صفحات الرأي

“داعش» بالنظر إليها كقصة فشل للدول والمجتمعات/ إبراهيم غرايبة

 

 

تقتضي سلسلة الازدهار والتقدم بداهة تكريس الاعتدال والتسامح والتعددية والتنوع ومواجهة التطرف وتشكل المجتمعات حول مواردها ومدنها ثم إنشاء منظومة اجتماعية وثقافية تستجيب استجابة صحيحة وملائمة مع الموارد والاولويات والاحتياجات الناشئة للمدن والمجتمعات تستوعب جميع فئات المواطنين وتحفّزهم على المشاركة الصحيحة والنافعة وتخرج عمليات المشاركة العامة والبحث عن المعنى والجدوى من اللجوء إلى العنف والتطرف. وذلك يقتضي بطبيعة الحال البحث عن الاستجابات الخاطئة في حلقات تنظيم الموارد والمدن والمجتمعات وكيف تتحول الوفرة والمؤسسات الحديثة والتقنيات إلى العمل ضد نفسها أو تهيمن عليها فيروسات وخلايا سرطانية تدمرها!

إن الموارد في تجددها وتشكلها وتوزيعها وإنتاجها تنشئ قيادات ونخباً اجتماعية واقتصادية وسياسية وفرصاً وأعمالاً ووظائف وأسواقاً، وفي متوالية الفرص والموارد تكون عمليات تنظيم التنافس عليها، فتتشكل أول منظومة «شريرة» عندما لا يكون في مقدور جميع المواطنين المشاركة في منافسة عادلة على الفرص والقيادة.

وهذا التنافس يقتضي تنظيمه استناداً إلى قوانين ومؤسسات تشريعية وقضائية تجعل الصراع والتنافس سلمياً وتتيح للمواطنين وعلى قدم المساواة الحصول على حقوقهم وحمايتها وتعزيزها، وتنشأ هنا الحلقة الشريرة الثانية عندما لا تكون ثمة مؤسسات كفية وعادلة لتنظيم التنافس وعندما تغيب سيادة القانون ثم المساواة التامة بين جميع الفئات والطبقات أمام القانون والمحاكم، ففي ظل هذا الغياب للعدالة والمساواة والمؤسسية الكفية والفعالة لتطبيق العدالة والقانون، يغيب عقد اجتماعي ويحل محله عقد اجتماعي آخر!

يغيب العقد الاجتماعي القائم على سيادة القانون والمنشئ لمؤسسات اجتماعية وإعلامية ومهنية تحمي المصالح والحقوق والمكتسبات والتنافس السلمي على الفرص والموارد ليحل محله عقد قائم على الاحتكارات والامتيازات والهيمنة على الفرص والأعمال وتوزيعها على أسس غير عادلة، كالقرابة والتبعية وحرمان المبدعين والعصاميين والمبادرين، ويتحول الصراع من سلمي إلى عنيف، لأن أصحاب الحقوق الضائعة يشعرون أنهم ربما يستعيدون حقوقهم وفرصهم المهدورة أو المغتصبة، وإن خسروا المعركة فلن يخسروا شيئاً جديداً لأنهم خاسرون أيضاً من دون المعركة، وتبدأ سلسلة من العنف والانتقام الذي يجعل الرجوع عنه صعباً أو مستحيلاً، فالنخب المهيمنة تشعر أيضاً بأنها لن تحمي مكتسباتها إلا بالعنف والبطش، فإن لم تنجح في ذلك فهي كانت ستخسرها من غير عنف أيضاً. وهكذا يصبح العنف هو الوسيلة الوحيدة الممكنة لحماية المكتسبات والحقوق أو الحصول عليها. وتصبح هذه هي القاعدة في الصراع وتنظيمه بدلاً من قاعدة أن التنافس السلمي هو الوسيلة الوحيدة لتحصيل الحقوق وحمايتها.

في هذا الصراع الصفري أو الوجودي لا مجال للتعددية والتنوع والمشاركة ولا التسويات والتنازلات. ثمة هيمنة كاملة أو هزيمة كاملة ساحقة، وحول هذا الصراع تقوم تجمعات وأفكار ومؤسسات ومدن ومصالح تترسخ وتتطور، وتصبح في اختلال الهيمنة معرّضة للزوال والتدمير، ولا يعود ثمة مجال أمام المستفيدين منها والمجتمعات والطبقات المتعددة المتشكلة حولها سوى الانخراط التام في الصراع والعنف، ويمكن بوضوح ملاحظة كيف انضمت قيادات وجماعات يفترض أنها حداثوية وليبرالية ويسارية إلى تشكلات طائفية وعشائرية لأنها غير قادرة على حماية نفسها او الحصول على مكاسب وفرص إلا من خلال هذه التشكلات وصراعاتها، فتتعزز التكوينات العشائرية والطوائفية بقيادات وخبرات متقدمة ومؤسسات إعلامية واقتصادية واجتماعية حديثة ومنظمة، وتنشأ الحلقة الشريرة الثالثة عندما يتحول التخلف والفشل إلى مؤسسة متقدمة تقنياً ومهنياً ومالياً. تخيل مثلاً الانترنت والأقمار الاصطناعية في خدمة الصراعات والقيم والأفكار العشائرية والطائفية!

ويلتبس هنا التقدم والتخلف والفشل والنجاح، فالموارد والمعارف والتقنيات تعمل لأجل حالة يفترض أنها تنشأ سابقة للوفرة والمعرفة، فتصبح البداءة متماسكة قوية وقادرة على إنتاج خطاب وثقافة ومؤسسات وجامعات، ولكنها تنتج العنف والكراهية والصراع المدمر، والمعرفة والافكار المعززة لهذا الخراب!

* كاتب أردني

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى