صفحات سوريةعماد مفرح مصطفى

“داعش” .. الدولة الملثمة/ عماد مفرح مصطفى()

بِوجوههم الملثمة خلف راياتهم السوداء، وإخفاء أسمائهم الحقيقية، خلف أسماء وكنايات إسلامية قديمة، يُثير عناصر تنظيم دولة الإسلام في العراق والشام “داعش”، الكثير من الأسئلة في البيئة السورية الثائرة، تلك البيئة التي قطعت كل علاقة تربطها بالخوف والتخفي، أو بالمواربة وعدم الوضوح في كشف أسماء القادة الحقيقيين لحراكهم الثوري.

وإذ تركز كل التحليلات التي تتناول هذا التنظيم الغامض، بكونه أحد أوجوه الدولة الأمنية “العميقة” في سوريا، والذراع الخفية لأحابيل وألاعيب المخابرات الأقليمية والدولية، إلا أن معظم تلك التحليلات، لم تبحث في العوامل والمسببات السورية الخاصة، المرتبطة بالوضع الداخلي المركب، وما خلّفه العنف السياسي للدولة والنظام على مدى عقود، في جعل البعض، يتطلع إلى “داعش” كمشروع خلاص من “دولة البعث العلمانية”، حيث يمكن وصف ما “يعتمل” داخل وعي “الأغلبية السنية”، وإن بسويات مختلفة، “بالغبن التاريخي” من مخاذلة “العروبة” وتنظيماتها لهم، مع تحول السلطة إلى ممارسة نوع من “الفاشية الطائفية” تحت غطاء شعارات رومانسية، تستدل إلى وطنية مفقودة.

ترافق ذلك الغبن مع الفقر الاقتصادي والسياسي في البيئة الريفية، وخصوصاً في أرياف حلب ودير الزور والرقة، حيث تنتشر “داعش” حاليا، مع توحش منظومة الحكم، وتبنيها لمنظومة “اقتصاد السوق الاجتماعي” وتهميش الأرياف، وإرتفاع معدلات الهجرة باتجاه المدن الرئيسية والسكن في العشوائيات، كل ذلك مهد الطريق “للعصبوية السنية” لتتغلغل في النفوس، كآلية للدفاع عن النفس، في مواجهة نظام أمني متعدد المخالب والأوجه، بعد انتحار “البعث” في السلطة، وونسيانه “العمال والفلاحين وصغار الكسبة” الذين حكم باسمهم.

والحقيقة أن تلك “العصبوية” لم تظهر كتعبير سياسي واضح، خلال الفترة الأولى من عمر الثورة، مخافة تكرار سيناريو الثمانينات، وانفضاض “الأقليات” من حولها، لكنه وجد طريقه مع تصاعد العنف الممنهج، الذي راهن عليه النظام في تغيير المعطيات على الأرض لصالحه، ترافق ذلك، مع السماح لانصاره بممارسات تمّت إلى “الفاشية الطائفية” بأقصى صورها ضد المناطق “السنية “دون غيرها، لمعرفته، أن صيغة رد العنف بالعنف، لا تتوافق إلا مع ثقافة القوى المنادية بالإسلام السياسي، ذات الصبغة الجهادية، والقدرة الإستيعابية للإستقطاب والتعبئة، وإعطاء بعد مقدس للتضيحة المقدمة.

هكذا، ومع ترك السوريين لمصيرهم في مواجهة آلة الموت، وإهانة وإستفزاز كل الأعراف وأخلاقيات الريف السوري، توفرت الظروف النفسية لدى السوريين، لملاقاة واستقبال ثقافة تمجد الموت والإستشهاد، وتجعل من التنظيمات التي توسم نفسها “بالطهارة”، الأكثر حضورا وفاعلية على الأرض. بناء على ذلك، بات من الضرورة إعادة النظر في علاقة الثقافة السورية بالعنف، وجعلها موضع بحث وتشكيك، بعد كل العنف والإجرام الذي تعرضت له، وتحول في إثرها “العنف والتفاؤل الثوري” إلى نوع من “العدمية المفرطة”، دفعت الكثير من السوريين إلى تبني مشروع “داعش”، المتجاوز “للدولة والكيانية السورية” وعنفها، بكونه، يطمح إلى إقامة “دولة إسلامية”، توفر الأرضية المناسبة للإنضمام والذوبان في المحيط الأقليمي ذات “الأكثرية السنية”.

ومثلما دفع العنف الحالة السورية إلى التطرف وزيادة التنافر بين مكونات المعارضة، كذلك أفقدها الإطار الوطني والثقة اللازمة للتنسيق بين تلك المكونات، الأمر الذي استفادت منه دولة “داعش” الملثمة والتنظيمات المتفرعة عن “القاعدة”، بالاستيلاء على المناطق الريفية، مستغلة حالة المعارضة الواقعة في الإضطراب والانفعالية، وعجزها عن بناء أسس ومعايير شبه مؤسساتية، تضمن العلاقة السليمة بين مكوناتها العسكرية والسياسية والمدنية. وفي هذا الاتجاه، تقع المسؤولية الكبرى في صعود جماعة “داعش” وأخواتها، على عاتق المعارضات السياسية المشرذمة، وترددها وخشيتها، من بيان طبيعة علاقتها “بالاسلام السياسي”، ومن عدم وضوح رؤيتها لطبيعة الدولة المستقبلية. هو تردد سهل على الجماعات المتشددة استغلال الشعور الديني المتأجج في ظل الصراع المتنامي، وتوجيهه وفق مصالحها.

“داعش” اليوم، وبكل شفافية، هي جزء من الحالة السورية وصنيعتها. لذا، بات من الضروري أن تقدم المعارضة وبكل تبايناتها، لا بالإكتفاء بإصدار بيان من هنا، وإستنكار حادثة من هناك، بل يتطلب الأمر، إعلان رفض هذه الجماعة وممارساتها، وفضح مموليها، وتحجيم قواتها على الأرض، وحسم خيارها بين مشروع تلك الجماعة و مشروع “الثورة السورية”.

() كاتب سوري

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى