راتب شعبوصفحات الرأي

“داعش” بوصفه إصلاحاً دينياً/ راتب شعبو

 

 

بالفعل، قدم «داعش» الإسلام في صورة محرجة لغالبية المسلمين، واستند إلى القوة العسكرية والمادية في فرض نسخة «محنطة» من الإسلام على الناس، في المناطق التي سيطر عليها. جسد عسكري لافت في قدرته على أن يكسب مناطق واسعة في العراق وسوريا في غضون زمن قصير، مع رأس سياسي لافت في استخفافه بكل المعايير السياسية المعروفة، فلا يعبأ باستعداء كل الجهات من عرب وأكراد، من موالاة ومعارضة، من علمانيين وإسلاميين، ثم يتصرف في الوقت نفسه كأنه محمي وخارج دائرة المحاسبة، لا بل تصرف «داعش« كما يتصرف طفل أفسده الدلال، يجد متعة في استفزاز محبيه، واختبار طاقتهم على التحمل والسماح.

الكثير من المسلمين شعروا بالغيرة على إسلامهم الذي شوهه «داعش« بجعله غلافاً لأبشع صور القتل والتهجير والتمييز الطائفي والتعصب والانغلاق عن العصر..الخ. وفي الوقت نفسه التحق الكثير من المسلمين بـ»داعش« على أنه الأمل المنشود. التحق بداعش نوعان من المسلمين، نوع ينتصر لدينه وآخر ينتصر لنفسه. الأول يرى أن الإسلام السني يتعرض للضيم على يد «نظام علوي» في سوريا وآخر «شيعي» في العراق، فهو لذلك يلتحق بالجبهة الأكثر قدرة وجذرية (يمكن أن نقول إن «داعش« جذري في مستوى العنف وفي مستوى الانغلاق الفكري أيضاً) في مواجهة هذين النظامين. والثاني يرى أن حياته الشخصية بليدة وفاقدة للمعنى، ويجد في ظاهرة داعش أمراً طريفاً وجذاباً، يمكن أن يلون له حياته الباهتة بألوان صارخة. هذا النوع الأخير يجد تفسيره في ميدان علم نفس الأفراد، ولا صلة له بالكلام عن «داعش« كشكل من الإصلاح الديني. لكن الثابت أن لداعش جاذبية استقطبت عشرات الآلاف من الأنصار، ومنهم انتحاريون ومقاتلون مستعدون للموت في سبيل ما قاتل داعش لأجله، وأن لداعش، إلى هذا، جمهوراً مؤيداً لم يجد من هو قادر على الانتقام من قاهريه سواه. والجمهور المقهور والعاجز في الوقت نفسه، يؤيد أي قوة تنتقم له ويؤجل البحث أو التفكير في طبيعة هذه القوة إلى وقت لاحق. ينطبق هذا مثلاً على اللاجئين السوريين في لبنان، الذين رفعوا علم «داعش« خلال احتجاجهم ضد المعاملة المهينة من جانب الجيش اللبناني.

لا شك أنه ما كان لمثل ظاهرة «داعش« أن تأخذ هذه الأبعاد لولا أشكال خفية وظاهرة من الدعم العسكري والمالي والإعلامي وغيره، من جانب دول وأجهزة عملاقة، أرادت أن تستثمر سياسياً في مثل هذه التنظيمات، لكن الصحيح أيضاً أن كل هذا الدعم ما كان له أن ينتج هذه الظاهرة، لولا أن داعش شكل استجابة لحاجة الناس المقهورين لنسخة من الإسلام، تغطي نزوعهم للتمرد المجنون والدموي، ضد أنظمة مستبدة وقاهرة، أغلقت بعنف رهيب كل سبل التمرد العقلاني والسلمي ضدها.

فبين الإسلام السني الشعبي المستسلم على مبدأ «سلطان غشوم ظلوم خير من فتنة تدوم»، وبين الإسلام السني السلطوي المنافق، تأتي نسخة الإسلام الداعشي بصفتها نوعاً من الإصلاح الديني «الثوري». إذا كان الإصلاح الديني هو تطويع الدين لخدمة حاجات الناس المستجدة، فإن إسلام «داعش« استجاب لحاجة الناس في التمرد ليس فقط ضد نظام «غشوم ظلوم»، بل وأيضاً ضد معارضة ضعيفة الأداء، وصريحة التبعية للدول الممولة والداعمة. حالة الاستعصاء التي وصلتها عملية التغيير في سوريا كانت التربة الخصبة لازدهار الفكر العدمي التمردي الأعمى، الذي مثله «داعش«. يصل الناس إلى قبول أي شيء، بما في ذلك الانتحار، لمحاربة النظام الذي مارس كل هذا الفحش. فإذا كانت النسخة الحسونية أو البوطية من الإسلام السوري تدعو الناس بعد كل شيء إلى سلوك السبل الحسنى، فإن الناس سوف تعمل على «إصلاح» هذه النسخة، وتبتكر نسخة أخرى تغطي التمرد والرفض، مهما كان دموياً أو عنيفاً أو مجنوناً، كرد على البطش والقمع الدموي والعنيف والمجنون من جهة النظام.

اللافت أن الحديث عن الإصلاح الديني في الإسلام زاد بعد بروز ظاهرة «داعش« التي اعتبرها غالبية المسلمين مسيئة للإسلام. صارت صورة الإسلام بحاجة إلى ترميم بعد أن شوهها «داعش«، في حين أن «داعش« في الواقع هو الإصلاح الديني الذي يحتاجه الجمهور، المبتلى بأنظمة صادرت كل إمكانيات التغيير السلمي، أو حتى المحدود العنف، في المجتمع. ليس الإصلاح الديني عملية صيانة وتجميل لدين ما، بغرض جعله مقبولاً في نظر الآخرين، بل هو جعل الدين أكثر قابلية لاستيعاب حاجات الناس المتحولة. وفي لجة الصراع مع أنظمة «ظالمة وغشومة» وقمعية إلى حد لا سابق له، يشكل «داعش« الإصلاح الذي يناسب غريزة الجمهور في الانتقام، وإن كان لا يناسب حاجة الجمهور إلى التغيير. فحين يغلق الباب أمام التغيير الضروري، يطرق الناس باب الانتقام والعدمية.

على هذا، فإن كل كلام عن إصلاح ديني في الإسلام اليوم، إنما ينم عن ضعف في إدراك شروط الإصلاح الديني، التي هي شروط سياسية وليست دينية، وينم عن ضعف في إدراك معنى الإصلاح الديني الذي يعني إصلاح حال الناس وليس إصلاح حال الدين. ومن بؤس حالنا أن الإصلاح الديني الوحيد المتاح في حالنا هو إصلاح داعشي.

المستقبل

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى