صفحات الناس

داخلٌ وخارج: كيف أصبحوا «هم»/ رافيا سلامة

 

 

 

من هو الداخل؟ من هو الخارج؟

«ما زال يعيش في سورية»، جملةٌ تأتي في وسائل الإعلام وكأنها تضيفُ ميزةَ عيش السوري في بلده، فالتصوّرُ المكوَّنُ إخبارياً وسينمائياً عن الحرب، يجعل الوجود المدني خلالها محاطاً بعلامات الاستفهام.

في الحوار السوري/السوري تُستخدَمُ كلمةُ الداخل «جوا»، التي يُفتَرَضُ أنها تسميةُ الموجودين ضمن حدود الـ 185,180 كم السورية. يُقال: «الناس الذين في الداخل/الخارج» أو «جماعة الداخل/الخارج». لا تختلفان عن بعضهما كثيراً، الأولى تميلُ للتركيز على جغرافية التواجد، الذي يُستخدم في الأخرى لتوصيف الجماعة السكانية على أساسه. وكلتاهما من حيث الاستعمال تمنحان مجموعة بشرية صفات أخرى بالإضافة إلى موقع تواجدها الفيزيائي، وتُلحِقَانها بعدد من المواقف المُفترضة ذات الصلة بالشأن السوري العام.

ورغم أن جميع من يعتبر نفسه «داخلاً» أو «خارجاً»، يقدِّرُ ذلك من خلال البعد المكاني، أي أنا «جوا» أو «برا»، لكن التصورات حول الكلمتين ليست مستمدة فقط من «الأين»، بل تدخلُ «الكيف والمتى والماذا واللماذا» جميعها في التوصيف، ويغدو لدينا «هم» و«نحن» جديدتان كممارسة للاصطفاف، وأحياناً الإدانة.

التسمية، الانتماء والكلام

الواقع أن سورية اليوم منقسمة إلى مناطق سيطرة مختلفة، ولكل منها سردية «الداخل» خاصتها، لكن مناطق سيطرة النظام هي حيثُ بدأَ هذا كله، وهي المعنيّة بالجزء الأكبر من النقاش الدائر.

المغتربون الذين كانوا خارج الأراضي السورية ما قبل 2011 هم أول من استعمل الكلمة: الداخل، وكان المقصود منها هم السوريون الذين بدأوا التظاهر ضد بشار الأسد، والقيام بأفعال معارضة سلمية لحكمه، ثم أصبحت الكلمة اصطلاحاً يستخدمه كل من انضم إلى المغتربين المناصرين للثورة إثرها. الكلمة المُستَخدَمة بين المعارضين في سورية كانت: على الأرض.

خرجت الكلمة من المظاهرات، الفعل العلني الأبرز في الحيّز العام، ومع الحاجة للعمل في المراكز والبيوت التي فُتِحَت للإيواء والمستلزمات الإغاثية، بدأت فئةُ «ناشطين» تتكون، يُصنّفون أنفسهم كمعارضين ومحايدين، يعملون بشكل سري وعلني تبعاً للمنطقة والتمويل. مع الوقت صار عدد لا بأس به من مؤيدي النظام يعرّفون أنفسهم بأنهم «ناشطون على الأرض» بسبب عملهم في المجالات نفسها، وهو ما ساهم فيما بعد بخلط ناشطي «الداخل» بين معارضين ومؤيدين ومحايدين، في حين بقي معظم الناشطين خارج سوريا واضحي الانتماء للثورة بشكل كامل، وعاملين مع مناطق الداخل الثائرة في أغلب الأحيان.

الشرعية هي التي افتُرِضَ أن عبارة «على الأرض» تُقدِّمُها في بداية الحراك المعارض، نحن نفعل وبالتالي نحن نقرر ونتكلم. ومنذ اللحظات الأولى لم يكن الكلام سهلاً، كما هو دائماً في سوريا الأسد/الديكتاتورية، بالإضافة إلى نقصٍ في خبرة التحدث لوسائل الإعلام، وفي العلاقات اللازمة لذلك. مؤدى هذا كان صنع شخصيات سياسية للثورة، متحدثين باسمها، في الخارج غالباً، كبرهان غليون مثالاً، وبعضٌ قليلٌ مستتر في الداخل مثل رزان زيتونة. بينما كان معظم الآخرين شهودَ عيانٍ بأسماء خفيّة تعيش في سوريا، التي كانت جميعها مناطق سيطرة النظام حينها، وغير قادرة على المجاهرة بمعارضته، بسبب خوفٍ، يستمر حتى اللحظة، من الاعتقال.

مع تغيُّرِ الوضع ونشوء مناطق تحت سيطرة المعارضة أصبح الخطاب هناك ممكناً أيضاً، بمحدوديّةٍ في الوصول واللوجستيات، ولكن باختلافٍ بارزٍ عن باقي سورية حينها، وهو إمكانية الكلام. لم يسلّم كثيرون لراحة الحرية المُفتَرَضَة، إذ تغدو عبارة «أهلي لساتن عند النظام» مُفسِّرَةً لكل شيء.

مناطق الخوف: من في الداخل؟

من يستطيع التكلم علناً عن مواقف سياسية معارضة في مناطق سيطرة النظام اليوم؟ هيئة التنسيق؟ بعض المعارضين القدماء؟ المعتقلون السابقون؟ بعض من يعلنون عن مواقف معارضة على الإنترنت، مع إنكار شبه كامل للموقف نفسه في المحيط الواقعي؟

كيف يفعلون ذلك؟ بأي سقف؟ وضمن أي امتيازات وأمام أي مخاطر؟ الأعداد القليلة جداً من المتجرئين على إعلان مواقفهم مع الحفاظ على توازنات يحققونها على حد سكين، هؤلاء فقط هم من نعرف، من نسمع أصواتهم، من معارضةٍ في مناطق سيطرة النظام، أما ما لا نعرفه فهو كل شيء آخر، في حين يبقى الصوت الأعلى والواضح هو المؤيد له -الأمر المنطقي تحت حكم دكتاتوري كما في سوريا-، تماماً كما كانت الحال قبل 2011، عندما كان السوريون يُعتبرون مستكينين للقمع، شعب ميت بلا حراك.

لكن رغم هذا فالمعتقلون من غير الأسرى المسلحين اعتُقِلوا في مناطق سيطرة النظام، والنازحون داخلياً من مناطق المعارضة ذهبوا إليها، ولعلَّ كلَّ سوريٍ يعرف مُعارِضَةً أو مُعارضاً على الأقل لا يزال يقطنها، ما يعني أن نسبة معارضةٍ ما موجودةٌ في مناطق النظام.

لكن ماذا تفعل؟ وهل تتمايز من خلال اللافعل الذي تقوم به؟ أو اللافعل الذي يُطلَبُ منها أحياناً؟ وهل يتوجب عليها، لموقعها الجغرافي، أن تقوم بشيء ما؟ وكيف؟ الإجابةُ عن هذه التساؤلات تتصدى لتفسير فكرة الثورة ومعناها ومطالباتها بالنسبة للمنحازين إليها، لكنَّ في التطرقِ للّغةِ المُستَخدَمة في سياق الداخل والخارج مقاربة متاحة لهذه المطالبات على مستوى خطاب الفاعلين والداعمين السوريين للثورة.

التغيير والسلامة

هجرة المدنيين في الحروب أمرٌ تلقائيُ الحدوث، وفي سورية هي حلمٌ أوقات السلم أيضاً، لكن ارتباط الأمور بـ «ثورة» عقَّدَها وبَسَّطَها في آن. فكرةٌ مسلّمٌ بها كالسلامة الشخصية تتصارع مع فكرة التغيير في كثير من النقاشات الدائرة بين المعارضين السوريين، مع بعض الآثار لصراعات أخرى مناطقية أو طبقية تتداخل كأسباب تصل إلى المكان نفسه، أهي «خيانةٌ للثورة» أم «نجاةٌ بالنفس» داخلاً وخارجاً.

ربما أن الثورة والحرب هما الندّان السببيان لمعالجة المسألة، هل هي ثورةٌ تُقدِّمُ لها أم حربٌ تهربُ منها؟ أم أن الثلاثية المتاحة للشخصية السورية اليوم: البطل، الضحية، أو المجرم، تُسارع لتصنيفنا جميعاً دون أن ندري، باستعارات من قصص أسباب اللجوء التي نُجَرُّ إليها مُرغمين، ليصبح للرحيل والبقاء فرادى أو جماعات أسبابٌ وقصص، كارثيةُ الجزء الأكبر منها جعل التمحيص فيها ضرباً من الانتهاك، لتقتصر مناقشة الأمر وتأثيراته على نقاشات مشخصنة غالباً، ومترافقة بنبرة تتشابه وتلك الخاصة بمؤيدي النظام مثل «خربوا البلد وهربوا»، أو «مهادنين وقاعدين عندو» في تحويرٍ لدور النظام في ما يحلُّ بسوريا إلى أدوار أدنى وأقرب كل مرة. هنا لعلّهم رفاقُ الثورة.

تغيّرات وخطاب

بازدياد مُدَد الاعتقالات وبدء القصف، أصبح الخوف عاملاً متسارع الأهمية، محرّضاً ومُحرِّكاً. آذن هذا بانتهاء حقبة المظاهرات وغيرها من حركات الاحتجاج كتصدٍ سلميٍ للنظام، وتخطي الإمكانية لذلك ببروز المواجهة المسلحة وتعذّرِ تطوير وسائل لا عنفية في الوجهة والتأثير نفسهما. شَهِدَ عاما 2012 و2013 خروج موجات من السوريين، ناشطين وغيرهم، إلى بلدان أخرى. أُتيحَ للبعض جلساتُ وداعٍ تكررت فيها عبارات مثل: «أنت قدمت كتير وهلق دور غيرك»، «ما عم أقدر أعمل شيء هون»، «أنت بتفيد أكتر برة»، «ما في إمكانية للشغل بالداخل».

في هذا إعفاءٌ من الفعل وفي الوقت نفسه إحباطٌ للقدرة عليه، فالمقاومة اللاعنفية تستمد قوتها من طاقة الحشود وتضامنها، فماذا إذا لم تبقَ حشود؟ ولا ناشطون فاعلون؟ يضافُ الرحيل وفقدان الرغبة كخسارات في الموارد، كما الاعتقال والقتل في سياق مجريات الثورة.

تميزت الأعوام التالية بانزياح معظم الكتلة المعارضة من ناشطين إلى الخارج، وتحوّلِ الخطاب أكثرَ تجاه الحفاظ على السلامة الشخصية، في تساؤلاتٍ مثل: «شو قاعد/ة عم تعمل/ي لهلق جوا!؟»، «ليش ما طلعت/ي؟»، والسعيِ لحماية من نهتمّ لأمرهم من الموت أو الأذى أو الاعتقال، وهو ما كانت نتيجته تفريغاً للمكان من ناشطيه المعارضين.

الشرخ

شكَّلَ معرض الفنان يوسف عبدلكي في دمشق أواخر 2016 نقطة فاصلة من حيث معنى أن تكون في الداخل أو الخارج كمعارض/ة، وخرجت نقاشاتٌ كانت في الجلسات المغلقة إلى الفضاء الرقمي.

شائعاتُ العائدين إلى سوريا وطريقةُ عودتهم المفترضة بتغيير مواقفهم المعارضة لأخرى مؤيدة، مثل اللاعب عمر السومة، جعلت الوجود في أماكن سيطرة النظام محلَّ تساؤلٍ من حيث الموقف السياسي، إذ عنت الانحياز إلى النظام ببساطةِ التعميم. «ما برجع لعنده» أصبحت الموقف الجذري المفترض ثورياً، لكنها عنت كذلك الرفض لسوريا الخاضعة للنظام وللموجودين فيها. أُلحِقَ كلُّ ما يوصَفُ به النظام بالأماكن التي يسيطر عليها، وأصبحت كل أشكال قمعه صفةً تخصّ هذه الأماكن وتُجرّمها.

القلّة ممن تتيح لهم امتيازاتهم تحصيل فيزا للخروج إلى بلادٍ أخرى ثم العودة، «اللي عم يطلعوا ويفوتوا»، غير مفهومون أيضاً بالنسبة لمن يقطن في سوريا. «ليش رجعت/ي؟»، سؤالُ دهشةٍ عند استقبالهم ممن هم في سوريا، مقارنين إياهم بمن يموتون على طريق الحلم بحياة أفضل. و«تاركين خط الرجعة» أو «دبل فيس» للسخرية منهم في الخارج، مما يعني أن الخروج والعودة لا يجتمعان، وأن المعارضة في الخارج، والموالاة في الداخل، وانتهينا.

الثورة والمكان

تُعرَّفُ الثورة اليومَ بما ليست عليه، وليس بماهيتها. هي ليست مع النظام، وهذا يعني رفضَ أي شيء متعلق بأي شيء له قرب من أي شيء منه، وبشكلٍ غير واقعيٍ أحياناً1. الثورية، أو العهد الأخلاقي الجديد، كانت تبعاً للموقف السياسي والأخلاقي من النظام وما يرتبط به من فعل، لكنها أصبحت حسبَ الاقتراب الجغرافي منه بمعنى الوجود في مناطق سيطرته، وإن تحت القوة القمعية ذاتها التي دفعت لقيام ثورة.

هنا لدينا سلسلة من الافتراضات:

النظام هو شرٌّ مطلقٌ ونهائي، وليس منظومة حكم عصية على الهزيمة في الظروف الحالية.

يجب الابتعاد عنه وبهذا فقط لا تكون مثله، إن اقتربتَ منه جغرافياً فهذا يعني أنك تؤيده، فالمظهر الوحيد الذي يسمح بالخروج من مناطقه هو خطاب مؤيديه، هذا هو الواضح الوحيد، وبالتالي أنت مُمَثَّلٌ بهذا الخطاب.

الناشطون كتيارات فكرية يتحولون هنا إلى جمهور، يشجعون لعبة كبيرة أداتها الصراخ على الغير، وتحميله المسؤولية دون نقاش الأسباب الموضوعية لما حلَّ بهذه الثورة فعلاً. يُقال «ما في حكي» فيما يتعلق بأفعال النظام، و«هو السبب»، وتنتهي المسألة براحة ضمير. عقدة الناجي ثقيلةُ الأثر، وغياب طروحات الفعل الجمعي وصعوبة تحقيقه كلها جعلت من المسؤولية السورية عبئاً بدلَ أن تكون محلَّ دراسةٍ وفهم، وإن نوقشت فالحوار تخوينيُّ اللهجة ومُحتَكَر الأخلاق.

فيما لا يقوله الداخل

«يعيشون حياتهم طبيعية على بعد أمتار من الموت». وجَّه الطلاب الثوريون الألمان في الستينات لآبائهم السؤال: ماذا فعلتم عندما كان هتلر يقتل اليهود؟

ربما يظن معارضٌ أنه خارجَ التساؤل بسبب موقفه، وأن المؤيدين هم الجُناة. لكن كثيرين يُسِرُّون في الواقع برغبتهم انتهاء الحرب بأي طريقة تنتهي بها، وبأسرع وقت. الأمر شبيه بسماع جلسة تعذيب وأنت معتقلٌ تريد النوم، تريدُ من الجلاد أن يوقفها أو أن يفقد ذلك المُعذَّبُ الوعي –أن يُرحّل أهل الغوطة إلى إدلب، ثم يُرحّل من في إدلب إلى تركيا، ولننسى درعا- وينتهي هذا كله. تزعجهم «أصوات القصف»، ويُطمئِنونَ أنفسهم بأن هذه «طالعة مو نازلة»، لا بل يستخدمون مصطلحاً مثل: «نيران صديقة»، على سبيل سخرية.

يُخفِّفُ عن السوري هنا وجود أناسٍ خارجاً، فلا يقبل مطالبته بالفعل من أحد بدعوى الخوف، فكيف إذا كان هذا المُطالِب بعيداً عن كل هذا؟ السلامة الشخصية انتصرت على ضرورة التغيير منذ زمن. «الفاتورة غالية» أو «لا يستحق أن أبقى عنده ولا ساعة»، تعبيراتُ ارتياحٍ من الفعل بذريعة مُحقّة، تقترب من «الله يفرج»، شعار المرحلة العاجزة الحالية.

الامتيازات والتماهي

التماهي مع النظام يَحدُثُ إِثرَ هذا بتلقائية. تدخل بنيته المتقاتلةَ على المصالح، غامضة العلاقات، كلحظةٍ شبيهةٍ بما قبل 2011 من فساد، مع انتقال الصراع إلى أمور أبسط بكثير، كالتنقل والمرور على الحواجز، إلى السكن، أو عمليات البيع والشراء، الاستمرار في العمل، التهرب من الخدمة العسكرية، خروج معتقل بصفقة، وكثير من حاجات العيش التي كانت بعيدة عن تدخل (الدولة) حينها. البنية السلطوية الفاسدة تنتشر سرطانياً بمشاركة واسعة من أطراف تترابط على درجات السلم الاجتماعي، حيث الفساد هو القانون، وأن «تعرف حدا» هي الطريقة الوحيدة، دون أن يستطيع أحدٌ العيش خارج المنظومة، هم فقط يستمرون بالنجاة من خلالها كل يوم، مستخدمين امتيازات الطبقة، المنطقة، الجنس –النساء من يمتلكنه اليوم-، وكل ما يمكنُ تعزيزُ الخلاصِ الفردي به.

الخوف ورغبة البقاء تتصارعان هنا مع حال الصمود المرجوة، ليصبح «البقاء» هو «التشويه» ويغدو الموقف الصامد غير ذي معنى. ولا يبقى حقيقة إلا حديثٌ عن معاناةٍ تتماهى ومعاناة أي مؤيد للنظام. الوحدة بالدرجة الأولى، القذائف والتفجيرات أحياناً، ساعات التقنين أو انقطاع الماء، الازدحام أو غلاء الأسعار.

الأمر أنهم: خائفون. والخوف هو السبب، هو الحجة، هو النتيجة، ويمكن تبرير كل شيء به، تماماً كما كُنّا قبل 2011، لكن المحزن هنا هو دعاية أن جدار الخوف قد تحطَّم، في حين أنه ارتفع أمتاراً في وجوهنا.

والسؤال الطارئ اليوم هو: كيف نجد لأنفسنا وللناس خيارات أخلاقية وذات نفع وطني وسط هذا السعار العنيف للنجاة بالنفس، الذي يمرّ عبر الإطاحة بالآخر؟ بدلاً من الاتهام بالخيانة والتسبب بالهزيمة أو «تلميع صورته».

الصمود بضاعةً

ويطالبُ كُثُرٌ بتقديرهم كونهم «قاعدين جوا». استغلالُ المكان أو «الاتجار به» هو ما لا نميّزه حين نفعله، وهو ما ليس هناك جملة مقارنة يمكن لمنتقده أن يقيس بها. تتداخل المفاهيم هنا، وتؤدي الشعارات، «لسة قاعدين جوا»، دوراً منوِّمَاً لتقييم الفعل، فنجد أنفسنا فاسدين أو متهمين بالفساد، لكننا نتعلم أن كل شيء يمكن أن يمرَّ في هذه الفوضى.

يأخذ هذا أشكالاً أخرى، مثل طلب التمويل لمشاريع لا تُنفَّذ، أو عدم القدرة على توثيق عمل. الأسباب الأمنية وانقطاع الخدمات حاضرةٌ دوماً كعذر لكل شيء. «عقدة الناجي» على الطرف الآخر تمنح الشرعية لكل ما يطلبه «أهلنا في الداخل». ليست هذه الحال دوماً، لكن الترفُّعَ عن المساءلة هو المشكلة، وهو ما ينبغي التعاملُ بجدية مع ما قد يؤسسه من أخلاقِ عمل.

عن الخارج

«هربوا»، تستخدم الكلمة كتهمة، رغم أن المرء لا يهرب عادة إلا من الخطر الوشيك، غريزته ستدفعه لذلك حتماً. تأخذ الاتهامات أشكالاً أخرى مثل: «ما بيحقلن يحكوا»، «يزاودوا علينا»، «ما كانوا يسترجوا يفتحوا تمن هون». تساؤلات من مثل: «ناشطين ولا موظفين؟»، «هل كان تبني الموقف المعارض بسبب العمل والراتب؟»، رغم أنه من الجيد استراتيجياً كسب واحد/ة إضافي/ة للتغيير لا للجُرم، إلا أن التركيز هنا ينصبُّ على إيجاد الضحية الأكبر2، بدلاً من النفع الأكبر.

ويرفض البعضُ آراءَ الآخرين لابتعادهم المكاني، في حين لا تجد إلا قلّةً تتحدث في السياسة من أصلها في سوريا، بتحوّلِ الجزء الأكبر من الناشطين المعارضين في مناطق النظام إلى لا فاعلين سياسيين منذ بدء العسكرة أساساً. المتاح هو التنموي والإعلامي والإغاثي، وغالباً ما يكون سرّياً، حيث الناشطون لا يعرفون عن نشاط غيرهم شيئاً خوفاً من التفوه بمعلومات في حال الاعتقال.

هذه الوحدةُ، ولا-وحدةُ الحال، كفيلةٌ بتفتيت أي رؤية مشتركة، كفيلةٌ بأن تجعلها غير موجودة من أساسها، مما أعاقَ، وبقوة، ظهورَ وتبلورَ مجتمع سياسي ذو هوية وطنية وجغرافية موحدة داخل سوريا، كما أثَّرَ تَشتُّتُ المكان بمن هم خارجها.

تُشابِهُ الحوارات السورية/ السورية الحالية الصراعات القديمة الموروثة في المنطقة، وتضيف لسجل الكراهيات السورية واحداً، لكن العلاقات والعمل يستمرّان، فيستفيد من هم في الداخل من إمكانية الوصول والمعرفة المعاشة، ومن هم في الخارج من القدرة على التعبير والتشبيك مع الفاعلين الدوليين، في توزيعٍ للجهد لا مناص من تطوير أشكاله في ضوء الأوضاع الجغرافية الحالية للمعنيين بالتغيير في سوريا.

من الممتع تذكُّرُ أن كل هذا بدأ بمظاهرات خَرَجَ معظم أوائلها نُصرةً لمظلومين آخرين، الأمر الذي يعني إدراكاً لوجود وأهمية الآخر وضرورة التعاطف معه، ورغبةً في الوجود وإياه في هذا العالم، والتفاعل معه.

  1. من المفيد الاطلاع على مقال لمنذر مصري يتناول هذا الأمر: معارضة مرآتها النظام.
  2. من المفيد الاطلاع على مقال نائلة منصور بهذا الخصوص: سعفة الضحية الذهبية.

موقع الجمهورية

معارضة مرآتها النظام/ منذر مصري

1- البوصلة الضائعة

أذكر تعبيراً طريفاً ورد في الدفاع عن صاحب مقولة (ليتها لم تكن) الذي تطوّعت أن أكونه، هو: “الرجل، يا جماعة، لم يضيّع البوصلة!”. وقتها جاءني السؤال:”ترى أين بوصلة الحالة السورية؟ وبعبارة أدق، ماهي بوصلة الحالة السورية؟”.

سؤال لم أحتج للإجابة عليه، سوى تذكر تعبير آخر، هو أن المعارضة السورية قائمة بدلالة النظام. وقد يبدو ظاهرياً أن لا غضاضة في عبارة كهذه، لكون أي معارضة تقوم ضد النظام، إلّا أن مضمونها السلبي يأتي من أن هذه المعارضة لا تعمل بدلالة الشعب، ومصلحة الشعب.

أي، أن بوصلة المعارضة السياسية في سوريا كانت ومازالت، ما يضرّ النظام، لا ما ينفع الشعب السوري. ولا يجب أن يخفى علينا التعارض داخل هذا المفهوم. فربما هناك ما ينفع النظام والسوريين معاً، وبالتأكيد هناك ما يضرهما معاً. أي، ليس محتماً، أن ما يضرّ النظام ينفع الشعب، ولا العكس. فما بالك إذا بوصلة المعارضة صارت تشير إلى ما يضرّ النظام قليلاً ويضرّ الشعب السوري كثيراً، وقتها نكون جميعنا مصابين بالعمى التام.

وعلى ذكر الموالين، فالبوصلة تلك، قد أضاعت حسها بالاتجاه، لدرجة أن مؤشرها ما عاد يشير إلى ما يضر النظام أو يزعجه هو بالذات، بل ما يزعج مواليه!؟. قالت لي صديقة: “ماتقوله صحيح يا منذر، ولكني أكره أن يشمّت بنا الموالون”.

2- ليست رمانة، بل قلوب ملآنة

مرة، نشرت مقالاً في صحيفة السفير البيروتية بعنوان (تم القضاء على المعارضة السورية.. انبسطوا)، وصفتها حينذاك: “المعارضة التصالحية، الإصلاحية (عفا الله عمّا مضى)، العلنية، المكشوفة، الواقعية، المعتدلة، النابذة لكل دعوات التطرف، العزلاء، المسالمة الرافضة لكل أشكال العنف، المثالية لدرجة الطهرانية”. وذلك بعد الحكم بالسجن سنتين ونصف على اثني عشر عضواً في المجلس الوطني لإعلان دمشق للتغيير الوطني والديمقراطي، منهم السيدة فداء حوراني ابنة الزعيم الوطني أكرم الحوراني، وذلك بتهمة إضعاف الشعور القومي ونقل أخبار كاذبة من شأنها أن توهن نفسية الأمة!. كان هذا عام 2008، سبقه تاريخ عريق من العسف والجور والاضطهاد، ابتدأ بعد أحداث عقد الثمانينات المشؤوم حتى نهاية القرن المنصرم، كان فيه النظام الطرف المسيطر الذي لا يقبل نأمة معارضة، أو تلميحة نقد، أو حتى دعوة إصلاح، من أي نوع، ومن أي مستوى، ومن أي طرف.

3- رفاق الطريق

خلال اعتقالي عام 1987 نصحني المحقق بالاعتراف بانتمائي لحزب العمل الشيوعي، فنحن، قال، نحمل المعتقدات الأيديولوجية ذاتها، وإن لا خلافاً سياسياً كبيراً بيننا، كما، تحديداً، بين النظام والأخوان المسلمين، الذين يمكن اعتبارهم أعداءنا المشتركين. ثم خرجت بعد أربعة أيام من التحقيقات والمواجهات، ثبت لهم فيها أني لم أكن عضواً ولا حتى صديقاً لحزب العمل، لكن ما عرفته بعد ذلك أنهم أبقوا بضيافتهم كثيرين من أعضاء حزب العمل، وأحزاباً يسارية معارضة أخرى، مدداً زمنية تتراوح بين الأربعة أعوام، وهي بعرف السوريين أقل من أن تذكر، والثمانية عشر عاماً.

4- الانتقام ليس سوى ردّ للجميل

لا أظن فريقاً من المعارضة السياسية السورية، يستطيع الادعاء، بأن مابدأته (درعا) في 15/3/2011، كان بتدبير، أو حتى بتهيئة، منه. فبعد ربيع دمشق الخاطف حل شتاء قاحل، يابس، جاف، أوصل المعارضة لقناعة، أنه لا يمكن أن يجري أي تغيير في سوريا إلّا من خلال النظام، وبواسطة النظام. وهذا كلام نقله لي صديق كان يرأس أحد أهم أحزاب المعارضة. لكنّ ما لم يكن يتوقعونه، وما لم يكن يحلمون به، قد حصل!. فكان أن وجدوا أنفسهم ممثلين له، وناطقين إعلاميين باسمه، وليس قادته على الإطلاق، ذلك لأن القيادة كانت تتطلب تواجداً على الأرض، وانخراطاً في الحراك، قصروا عنه، وبالتأكيد أنا لا أعمم، ولا أتكلم عن أفراد، لا بل أنهم سرعان ما وجدوا أنه من الأفضل أن يبتعدوا ما أمكنهم، وذلك لأسباب معروف جلّها لا كلّها. فخرجوا من البلد خوفاً من أن تصل إليهم قبضة النظام وتشد على أعناقهم، لترمي بهم للمرة الثانية والثالثة في فنادقه الوطنية. الأمر الذي أضاف على مظالمه لهم، ظلم قلعهم من بيوتهم وتهجيرهم ونفيهم. وكأن (الثورة) السورية، بعرفهم، لم تقم إلاّ لتقدم لهم فرصة الانتقام على طبق ساخن.

5- خاتمة غير موفقة

في النصف الثاني من عقد الستينيات، كان القاص اللاذقاني (ع.ا.ر) يردد: “خير لبسنادا شر لنا، وشر لبسنادا خير لنا”. رحمك الله يا (أبو علي). كنت تقولها مازحاً، إلّا أننا أخذناها على محمل الجد، وشاركنا بها جميعنا في تمزيق وطن..

https://hunasotak.com/article/27281

سعفة الضحية الذهبية/ نائلة منصور

للأسف، لستُ مُجترِحَة هذا التعبير الجميل: «سعفة الضحية الذهبية». فقد ورد في أدبيات المحرقة وما بعد المحرقة النازية، وتكرّر مضمونه وتكرّرت دلالاته في شهادات ناجين من المعتقلات ومنظّرين ومؤرخين لتلك الفترة من الحياة البشرية، وفي كثير من التجارب الإبادية للإنسان، حيث يقوم الضحايا بمفاضلات فيما بينهم.

في كتابه تنافس الضحايا ينقل الكاتب جان ميشيل شومون شهادة سيمون فيل، إحدى الناجيات من النازية، والتي أصبحت فيما بعد وزيرة الصحة الفرنسية ونائبة في البرلمان الفرنسي، ولها فضل كبير في النضال النسوي في فرنسا وفي تشريع الاجهاض، عمّا عايشته بنفسها أثناء تجربة اعتقالها في المعسكرات من نزاعٍ عنيف بين مختلف أصناف المعتقلين، بين المعتقلين السياسيين المقاومين، الشيوعيين على سبيل المثال، وبين المعتقلين عرقياً مثل اليهود أو الغجر. تروي كيف حاولت مرةً هي وصديقتها التقرب من فتاة تتكلّم الفرنسية عثرتا عليها في المعسكر: «مارسلين»، فردّت عليهما هذه الأخيرة بعنف شديد «اذهبا إلى الجحيم»، والخلفية التي ترويها سيمون فيل هي اتهام المقاومين لليهود بالتخاذل والهرب وعدم المبادرة لمقاومة النازية. وتنقل كذلك أن النازيين كانوا يفاضلون بين الضحايا كمعاملة يوميةً، وأن اليهود كانوا دائماً في أسفل سلم البشر. الأسوأ هو استبطان ذاك التحقير، فتكرار القذع من نوع «ذباب الخراء» جعل الكثيرين يخجلون بهويتهم لسنوات عديدة بعد المعتقل. والخجل والمقارنات بين الضحايا تتراكب وتتعقد مع مقارنات أخرى، هذه المرة مع ضحايا من الفئة نفسها، سياسية كانت أم عرقية، فاليهودي العائد من معتقله بعد سنوات الحرب كان يخجل من عودته، يخجل لأن شهادته عن الفظيع ستلقى إحدى ردتيّ فعل: إما أنه يكذب، فالفظيع ليس فظيعاً وإلا لما نجا، أو أنه متعاون بطريقة ما مع النازي حتى استطاع النجاة. النجاة وصمة عارٍ ومادة احتقار. كذلك فإن الضحايا يستشرسون في استعادة شيءٍ من الاعتراف، استعادة غالباً ما تكون عنيفة وغير ناجعة في استرداد كرامة مهدورة، بل تصبح حالة سيزيفية من المقارنات غير المنتهية بين الضحايا لا تأتي أكلها. المنتصر الوحيد فيها هو الميت، حامل السعفة الذهبية للضحية. فكرة عبّر عنها ببلاغة الرسام الكاريكاتيري الفلسطيني السوري هاني عبّاس في رسم له حول «الداخل» السوري و«الخارج» السوري وذاك السجال الساخن، الذي ليس سخيفاً على الإطلاق كما ظنناه، بل هو حامل رمزي لكل ذاك العنف السوري المستبطن ، المستبطن خطاباً ولغةً قبل كل شيء.

لا نعرف كيف تمت مقاربة الوضع السوري من وجهة نظر نفسيّة، إلا أنّه لا ينبغي لتلك المقاربة أن تتجنب في معالجتها النسق الإبادي كحالة قصوى يتعرض لها البشر، ويستبطن فيها الأحياء «الناجون» العنف بطريقة غير مُدركة دائماً، يتواطؤون فيها مع الجلّاد لإتمام ما لم يتمكن من إتمامه، يمكّنونه من أنفسهم ومن مواطنيهم بأيديهم وبروحهم.

الإبادي الجسدي له امتدادات نحو أشكال موت أخرى ليست بالضرورة جسدية، منها الحرمان من فعل القول الإنجازي1 (performative) بسبب الخوف، ولكن كذلك بسبب الذنب. وتدمير التصورات الذهنية الإيجابية عن الذات والإخراس. تهديم التصورات الذهنية الإيجابية عن الذات؟ هل من سوري لا يعرف تلك السينيكية اللغوية، حين كانت أجهزة الأمن تترفع أحياناً عن توقيف ناشط ما، غير خطير، حتى «لا تصنع منه بطلاً في أعين الآخرين». لقد تسللت هذه اللغة إلى خطاب الجميع، وارتاح الجلاد الكبير من مهمة التدمير المعنوي. الكل مدمِّر. وتدمير الكلام وفعل القول كإبادة يمارسه الجميع. السوريّ لا يعترف للسوري الآخر بأي صفة اليوم. لا بطل ولا منفي ولا مقاوم ولا سياسي ولا ثوري ولا ضحية، في الوقت عينه يثبّت السوري نفسه والآخر في صورة الضحية كي يستكمل الموت غير المنجز، محاولاً في الآن نفسه احتكار الجائزة.

واللغة الإباديّة مبهرة في قدرتها على الإفلات، مهما حاولنا عقلها. التركيز على التذنيب والموت، مثلاً، بدل التركيز على بطولة من قاوم ليبقى حياً وكريماً وليس مجرد ناجٍ، وهو ما نجده في خطاب المعارضين للنظام كما في خطاب المؤيدين، ذلك التركيز ليس إلا تكريساً لبلاغة النظام الإبادية متمثلة في أبهى حللها في خطاب السيدة الأولى ذات الرداء البنفسجي الذي ألقته في حضرة ممثلي الأمانة السورية للتنمية، حيث مفردات مثل «الديموقراطية»، «الحرية»، «الكرامة» نظمت الخطاب لتبيد لغة الثورة الأولى بالانقضاض عليها، ولتحقن بدلها لغة تذنيب لكل من نجا من سطوة النظام. هذا القتل يعيده السوريون كل يوم تجاه بعضهم بعضاً بقسوة رمزية لا تقل عن قسوة النظام، إذ لا أحد شرعيٌ في أي جسم سياسي أو مجتمعي إلا الشهيد.

موضوع الداخل والخارج مجرد مثال، ولا يهمّ الحدث المحرض للسجال المتعلق به، فهو سجال صغير ضمن حروب لغوية تدميرية، قد تأخذ أحياناً لبوس النقد والنقد الذاتي، بقدر ما يهمّ تفكيك اللغة التي تُستخدم لتحطيم الاعتراف وجعل الآخر غير مرئي أو مُباد. إن بقينا ضمن المثال نفسه وثنائية الخارج والداخل، فيبدو أنه ينبغي حظر المفردات الموحية بشيء من التفرد أو الإيجابية على تجربة الخروج من الوطن، ينبغي استبدال كلمة «المنفى» بكلمة «فرار» أو «هروب»، فكلمة «منفى» رومانسية، وتعريفها هو التالي: «الهروب من الوطن قسرياً بأمر من حاكم» (وهذا ليس شططاً شخصياً، هذا فعلاً ما قاله أحد السوريين الدواخل في لقاء مع المغتربين الخوارج في إحدى العواصم الأوروبية، مستغرباً أن عدد الذين خرجوا من ألمانيا أثناء الحرب العالمية الثانية لا يضاهي عدد السوريين الذين خرجوا من بلادهم مؤخراً) وحال اللاجئين السوريين لا يسمح بهكذا لقب: «المنفي». كيف يسمح اللاجئ، المالك للغته وأدواته (فليس الحال أن كل السوريين اللاجئين مهتمون بهذه التسميات) لنفسه أن تضفي هذا البعد الجمالي على خراء اللجوء، وهو الفارّ الذي لم يُجبره أحد على الخروج من عدن بلاده؟ كيف؟ هذا قول إنجازي عن معاشه (معاشه هو) لا يُسمح به. كلمتا «فرار» و«هروب» (بالمناسبة ما الفرق بينهما؟ علينا أن نتأكد، يبدو أن الفرق متعلق بوشوك الخطر) لا تندرجان ضمن استخدام فردي، فهو عنف يؤسس له، تيار، يتحرر أحياناً من أناقة المجاز ليقول مثلاً، عبر وسائل التواصل الاجتماعي «نضفت سوريا من درناتها» أو «اخرسوا»، يقابله تيار آخر يرى في «الداخل» ضحية أقل، لم تَمُت، فهي إذاً متواطئة مع الجلاد، ويغفل في خطابه، عمداً أو دون عمد بشكل غير واعٍ، وجود مجتمع سوري (مدني) مقاوم ومستمر رغم قسوة العيش. قد يكون قاسياً أو غير سديد تماماً أن نستذكر حنة آرنت حين قالت إن اللاجىء يتمنى موت من بقي في البلاد ليرتاح، إلا أن السلوك المتشنج للخارج الذي يرفض رؤية السوري الباقي إلا كميت حتماً، يضغط باتجاه هذا الاستذكار.

من النزيه أن نلتفت إلى هذا الجانب من هزيمتنا، المحققة قبل زمن من هزائم أخرى. ألأمُ درجات العنف، التي أوكَلنا بتأديتها الجلّاد العام مرتاحاً، هو هذا العنف النفسي المركب: سأواصل قتلك معنوياً ريثما يقتلك النظام فيزيائياً، عندها ستكون الضحية. بانتظار ذلك سأتابع أنا حمل السعفة الذهبية للضحية لأني عانيت أكثر منك. وضمن كل ذلك سأنكر لغوياً لفظة «ضحية»، فهي مذلّة وغير كريمة.

المشكلة في هذا السباق المحموم للقتل الرمزي من أجل نيل السعفة الذهبية هو أنه غير منته. المفاضلات بطبيعتها غير منتهية، فهناك من جاع وحوصر، وهناك من اعتُقل، وهناك من خرج منذ الأشهر الأولى للثورة، وهناك من خرج بعد سنتين، وهناك من خرج بعد خمس سنوات، وهناك من عايش الكيماوي ودفن الشهداء في المقابر الجماعية بيديه، وهناك من عاش منكوداً دون أثمان هائلة بهذا المعنى، وهناك من رأى مدينته مدمرة، وهناك من يعيش ضمن الغوطة الشرقية ولكن ليس في دوما نفسها بل أبعد قليلاً عن الضرب المباشر. هذا أيضاً يُذنّب في مفاضلات صغرى غير مرئية لنا، ليس لأن هناك ما يذّنب عليه ولكن لأنه أريد لنا الموت بأشكال عديدة. لن ينتصر أحد في هذا السباق إلا من أراد لنا الموت بأشكاله كلها. والحل؟ لا يمكننا رد ما يجتاح أحاسيسنا، يمكننا ربما رد الآثار الهائلة، وربما مقاومة رغبة الجلاد برؤيتنا ميتين أو متحجرين دون كلام. هذا أعقد تفكيك لإبادة، ولكن عساه يكون مُتاحاً.

  1. الفعل الأدائي الانجازي هو فعل الكلام المرتبط بفعل اجتماعي، «زوّجتك» «افتتحت الجلسة» «دشنت». وفي تطور نظرية اللغة والتداولية كل الكلام هو فعل أدائي انجازي وليس ما ذكرناه فحسب.

موقع الجمهورية

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى