صفحات سوريةغازي دحمان

درعا.. نهاية بلد/ غازي دحمان

 

 

لن تكون درعا هانوي ولا بطرسبورغ، فلا حلفاء يعتبرون صمودها قضية وجود، ولا نظام سورية، بات يتحكم بجميع مفاصله أطراف خارجية، يعنيه أن تستمر درعا على قيد الحياة، ما دام أن أهليها ليسوا أحبابه.

لكن، مهلاً، أين تلاشت فجأة الخطوط الحمر؟ ولماذا ابتلعت إسرائيل تهديداتها من اقتراب مليشيات إيران من حدودها؟ وماذا عن الجيوش البريطانية والأميركية التي قيل إنها تقف على أبواب درعا، وتتأهب لإخراج جنوب سورية كله من سيطرة نظام الأسد؟ وماذا عن احترام روسيا تعهداتٍ قيل إنها أعطتها لدول إقليمية، تتضمن تحييد درعا وإخراجها من دائرة استهداف طائراتها؟

قبل فترة بسيطة، زاد الحديث عن اجتماعات بعيدة عن الأضواء، جرت في عمّان، بين خبراء أميركيين وروس، جرى التركيز الأساسي فيها على إنشاء منطقةٍ آمنةٍ في جنوب سورية تشمل درعا والقنيطرة والسويداء، “ولا ندري لماذا تم استدخال السويداء ضمن هذه المناطق!”، وقبلها كانت روسيا وإيران وتركيا قد توصلت إلى اتفاق “مناطق خفض التوتر” الذي يصنف درعا منطقةً أساسيةً ضمن هذا الاتفاق، لكن المفارقة أن نتائج تلك الاتفاقات جاءت عكس ما تم ترويجه، وكأن ما يجري في الكواليس أصدق إنباءً من الأخبار التي يتم إلهاء الآخرين بها!.

ما لا يمكن إخراجه من خانة المعطيات الثابتة أن درعا بالفعل منطقةٌ تقيم على تماسّ حدود

“اجتماعات الغرف المغلقة في عمّان أنتجت تسوية أميركية – روسية على تقاسم مناطق النفوذ في سورية” أمن أكثر من دولة إقليمية، الأردن وإسرائيل، وأنها تندمج ضمن مصالحهما الأمنية في ظل تهديد المشروع الإيراني لكليهما، ما يجعل هامش التعاطي مع وضع درعا لا يحتمل مساحة مناورةٍ كبيرة، كما أنه لا يمكن المغامرة باللجوء إلى التكتيكات العسكرية والسياسية، لاختبار مدى صدق هذه المعطيات، فضلاً عن أن سنوات الحرب الست رسّخت معادلاتٍ وتوازناتٍ للقوى في درعا بات محرّماً المساس بها، ما دام الوضع السوري برمته لم يتغير، أو لم يدخل في طور التوافق بين الفاعلين المختلفين والتفاهم على حلول نهائية للأزمة، والدليل على ذلك أن الأطراف الحليفة للمعارضة أنشأت “غرفة الموك” للإشراف على إدارة المعارك في درعا، وكثيراً ما تدخلت في سير هذه المعارك، وتحديداً عبر منعها فصائل المعارضة، وهي في عز قوتها وذروة ضعف نظام الأسد، من التقدّم صوب دمشق، بانتظار نضوج التسوية بين اللاعبين الدوليين؟

فما الذي حصل حتى تنقلب المعادلة على هذه الشاكلة، بما يجعل الأطراف المختلفة تتنازل عن خطوطها الحمر، وتتراخى تجاه التغيرات الحاصلة على حدودها؟ أم هل نضجت الظروف بما يكفي لحسم الأزمة، وبما يلغي جميع الترتيبات التي تم اتخاذها سابقاً؟ أم أن ظروف ومصالح جديدة نشأت دفعت الأطراف إلى قبول الواقع الجديد والسماح بظهور التطورات الحاصلة؟

التفسير الأقرب إلى المنطق، ومن خلال المعطيات الجديدة، أن اجتماعات الغرف المغلقة في عمّان أنتجت تسوية أميركية – روسية على تقاسم مناطق النفوذ في سورية، بحيث تسيطر روسيا على كامل منطقة غرب سورية، من حلب إلى درعا، على أن يكون شرق سورية تحت سيطرة الولايات المتحدة الأميركية. وفي إطار هذا الاتفاق يضمن كل فريق مصالح الأطراف الإقليمية الحليفة له، كما يتحمل المسؤولية عن تصرفاتهم داخل المناطق التي يسيطر عليها.

“مع السيطرة على درعا، تنتهي الثورة السورية التي انطلقت سنة 2011 بمطالب وطنية”

نمط من التوافق شبيهٌ بما حصل في حلب بين تركيا وروسيا، وقد نرى قريباً ذهاب فصائل الجبهة الجنوبية إلى شرق سورية لقتال “داعش” تحت مسمى “فصائل درع الصحراء”، إلى جانب الأميركيين، نظراً للحاجة إليهم في تغطية مساحات شاسعة من الصحراء، وربما تم الاتفاق على استخدام هذه القوة لمواجهة مطامح إيران في إنشاء طريق لها من العراق إلى لبنان، فكما أن درعا ليست مهمةً واستراتيجية بالنسبة لأميركا، فإن الطريق الإيراني ليس حيوياً ومهماً لروسيا في حال تم خنق الفصائل المعارضة وإخراجها من خانة الفعالية.

ماذا يعني ذلك، وما هي انعكاساته المحتملة؟ التوصل إلى قرار دولي، أو على الأقل بين أميركا وروسيا، يقضي بإنهاء الثورة السورية وشطبها فاعلاً إقليمياً، وإنهاء الاستقطاب الدولي والإقليمي حولها، والسيطرة على مفرزاتها، ثم الانتقال إلى مرحلةٍ أخرى، عنوانها تقاسم النفوذ بين اللاعبين الدوليين، وذلك فيما يبدو أنه مؤشر على نهاية الأدوار الإقليمية التي تضخمت على هامش الحدث السوري، نتيجة اعتقاد اللاعبين الكبار أن جميع الأطراف الإقليمية أنهكت، ووصلت إلى مرحلة اللاجدوى، أو إمكانية إحداث تغييرات مهمة في مستويات الصراع، بما يستوجب احتواءهم ضمن استراتيجيات اللاعبين الأساسيين.

مع السيطرة على درعا، تنتهي الثورة السورية التي انطلقت سنة 2011 بمطالب وطنية، تهدف إلى تغيير أداء النظام السياسي، ووضع الواقع السوري على سكة تغييراتٍ تتناسب وطموحات شرائح سورية كثيرة. لكن، مع انتهاء هذه الثورة، تنتهي سورية القديمة على يد ثورة مضادة قادتها أطرافٌ كثيرة، وتشكل روسيا وأميركا أحد مكوناتها، إذ طالما بشّرتنا موسكو وواشنطن أن سورية القديمة يصعب أن تعود، وأن سورية القادمة يجب أن تكون على مقاسات التغيرات الكثيرة التي أحدثتها تطورات السنين السابقة.

العربي الجديد

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى