقيقة، رغم كل ذلك التخبط فإن ورقة التوت قد سقطت وما عاد بمقدور أحد أن يخدع الناس، لأن الشعب وحده من ينزف ويخسر أولاده وبيته وأمانه، الشعب وحده من يدفع الثمن، ثمن الخيانة والمُتاجرة بدمه من قبل الجميع بمن فيهم حفنة من المثقفين المُقاولين. ما لا يدركه هؤلاء تجار الكلام أن الحق حين يظهر فإنه يملك قوة زلزال يُقوض ويخلخل كل جدران الزيف والنفاق، لأن الحق يُحرر من الوهم.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى