صفحات العالم

داعش: المشكلة في الإستراتيجية/ عبد الحسين شعبان

 

 

على نحو مفاجئ أصبح تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) خطراً كونياً، ارتبط اسمه بتخطّي حدود سايكس/بيكو وضمّ العراق والشام في دولة واحدة، وإعلان تنصيب زعيمه أبو بكر البغدادي خليفة للمسلمين والمطالبة ببيعته والولاء له، وإلا فإن عقاباً صارماً سينال من يمتنع عن ذلك.

أما غير المسلمين فلهم خيار دفع الجزية أو الدخول في الإسلام الداعشي “المتأسلم” أو الرحيل، كما خضع أهل دولة التنظيم لأوضاع قاسية وغير معهودة على جميع المستويات.

اللافت هو أن إعلان الدولة الإسلامية (داعش) -وهي دولة للتطرف والتعصب- جاء متزامناً مع مشروع الدولة اليهودية النقية في “إسرائيل”، وكأنه يُراد أن يُقال دولة يهودية نقية مقابل دولة داعشية سنّية بمواصفات الإلغاء والإقصاء والاستئصال للآخر، علماً بأن الطائفة السنية بريئة من داعش براءة الذئب من دم ابن يعقوب.

المشكلة ليست في تطرف داعش أو تعصبها أو عنصرية الصهيونية ودمويتها، بل في الإستراتيجية الكونية للولايات المتحدة، وخصوصاً إزاء الشرق الأوسط.

ورغم إعلانها الحملة الدولية الثانية لمكافحة الإرهاب الدولي ضد تنظيم داعش، بعد أن كانت الحملة الأولى ضد تنظيم القاعدة في عام 2001 وإثر أحداث أيلول/سبتمبر الإجرامية الإرهابية، فإنها لا تزال قلقة وغير مستقرة.

ولهذا يتردد على لسان كبار المسؤولين الأميركان أن المعركة طويلة الأمد وتحتاج إلى خطة لوجيستية متكاملة جوية وأرضية، نصفها يحققه الأميركان ونصفها الآخر تتولاه الجيوش النظامية على الأرض، بما فيها من قوات شعبية موالية (العراق/الحشد الشعبي) أو معارضة (سوريا/الجيش الحر).

ولكن هل ولدت داعش لتعيش طويلا؟ وكيف ظهرت ووفق أي اعتبارات تقدّمت؟ ومن أين جاءت فجأة بهذه الإمكانات والقوة والخبرة العسكرية والتأهيل الإداري والخطاب الديني والإعلام المؤثر؟ بحيث يمكن غسل الأدمغة والتأثير على الشباب وكسب بعضهم إلى جانبها، سواء بسبب البطالو والحاجة إلى المال، أو رد فعل ضد سياسات خاطئة اتسمت بالتمييز والعزل.

لعل هذه الأسئلة وغيرها تواجه الباحث في الإستراتيجية الأميركية التي اتسمت في مواجهة الظاهرة الداعشية بالكثير من التناقض والغموض، ناهيكم عن التردّد بين الاندفاع والنكوص، وبين الانخراط والتفرّج، حتى وإن كانت الطلعات الجوية الأميركية قد بدأت قصف بعض مواقع داعش ملحقة أضراراً بها، ولكن دون أن تحقق النصر المنشود.

خصوصاً بصدور القرار 2170 في 15 أغسطس/آب، والقرار 2187 في 24 سبتمبر/أيلول 2014، اللذين قضيا بملاحقة تنظيم داعش ووضع قيادات منه على لائحة المطلوبين، وفي مقدمتهم أبو محمد العدناني الناطق الرسمي باسمه وعدد من قادة التنظيم، لكن ميزان القوى كما يعلم المتخصصون -لا سيّما العسكريين- لا يحسم إلا ميدانياً وفي ظل تقدم أرضي، حيث ينتشر الداعشيون بين الناس، في الجوامع والمدارس والبيوت والمحال التجارية والدوائر الحكومية وغيرها.

لقد كانت داعش موجودة في الموصل على سبيل المثال منذ أكثر من عام على استيلائها الرسمي عليها، مثلما كانت موجودة في محافظة صلاح الدين ومحافظة الأنبار، وتتمدّد في محافظتيْ كركوك وديالى، لكن المعلومات التي كانت بحوزة الكثير من المعنيين لم تشغل كثيرا الحكومة العراقية، ولم يتم رصد ذلك من جانب الولايات المتحدة المرتبطة باتفاقية إطار إستراتيجي مع الحكومة العراقية منذ عام 2008، كما أنها لم تف بالتزاماتها لتسليح الجيش العراقي وتأهيله، وهذا الأخير عانى من الفساد والترهل، وغياب العقيدة العسكرية.

لقد كانت داعش وليدة سياق طبيعي بيئته الأساسية الاحتلال الأميركي للعراق ونهج المحاصصة الطائفية والإثنية، وسياسات التهميش والإقصاء، بما فيها محاولات التحكّم الشيعي للأحزاب الدينية، والتهميش القصدي للجماعات السنية، التي حاولت تكوين معادل نوعي للجماعات الشيعية، ولكن الأمر اتخذ مسار شحن طائفي اندفع إليه الطرفان على نحو محموم، يضاف إلى ذلك العوامل الإقليمية والدولية، التي يشجّع بعضها هذا الفريق وبعضها يشجّع نقيضه، في إطار توازن مختل للقوى، خصوصاً في ظل وجود إيراني قوي ومؤثر.

لم يكن في وارد الاحتلال الأميركي إعادة بناء الدولة على أسس جديدة أفضل من السابق، بل انخرط في لعبة التوازن والتفاضل والتقاسم وفقاً لأغلبيات وأقليات طائفية وإثنية، وهو ما اندفعت إليه الطبقة السياسية بقضّها وقضيضها تقريبا، واتخذ الصراع شكلاً طائفياً وإثنياً، لدرجة الحديث عن مفاهيم وممارسات تتعلق بالطوائف والمناطق المقفلة، وعمليات تطهير طالت مدناً وأحياء بكاملها، سواء في العاصمة بغداد أو البصرة أو ديالى أو كركوك.

إضافة إلى ما لحق بمجموعات دينية أو إثنية من استلاب وعسف، كما حصل للمسيحيين والإيزيديين والصابئة المندائيين والشبك والتركمان والكلدوأشوريين وغيرهم.

وهؤلاء جميعا جرت محاولات لاستئصالهم أو اضطرارهم إلى الهجرة، لتفريغ العراق من بعض سكانه الأصليين الذين سبقوا العرب والإسلام في بناء حضارة بلاد الرافدين أو ما بين النهرين (ميزوبوتيميا).

هل في وارد واشنطن القضاء على تنظيم داعش أم تحجيم دوره وإضعاف تأثيره، كما تردّد كثيراً بعد احتلاله الموصل؟ فنصف معركة أو نصف حرب يعني إستراتيجية لا تستهدف تحقيق النصر، وستبقى المشكلة قائمة ويمكن أن تتجدّد كل يوم، بل وكل ساعة.

ثم ماذا يعني تسليح 100 ألف من السنّة وتسليح البشمركة الكردية خارج نطاق موافقات الحكومة الاتحادية، أليس ذلك إضعافاً للدولة وتبهيتاً لهيبتها؟ ثم ماذا سيبقى من سيادتها إن كانت لها سيادة أصلا؟ أم إن ذلك أمر مقصود تمهيداً للتقسيم الواقعي (De Facto) حين يصبح الأمر الواقع “واقعا”.

لعلّ المناسب والملح هو تسليح الجيش العراقي، وهو بدوره يمكنه تسليح البشمركة باعتبارها إدارياً ومالياً جزءا من تكوينات القوات المسلحة العراقية، كما يمكن تسليح أبناء المناطق المتضررة كجزء من الانخراط في الجيش وقوى الأمن الداخلي والحرس الوطني، لأن الخطر سيكون فيما بعد داعش، وهذا سيعني التحضير للجلوس على برميل بارود يمكن أن ينفجر في أية لحظة.

ولعلّ امتلاك السلاح يوازي استخدامه أحياناً، وحتى الحشد الشعبي لا بد من حله أو إلحاقه بالجيش النظامي، مثلما يتم إلحاق أبناء المناطق الأخرى بالجيش، ويكون الجميع تحت مرجعية الدولة وحدها.

ولا أظن أن أحدا ما امتلك سلاحا وحارب به سيقوم بتسليمه طواعية. إن ذلك ضرب من الوهم أو اللعب الذي لا يقنع حتى الأطفال، فما بالك بسياسيين يفترض أنهم يفهمون ما خلف السياسات، خصوصا بالنسبة لواشنطن، إلا إذا افترضنا أن في ذلك تهيئة لصراع مديد.

لقد كان فشل الحكومة المالكية سببا في قيام الحكومة البغدادية -وفقا للتفويض الإلهي- التي فرضت “الخلافة”، وفي كلا الحالين هناك محاولات لإدخال الدين في السياسة أو إدخال السياسة في الدين، بهدف التحكّم في جماعات ناقمة سواء كانت في السابق أو في الحاضر.

فهل سيصبح الجو لأميركا أي استخدام الطائرات، والأرض لإيران أي قوات الحشد الشعبي، على حد تعبير مسؤول أمني رفيع المستوى نسب إليه مثل هذا التصريح؟ ثم ماذا سيكون مصير العراق؟

لقد ظهرت داعش استغلالا للفراغ الموجود في المناطق الغربية من العراق إثر احتجاجاتها التي استمرت ما يزيد على عام، لا سيما في ظل عدم إيجاد حلول لها، إضافة إلى أن ظهورها جاء بعد الفشل في إخراج المالكي من الوزارة بالانتخابات التي سجّلت فوزاً له، الأمر الذي أصاب الكثير من الأطراف بالإحباط، حيث وجدوا في إعلان داعش مناسبة للإطاحة بالمالكي، وهو ما أُجمِع عليه عراقياً وأميركياً وإيرانياً لاحقاً للإبقاء على الكرة في ذات الملعب.

وكان لسيناريوهات داعش في القتل والإرهاب وظيفة للهيمنة على العقول والنفوس بالقوة المنفلتة، لتطويع المجتمعات التي سيطرت عليها، وكذلك لإدخال الرعب لدى الأفراد وربطهم بها.

فهل سيكون وجود داعش ضروريا لإعادة ترتيب أوراق الدولة العراقية، سواء عبر التقسيم الذي سيكون هادئاً وناعماً، بل وأفضل “الحلول السيئة” قياساً بحرب أهلية وصراعات مسلحة بين داعش والدولة العراقية؟ ولكن مثل هذا الحل قد ينهي الدولة العراقية التي نعرفها، وربما هذا هو المطلوب إذا استذكرنا مشروع جو بايدن نائب الرئيس الأميركي.

كانت الهواجس قبل الإطاحة بصدام حسين تتعلق بما بعده، خصوصا أن واشنطن لم تفصح عن خطتها سوى بعموميات، وحَكَم البلاد بول بريمر الحاكم بأمره كما تم وصفه، وأصدر القرارات على مسؤوليته وحده، وكان على الفاعلين السياسيين التأييد والتأييد فقط.

ومن أخطر القرارات التي اتخذها قرارُ حل الجيش، ولعلّ مثل هذا القرار -إضافة إلى قرار اجتثاث حزب البعث- كان وراء وصول الأوضاع إلى ما وصلت إليه وصعود ظاهرة الإرهاب.

المشكلة هي في الإستراتيجيات إذن مثلما كانت ولا تزال حتى الآن، لا سيّما في إستراتيجيات الولايات المتحدة، قبل احتلالها العراق ثم انسحابها منه عام 2011 أو بعد عودتها إليه، عبر ترحيب ومطالبة من قوى سياسية فشلت في مواجهة داعش والإرهاب من جهة، مثلما فشلت في تحقيق توافق وطني للقضاء على الطائفية والفساد المالي والإداري المستشري، والانطلاق لبناء دولة عراقية بأفق إستراتيجي جديد وموحّد، على أساس المواطنة الكاملة والمساواة التامة واحترام حقوق الإنسان.

الجزيرة نت

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى