صفحات الرأي

داعشية الأشجار/ محمد حجيري

 

 

 

يروي الرحّالة أمين الريحاني في كتابه “تاريخ نجد الحديث وملحقاته”: “أن الحادث الخطير في دعوة محمد عبد الوهاب هو قطعه لشجرة الذيب”، ويقول: “إنه كانت في وادي حنيفة شجرة مشهورة بعجائبها، هي شجرة الذيب، وليّة الفتاة طالبة الحبيب، والأرملة ذات القلب الكئيب، والزوجة حاملة الطيب، تبتغي الابن الحبيب”. وهذه شجرة بحسب المندفعين إلى الوهابية “يعتقد الجهلاء بصلاها وبركتها، يعلّقون الخرق عليها، رجاء أن يسلم المولود من الموت إن ولدت المرأة ذكرًا”. وبعد قتل الشجرة أو إعدامها، “تبعه أنصاره في تدمير القباب وتحطيم القبور بما فيها قبور أصحاب النبي محمد” (ولا تفاصيل واضحة عن نوع الشجرة في مواقع الانترنت)…

أما الحادث الثاني الأكثر خطورة في دعوة مؤسس الوهابية، بحسب الريحاني، فكان رجم امرأة اتهمت بالزنا في ساحة عمومية. يكتب الريحاني: “رُجمت الزانية! فسرى خبرها سير البرق في البوادي والحضر، ووقع وقع الصاعقة في القلوب الأثيمة والقلوب الطاهرة، فسكت أناس، وصاح آخرون”.

هاتان الحادثتان، أي قتل “الشجرة المباركة”، ورجم المرأة “الزانية” هما الأكثر دلالة على الدخول في متاهة التاريخ والحاضر للحديث عن مصادر الظاهرة الداعشية المتطرفة، وعن النظرة إلى الأشياء (القبور، الأشجار، المقامات التماثيل)، وإلى الجسد (الزنا، الجلد، الرجم، الحجاب). وقضية الأصل الداعشي لا تتعلق بالمرحلة الوهابية أو بابن تيمية أو الحنبلية، بل تعود إلى الإسلام الأول، إلى الإسلام ذي الوجوه المتعددة والكثيرة والمتشعبة، والأصل الداعشي أيضا يعود في فصول منه إلى مراحل ما قبل الاسلام.

ربما يدرك من يقرأ النص الإسلامي مغزى ما نقول، وذلك بسبب وجود سُورٍ في القرآن تقول أمرًا، وسُورٍ أخرى تقول أمرًا يُخالفه. ثمة اختلاف بين روحية الآيات المدينية والآيات المكية، بين إسلام “الفتوحات” وإسلام “حروب الردة”، وبين إسلام الجزيرة وإسلام الشام. يرى الخبير الألماني، راينر هيرمان، أن مَن يساوي الإسلام بالإسلامويين المتعصبين ينخدع بأفكار المتطرفين الدوغمائيين، ويخطئ أيضًا في تقدير عدد المسلمين الذين يعملون على تكييف عقيدتهم مع متطلبات العالم الحديث. المشكلة ليست في الإسلام بحدّ ذاته، بل في المسلمين الذين يطبّقونه.

في كلّ حقبة وعصر، كانت توجد في العالم الإسلامي جماعات إرهابية. ففي القرن الثاني عشر، شكّل الحشاشون واحدة من هذه الجماعات الإرهابية. أمَّا في يومنا هذا فيمثّلها تنظيم القاعدة بمتفرعاته. صحيح أنَّ هذه الجماعات كانت ولا تزال خطيرة، لكن لم تنشأ عنها حركات جماهيرية، بل على العكس من ذلك.

الإسلام “طبقات” (ابن سعد) ووجوه ومراحل صنعتها الأحداث لا يمكن اقتصاره على نص من هنا أو نص من هناك. والراجح أن الأحداث والوقائع كانت تفرض نصها الديني، ومع الزمن يتحوَّل الأخير أقنومًا محكمًا بالأقفال ويرفض الأسلاف فتحها… ونورد رواية أمين الريحاني من أجل الحديث عن مصادر “داعش” وأصله وفصله، لنقل ما نستطيع قوله، إن “داعش” لا ينفصل على الإسلام التاريخي وحتى “النصي” والقرآني، لكن الجانب الذي ينتسب إليه هذا التنظيم في الإسلام يُعتبر نقطة في بحر. ثمة متطرفين عبر العصور الإسلامية، في كل مرحلة كانت تفرزهم الأزمات والصراعات، لكن الإسلام التاريخي يتكيّف باستمرار باعتباره دينًا يتطوّر ديناميكيًا.

ليست شجرة “الذيب” الأولى التي تحمل رمزية معينة وتُقطع في التاريخ الإسلامي، فقد شاعت وذاعت لدى العامّة والخاصّة قصّة قطع عمر بن الخطاب لشجرة الحديبية التي تمّت البيعة المباركة عندها، وخلّد القرآن ذكرها. ويُحكى أن الخليفة عمر كان شديد الغيرة على الآثار النبوية، لذلك لما رأى الناس مجتمعين على شجرة زعموا أنها شجرة الرضوان التي حصلت عندها بيعة الرضوان، وكان الخليفة عمر يعرف حق المعرفة أن الشجرة غير معروفة ولا أحد يعلم مكانها، فأمر بقطعها وبدأت التأويلات حولها.

بين شجرة البيعة (الرضوان) في زمن عمر بن الخطاب، وبين شجرة “الذيب” في زمن محمد بن عبد الوهاب، ثمة قرون من الزمن، وتظهر الرمزية في الشجرتين، ميل الناس المتعبدين إلى الرموز أو ما يسميه بعض المغالين في الدين بـ”البِدع”. والعبرة الأهم من قطع الشجرتين أنه علامة من علامات الدين الشمولي، وغالبًا ما تروى هذه الوقائع للحديث عن الوهابية، إما للقول إنها متشددة، أو لتبيان أنها نشأت في خضم الترهل الديني والقبلي.

حصل قطع “شجرة البيعة” في الإسلام الأول وزمن تأسيس الدولة الإسلامية، وحدث قطع “شجرة الذيب” في زمن تأسيس الوهابية والمملكة السعودية، وبين تأسيس الدولة الإسلامية وتأسيس الدولة الوهابية- السعودية، ثمة ما هو أبعد من الديني، تفرضه الوقائع والأحداث الاجتماعية والسوسيولوجية، وتقر به العقول ذات التوجه العقلاني والعلمي والعلماني. فالباحث المصري خليل عبد الكريم في كتابه “قريش من القبيلة إلى الدولة المركزية”، يعتبر أنه لم يكن من وجود فعلي ومحسوس، قبل ظهور الإسلام، لديانات أخرى في الجزيرة العربية، عدا اليهودية والمسيحية، وأن النظام القبلي الجاهلي كان الوحيد السائد آنذاك. ويؤكد الباحث وجود وانتشار ديانات أخرى بنسب متفاوتة، ما كان عاملًا مساعدًا في تغيير الوعي الديني، وقدّم دفعة كبيرة لتقبل الديانة الجديدة ولتجاوز النظرة الوثنية. وأن هذه الديانات مهّدت لعقيدة التوحيد، التي كانت العامل الأهم في توحيد القبائل العربية المتناثرة في الجزيرة، وإعطاء قريش السيادة والقيادة التي كانت تطمح إليهما وتحضّر لهما من سنين خلت، حين استيقن زعماء قريش (خصوصًا أجداد النبي) بأن النبوة هي الطريق الوحيد الذي سيضمن حماية قريش ورفعة العرب… وما يُقال عن القبيلة في زمن الإسلام الأول، يُقال عن القبيلة والجزيرة العربية في زمن محمد بن عبد الوهاب، وقد بيّن ذلك الكاتب السعودي تركي الدخيل في كتابه المثير “الوهابية بين الشرك وتصدع القبيلة”.

الإسلام الآن، لم يعد شجرة لها جذعها وغصونها، بل تحوّل غابة “ملل ونحل” (الشهرستاني) أو عشرات المذاهب والفرق. والقضية أنه يجب أن يدرس خارج سياقه التقديسي الأقنومي. وما حصل في تأسيس الإسلام الأول سيتجدد في الزمن الوهابي، إذ لم تكن لدى الكتّاب الجرأة في تفكيك تاريخ الإسلام الأول حتى وقت قريب، فبقيت ثقافة تمجيد الوحي طاغية على كل شيء. حتى الوهابية تحولت أشبه بالديانة الجديدة غير الملعنة.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى