صفحات الثقافة

دروس الشخص

 

    يوسف رخّا

“الألم أعمق، لكن التحليق أعلى”

(سركون بولص)

في 25 يناير 2013، لم يبق من الثورة الكبرى سوى عبء التعامل مع ما خلّفته من كوارث أملاً في العودة إلى نقطة الصفر، فهل يكون التعامل بثورة كبرى جديدة؟ كيف يمكن تخيّل ذلك وإن أمكن، فلماذا علينا أن نتحمس له؟

الآن، وقد مُرِّر دستور رجعي تحت حكم “الإخوان المسلمين” في القاهرة، وفي انتظار أن يربح الإسلاميون أغلبية مقاعد المجلس التشريعي كذلك، يصطنع الكثيرون حماسة للذكرى الثانية على اندلاع الاحتجاجات في ميدان التحرير يوم 25 يناير بوصفها لحظة خلاص ثانية.

هذا ما نشهده

بدليل صعود “الإخوان” أنفسهم، المطروح إخراجهم من السلطة، لا يبدو أن الخاطر حاضر بما يكفي بأن 25 يناير الأولى، لم تكن لحظة خلاص أصلاً؛ ولا بأن درساً مستفاداً من ثمّ هو أن الخلاص لا يتحقق من طريق احتجاجات تؤدي إلى استبدال قبطان كذاب بآخر أكذب طالما السفينة معطّلة. الأرجح أن ما نشهده هو المراحل الأخيرة لانهيار منظومة مجتمعية مضعضعة منذ زمن طويل – وماذا يتبع الانهيار؟ ما الدور الذي تلعبه الأصولية الدينية في أي إعادة بناء محتملة؟ وإلى متى نفاق المسلمين عموماً وعنفهم وجهلهم كجماعة تظل عالّة على البشرية المعاصرة؟ – لكن هنا أيضاً تكرر المنحى العربي إلى الدفاع الهستيري عن شعار أو “فكرة” بلا نظر إلى محتواها على الأرض، فأصبحت “الثورة” متمثلةً في الاحتجاجات تغني عن نتائجها المباشرة، دعك من تأثيرات تلك النتائج أو مآلها؛ ولم يفز العقل المصري إجمالاً بأكثر من تصور “جمالي” عن المناهضة “السلمية” للطغيان: تصور “حنجوري” – كأسلافه – منبتّ الصلة بمعطيات حياة تبقي الفساد والفوضى والإقصاء واعتماد الدعائية والخرافة مقرونتين ببراغماتية مسعورة كوسائل تَحقّق آني لا يعيد قراءة الماضي، تالياً لا يملك تصوراً للمستقبل، لكنه يختزل الغاية السامية في شخص أو كليشيه مستعد أن “يناضل” من أجله… ولا أهمية عملياً لغير الصوت العالي: المظهر.

فخّ جديد؟

بعد عامين على “اندلاع الثورة” يفكر الشخص في ما تعلمّه من التجربة؛ وعوضاً من الفجيعة في ما حسبه مخرجاً غير مسبوق فإذا به فخّ جديد، يقيم احتفالاً فردياً ومعزولاً حتى عن أقرانه لإحياء الذكرى باعتبارها بداية معرفة قد تدفع ذات يوم إلى الطيران وإن ظل الطيران، حتى الطيران، رهين فضاء شخصي ضد التاريخ.

كثرت المصائب في الآونة الأخيرة: تصادمات وحرائق وقطارات تنفجر على قضبانها ومبان سكنية تتهاوى بلا سابق إنذار، وحتى هرب الوحوش من حديقة الحيوان… فضلاً عن أزمات مرور جهنمية وأعطال في الكهرباء وبرنامج اقتصادي سيؤدي إلى غلاء غير مسبوق، وكلها أمور تعكس خللاً في الترتيب أقل “قدرية” من المصائب. إلا أنه بينما يفسر “الإخوان” ومؤيدوهم “القضاء والقدر” على أنه مؤامرات مدبّرة هدفها تشويه “المشروع الإسلامي” وتقويض “نهضة” لم ير أحد من أماراتها سوى تصريحات السلفيين، وبينما يؤكد “التيار المدني” والمعارضة أن ما يحدث إنما هو دليل قاطع على فشل الرئيس مرسي وحكومة هشام قنديل – وخلال ذلك كله تتحول الأخبار “النحس” إلى مادة فكاهة لدى “الشعب” و”الثورة” بطبيعة الحال، فيذهب سامح سمير أشهر ظرفاء الـ”فايسبوك” مثلاً إلى أن ما يحدث لا يمكن أن يكون “تركة مبارك” كما يقول عنه “الرئيس البومة”، فهو أقرب إلى “تركة تارانتينو”! – لا يلتفت أحد إلى أن جذور هذه الأحداث في الإهمال والاستهتار ضاربة في التكوين النفسي والذهني لـ”الشعب المصري” نفسه في غالبيته الساحقة؛ لا يريد أحد أن يرى ما هو ماثل أمام عينيه ليل نهار من أن المسؤول عن المصائب طريقة حياة لم يخلقها نظام حكم أياً يكن، بل هي التي خلقته، وأن المواطن المصري في تعلقه بأنماط تفكير وعقائد وقيم أوصلته إلى ما هو فيه، عليه فعلاً أن يتغير. إن إخفاق النظام السياسي نتيجة إخفاق الإنسان وليس سببه، وعلى ذلك الإنسان بعد خبرة العامين المنصرمين بالذات أن يشرع في الاعتراف بالحاصل ويكفّ عن تمجيده المجاني لهوية خيالية غايتها الوحيدة هي دحض يقين الدونية أو قدريتها. وعلى ذلك الإنسان أن يكفّ عن الإصرار المجاني على نشاط احتجاجي لم يفلح في غير فضح الدونية نفسها. لقد تعلّم الشخص، في ما تعلّم، أنه من قبيل العته التام أن يظل يتحدث عن “إسقاط نظام” هو نفسه يمارس خطاياه يومياً في الشارع وفي البيت، في المواصلات العامة والعمل، ولا يملك تصوراً للمستقبل سوى مزيد من الاحتجاج على بدائل يعلم أنها ستكون أسوأ.

الأسئلة الحقيقية

يستخدم الشخص فعل الاصطناع للتدليل على أن “الثوار” و”الفلول” المتحدين الآن على معاداة الإسلام السياسي ليسوا متحمسين وإن أبدوا حماسة لأي “ثورة ثانية” أو “ثورة على الإخوان”. لقد ملّوا إعلانات لا منتهية عن قيام مثل تلك الثورة لم يفض أيٌّ منها إلا إلى مزيد من العطلة والوهم، ولم تؤثّر في مسار سياسي بدا حتمياً إلى حد الشك في أنه مرسوم مسبقاً أو أنه “مؤامرة كونية”؛ هؤلاء، مثلهم مثل الإسلاميين، ولا بدّ، يدركون وإن لم يعترفوا بإدراكهم، أن الأزمة فيهم هم بقدر ما هي في “الإخوان” أو حتى في مبارك، وأن عليهم أن يواجهوا أسئلة جذرية عن واقعهم المعرفي والأخلاقي فضلاً عن المادي والعملي هم غير جاهزين لها ولن يكونوا… وأن الثورة الحقيقية – الخلاص، والمستقبل – تكمن في إجابة فاعلة عن هذه الأسئلة. عبر استراتيجيا إنكار دفاعية (كما وصفها لي في حديث خاص صديقي الشاعر مهاب نصر)، ينكرون ليس فقط فتور حماستهم لتغيير تيقنوا من استحالته، ولكن أيضاً أن الوسطي في جوهره أصولي، والتوافقي في عمقه منبطح، كما أن المدني إسلامي “سوفت كور”، واليساري على امتداده عميل نظام قمعي، أي نظام: المهم أن تكون ماكينته قد فقدت كل توجه فكري بما يجعل من شعارات اليسار البائدة ديكورا “ديموقراطيا” مكملا. على المصري أن يعيد النظر في تديّنه مثلاً قبل أن يناهض نظاماً “إخوانياً”. فلم يعد هناك مجال للتساؤل أو الدهشة: مبرر وجود “التيار المدني” وفي القلب منه اليسار المناضل، هو التخديم على الإسلام السياسي بهدف مشاركته السلطة. لقد كتب الشخص كثيراً عن إحباطه في “المجتمع الثقافي” و”النخبة العلمانية”؛ ولعل إدراكه لغياب هذه النخبة وذلك المجتمع، كان أول دروس الثورة. فالحاضر، باستثناءات فردية، أشباه مثقفين وطلاب نفوذ لا فرق جذرياً بينهم وبين الإسلاميين من حيث الذهنية المضادة للمعرفة التجريبية والتنوع، الرافضة لأولوية المحتوى على المظهر (الواقع على الخطاب) والمتحايلة حتى الموت على المسؤولية الأخلاقية.

السؤال إذاً ليس عن “الإخوان”، السؤال عن الإنسان المصري. السؤال عن قدرة الإنسان المصري على تخيل واقع أفضل بدلاً من الاعتذار عن رداءة الواقع؛ وبحجج من قبيل الهوية والنهضة والمقاومة والكرامة والثورة، حرمان أصحاب الخيال من تخيل الممكن.

لم تكشف أحداث العامين المنصرمين خواء الحراك السياسي في ضوء القصور الذهني والأخلاقي لنخبته وعدم جدواه فحسب، لقد فضحت – وهذا الأهم – حدود طلائع المجتمع على مستوى الجيل والوعي والمعرفة: براثن الطائفة والحنجرة والبطولة والتباسها بمفاهيم الحق والواجب والصواب؛ وليس أمام الشخص إلا الأمل في التكون التدريجي لطلائع قادرة حقاً على أن “تعمل ثورة”.

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى