صفحات الناس

داخل عواصف الغبار السورية

 

 

فورين بوليسي

استعرض تقرير نشرته مجلة «فورين بوليسي» الأمريكية الأوضاع الصعبة، التي واجهها المركز الدولي للبحوث الزراعية في المناطق الجافة «إيكاردا»  في سوريا، التي تعاني من حرب امتدت لخمس سنوات حتى الآن.

التقرير الذي كتبه الصحفي «بيتر شفانشتايجر» قال: «في 15 يوليو (تموز) 2012، تلقى محمود الصلح في المركز الدولي للبحوث الزراعية في المناطق الجافة «إيكاردا» الأخبار التي كان يتخوف منها منذ فترة طويلة: أن مقاتلي المعارضة السورية باتوا قريبين جدًّا من مقر المركز قرب حلب. باعتباره المدير العام للمنظمة مع 600 موظف، ونفقات صافية قدرها 71 مليون دولار في عام 2014، فقد كان على وشك أن يغلق معظم العمليات».

وأضاف التقرير أن اقتلاع المنظمة الزراعية الأكبر في الشرق الأوسط كان إنذارًا مبكرًا، لا يحمد عقباه، للفوضى التي اجتاحت غالبية سوريا. ولكنه لم يأت على قدر من المفاجأة للموظفين في المركز الدولي للبحوث المترامي الأطراف، ذات الـ 2500 فدان «إيكاردا» في قرية «تل حديا».

كأعضاء في منظمة مكلفة بتعزيز الأمن الغذائي في سوريا، كانوا يعرفون أن واحدًا من الأسباب الكامنة وراء الصراع -الظروف الزراعية السيئة التي غذت سخطًا شعبيًّا في جميع أنحاء البلاد- لم يكن يمضي على نحو أفضل. لسنوات، شاهدوا معاناة السوريين القرويين عن قرب، وقلة سقوط الأمطار، وخفض عوائد المحاصيل، ودفع المزارعين من أراضيهم، والذي أدى في نهاية المطاف بالبعض منهم إلى حمل السلاح.

كفاح ويأس

أحد مربي النباتات في إيكاردا تحدث إلى تقرير «فورين بوليسي»، شريطة عدم الكشف عن هويته؛ لأنه في بعض الأحيان ما يزال يعمل في سوريا قائلًا: «بعد السنة الأولى من دون المطر، بدأنا نرى الناس تكافح الكثير. بعد الثانية، كان هناك يأس».

وأضاف بقوله: «وبعد السنة الرابعة، لم تكن حقًّا مفاجأة أن نراهم يتمردون».

تقرير «فورين بوليسي» نقل عن الصلح أيضًا قوله: «تردي الأوضاع أدى إلى هجرة قسرية من المناطق الريفية إلى المدن. مع المزيد من الهجرة، كان هناك المزيد من البطالة. بالتأكيد في أوساط الشباب، كان هناك الكثير من الإحباط».

ولكن في عام 2012، بعد اختطاف اثنين من فنيي المختبرات من قبل مجموعة متمردة محلية، جنبًا إلى جنب مع زيادة طفيفة في مناوشات على الطريق السريع المجاور، فقد اتخذ رحيل «إيكاردا» فجأة منحى جديدًا.

بحسب التقرير، كانت المنظمة قد وضعت سابقًا خطط الإخلاء، ونقلت أكثر من 100 من المهندسين الزراعيين المغتربين، وعلماء المياه إلى مطار حلب. الموظفون السوريون نقلوا التكنولوجيا الأكثر قيمة في المحطة إلى مرافقهم في وسط المدينة، أثناء توزيع 400 من أغنام «إيكاردا» بين المزارعين المحليين لحفظها. سرق أكثر من ثلثي القطيع، وأُكل قبل أن يتم ترتيب نقله إلى المراعي الجديدة في لبنان.

تابع التقرير قوله بأنه، وفي حين استمر الوضع في التدهور في خريف عام 2012، فقد سارع 100 من الموظفين المتبقيين، وجميعهم من السوريين، لاستكمال عمليات الإخلاء. أخذوا قراءات اللحظة الأخيرة للمشاريع البحثية، لمدة عشر سنوات، وجابوا السوق السوداء لتأمين وقود الديزل لمولدات الكهرباء لبنك البذور.

وذكر التقرير أنه عندما تولت ما وصفها بـ«الميليشيات المتمردة»، بما في ذلك جماعة «أحرار الشام» السلفية، السيطرة الكاملة على «تل حديا» في عام 2012، اضطر الباحثون المتبقون إلى مغادرة مقر «إيكاردا». وكما هو الحال مع أكثر من نصف الشعب السوري، فقد انتشروا في عموم البلاد، وإلى الدول المجاورة. مع القليل من الأمل في تراجع وتيرة الحرب، ليست هناك ترجيحات كبيرة بأن يتم استخدام معرفتهم التقنية في إعادة بناء البلاد في أي وقت قريب.

لكن بعض الخبراء والموظفين السابقين، الذين قاموا بتقييم أنشطة «إيكاردا» الماضية، يتساءلون إذا ما كان ذلك لم يكن أمرًا سيئًا. المشاريع التي سعت إليها المنظمة داخل سوريا بالتعاون مع حكومة البلاد تخضع الآن لعمليات تدقيق من النقاد. ولا يتعلق الأمر بالنوايا الأخلاقية للمنظمة، ولكن أيضًا بالكفاءة المهنية.

«إيكاردا» وعائلة الأسد

قال التقرير: «ثمة مأساة كبرى تجري، ولكن أيضًا هناك بعض السخرية في رحيل «إيكاردا» القسري من سوريا. يرجع السبب الذي تم من أجله وضع المنظمة هناك في المقام الأول، في جزء كبير منه إلى حافظ الأسد، والد بشار، والذي أعرب عن أمله بأن المنظمة ستمنع جفافًا كارثيًّا، من النوع الذي يؤجج الآن الحرب الجارية في البلاد».

وأوضح التقرير أنه بينما تأسست في ذروة الطفرة السكانية في الشرق الأوسط في السبعينات، فقد تم تفويض «إيكاردا» للقيام بمهام تحسين الزراعة في بيئات «مهمشة» في جميع أنحاء العالم، حيث جعلت سوء ظروف التربة والمياه من إنتاج المحاصيل على نطاق واسع أمرًا صعبًا.

وفقًا للتقرير، فقد كانت المنظمة تنتوي أصلًا العمل عبر الحدود في لبنان، ولكنها بدأت تبحث عن قواعد بديلة عندما انفجرت الحرب الأهلية في بيروت في عام 1975. وكان الأسد الأب، الحريص على زيادة الإنتاج الغذائي في سوريا، وبالتالي عزل نظامه من الضغوط الخارجية، منح المنظمة هذا العرض الجذاب من الأراضي إلى الجنوب من حلب، وبعد عامين لم تعد قادرة على الرفض.

اليوم، «إيكاردا» تتلقى تمويلًا من مجموعة من الدول وجماعات التنمية، بما في ذلك الحكومة الأفغانية، والوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، للعمل في عشرات البلدان في جميع أنحاء العالم. في وقت انسحابها من مقرها السوري، كان أكثر من 120 مشروعًا خارج سوريا تجري على قدم وساق، من السودان إلى أوزبكستان.

ولكن الكثير من اهتمام المنظمة خصص لسوريا. حتى الآن، فإن السلطات المنكوبة ماليًّا في دمشق تدفع لـ «إيكاردا» المستحقات السنوية التي تبلغ نصف مليون دولار. «يقول مدراء كبار: إنه بات من الصعب على نحو متزايد الحصول على الأموال لمشاريع في شرق البحر المتوسط، في الوقت الذي يعيد فيه المانحون توجيه عطاءاتهم تجاه اللاجئين في سوريا».

ساعدت المنظمة سوريا في كسب سمعة، حتى وقت قريب، كقوة زراعية في المنطقة. لأكثر من عقد من الزمان، كانت البلاد مكتفية ذاتيًّا فيما يتعلق بالحبوب، وقامت بتصدير القمح إلى الأردن ومصر. بالنسبة للعديد من الدول المجاورة، والتي تنفق بانتظام مبالغ كبيرة من المال لشراء المواد الغذائية الخارجية، فقد بدت سوريا صورة للصحة الزراعية.

ولكن لم يكن كل ذلك على ما يرام، وواجهت التدابير المتخذة لتحويل سوريا إلى قوة زراعية في المقام الأول تحديات كبرى. رعت الحكومة التوسع في الأراضي الزراعية، والتي نمت من حوالي 1.5 مليون فدان في منتصف الثمانينات، إلى ما يقرب من 3 ملايين فدان بحلول عام 2000. كما ضاعفت تقريبًا عدد الآبار، الأمر الذي ارتبط بانخفاض منسوب المياه الجوفية. في محطة «تل حديا»، سجلت «إيكاردا» انخفاضًا بلغ 40 مترًا في منسوب المياه المحلية بين عامي 1984 و2010. وعندما انعدم سقوط الأمطار ابتداءً من عام 2006، تحول المزارعون إلى المياه الجوفية للري التكميلي، كما كان الحال خلال فترات الجفاف الماضية. ولكن وجد أن العديد من الآبار باتت جافة، أو باتت المياه مالحة.

التقرير أشار إلى أنه لم يغب عن أعين الحكومة السورية مخاطر المياه الجوفية المستنفدة، وانتقلت لمعالجة الإفراط في استخدام مياه الآبار. ولكن بعض الحلول، من منظور بيئي بحت، لم تسهم سوى في زيادة المشقة الريفية. في مايو (أيار) 2008، خفضت السلطات في دمشق بشكل كبير دعم الديزل، ورفعت أسعار الوقود من 7 ليرات سورية (0,14 دولار) للتر الواحد إلى 25 ليرة (0,53 دولار) بين عشية وضحاها. بالنسبة لكثير من المزارعين الذين كانوا يعانون بالفعل مع انخفاض عائدات الدخل، كانت التكلفة المتزايدة لتشغيل المضخات، ونقل بضائعهم إلى الأسواق، القشة التي قصمت ظهر البعير.

نقل التقرير عن «أحمد طالب»، وهو مزارع سابق من بلدة بنش، وهي تبعد 5 أميال من محطة «إيكاردا»، قوله: «كان كل شيء من الطقس للحكومة سيئًا، ولكن بعدما زاد سعر النفط، أصابنا اليأس».

وأضاف التقرير أن حقيقة أن «إيكاردا» كانت شريكًا مقربًا من الحكومة السورية، في الوقت الذي تابعت فيه دمشق هذه السياسات غير السليمة، يعني أنه يجب الآن أن تتحمل قسطًا من اللوم، كما قال اثنان من الموظفين من ذوي الرتب المتوسطة للمنظمة. ربما كبار مديريها، الذين يتمتعون بعلاقات وثيقة مع مسؤولي النظام، يمكن أن يكونوا قد دفعوا أصدقائهم نحو تغيير المسار.

«لقد كانت ثقافة من الإذعان واللامبالاة»، هكذا قال أحد مربي النباتات في «إيكاردا»، والذي تابع: «لا أحد يرغب في أن يكون شجاعًا».

محمود الصلح، المدير العام، يرفض هذه الحجة، مصرًا على أن «إيكاردا» لديها اختصاص محلي محدود، وأنها عقدت حتى جزء من الصفقة لعدة عقود من خلال مساعدة زيادة الإنتاج الغذائي بشكل عام في سوريا.

يقر الصلح أيضًا، مع ذلك، أن استخدام البلاد من المياه كان «غير مستدام». وأضاف أن الوضع «لم يكن الأمثل».

بحسب التقرير، فإن «إيكاردا» لديها سبب وجيه للقلق من عواقب معارضة الحكومة السورية. كان المواطنون العاديون يخشون من التحدث علنًا ضد الحكومة، التي تشتهر بتبني مواقف غير متسامحة مع المعارضة. على ما يبدو كانت المنظمات الدولية كذلك أيضًا.

التقرير نقل عنا عن «أدريانا بروجيمان»، المتخصصة في الهيدرولوكيات في معهد قبرص، التي عملت مع «إيكاردا» في حلب لمدة 11 عامًا، قولها: «سوريا كانت بلدًا مضيفًا، ونحن كنا ضيوفًا عليهم. ولا يمكنك أن توجه سهامك نحو مضيفيك».

وبينما ازدادت وطأة الوضع المائي الصعب، وخرجت عن نطاق السيطرة، فقد وجد المزارعون أنفسهم أيضًا يواجهون مجموعة من الأمراض النباتية، وبعضها عزاه المهندسون الزراعيون لتغير المناخ.

«الفقر وتغير المناخ والأمن الغذائي، وزيادة السكان تزداد سوءًا، وبوتيرة سريعة، حتى أنني أعتقد أنها أسرع من المعدل الذي يمكننا من عمل التحسينات»، هكذا نقل التقرير عن «حسن ماتشلاب»، مدير إيكاردا في لبنان.

النتيجة للمزارعين، مثل «طالب»، كانت النزوح القسري من منازلهم. انتهى الحال بطالب في إحدى أحياء المهاجرين بحلب في عام 2010، قبل أن يتوجه جنوبًا إلى وادي البقاع في لبنان عندما ساءت الحرب في عام 2012. كانت المدينة إلى جانب قوات المعارضة في بداية الحرب، وقُصفت في وقتٍ لاحقٍ بكثافة من قبل القوات الحكومية.

هجرة العقول في سوريا

إذا كانت سوريا ستتعافى من الحرب التي لا تظهر أي علامات تذكر على أنها ستنتهي قريبًا، فستكون هناك حاجة ماسة لأمثال «إيكاردا». اعتمد حوالي 50% من المواطنين بشكل مستدام في دخلهم على الزراعة قبل الثورة، ومع إصابة مساحات من البنية التحتية للري في البلاد بالشلل الآن، وتشويه بعض التربة في زمن الحرب، فإن الاقتصاد الريفي بحاجة إلى كل مساعدة يمكن الحصول عليها.

لهذا السبب، ووفقًا للتقرير، فقد عملت «إيكاردا» على الحفاظ على وجودها في سوريا طوال فترة الحرب. ظل عشرات الموظفين وراء مكاتب المنظمة في حلب في منطقة حازمية التي تسيطر عليها الحكومة، حيث راقبوا ممتلكات «إيكاردا»، وشاركوا في العديد من الدراسات الزراعية مع نظرائهم في الحكومة السورية على مشارف المدينة.

على الجانب الآخر من خطوط المعركة، تواصل المنظمة علاقاتها بشكل ضعيف مع القرويين. وتتلقى «إيكاردا» إعفاءً من وزارة الخزانة الأمريكية لإجراء المعاملات في البلد الخاضع للعقوبات.

قبل كل شيء، «إيكاردا» عازمة على منع تدمير بنك البذور الثمينة، الذي بني للحفاظ على التنوع الجيني للمحاصيل في منطقة الشرق الأوسط، ويحتوي على 143 ألفًا من البذور. العديد من العينات كانت موجودة في مكان آخر في العالم حتى عام 2012.

وعلى الرغم من بعض عمليات نهب الأغنام التي جرت بجانب السياج الحدودي، وعدد من السيارات القديمة، فإن المحطة بأكملها على ما يبدو لم يلحق بها أذى إلى حد كبير.

تجنبت «تل حديا» وطأة الغارات الجوية الحكومية. علي شحادة، الذي أدار بنك البذور، وهو أكبر مسؤول متبقٍ في حلب، يقول -بحسب التقرير- إن مجموعات المعارضة التي تبادلت السيطرة على المنشأة على مدى السنوات الأربع الماضية، تدرك قيمة بنك البذور ولم تمسه بسوء.

وتابع: «أعتقد أن تأثير وسائل الإعلام العالمية.. قد ساعد. لدينا انطباع أنهم يعرفون كيف يساعد سوريا والعالم».

ولكن التقرير ذكر أنه حتى إذا انتهى الصراع قريبًا، وبقيت «تل حديا» آمنة، فإن «إيكاردا» لن تعمل مرة أخرى في سوريا كما فعلت قبل الحرب. وبينما ما يزال واحد على الأقل من البيطريين في عداد المفقودين، بعد أن كان قد تم الإفراج عن اثنين من فنيي المختبرات، تبقى الذكريات أليمة للغاية بالنسبة لبعض الموظفين للعودة.

أخيرًا، قال الصلح: «كنا سذجًا. كنا نظن أن الحرب ستدوم ربما لعام، وبعد ذلك يمكننا أن نعود».  وأضاف: «لكن لن تكون الأمور كما كانت قبل ذلك».

هذا المقال مترجمٌ عن المصدر الموضَّح أعلاه؛ والعهدة في المعلومات والآراء الواردة فيه على المصدر لا على «ساسة بوست».

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى