صفحات مميزة

دروس الكرديّ الصّغير


رائد وحش

(1) عرفته مليئاً بالعواصف في زمن العواصف. كأنّه جاء ليتحداها بأسلوبها وأدواتها، أو كأنه ردّ الفعل الطبيعي على الزمن.

في عيونه فضولٌ نَهِمٌ تشعر أنه يأكل المكان والأشخاص. حركة بؤبؤيه التي تجعله يبدو مخبولاً للوهلة الأولى، مع قليل من الوقت هي من سترميك إلى شرك الاستماع. عيناه الدائرتان كمكوك، أكثر من مجرّد عينين، هما روح ودم وفكرة.

في رأسه صواعقُ أسئلةٍ ورعود المعنى تجعلك تعود إلى مساءلة البديهيات: من أكون..؟ أينني..؟

في النهاية أمامك خياران، إما أن ترحّب بالجديد، فها هو ذا أخيراً يتجلّى شخصاً قبالتك، أو أن تأخذ بخيار من يظلّ يتحدث عن الجديد وكأنه لا جديد إلا ما يقول، وكي يبقى له أن يقول ذلك على الدوام يعلل الأمر بذلك التعبير السمج: ‘حماسة شباب’.

(2)

الاسم: دارا عبد الله.

العمر: 23 سنة.

العمل: طالب طبّ وكاتب.

العلامات الفارقة: العضلات.

… الاسم الغريب سيأخذك إلى معاني الأسماء الكردية الشهية، لتكتشف أنه اسم فارسي الأصل، ولكنه مثل الأسماء الكردية التي تتكرّر في الحياة السورية بكثرة، وتظل رغم تكرارها تحتفظ لنفسها ببريق سحري. ربما ستصنّف كثيرين على مبدأ ‘لكلٍّ من اسمه نصيب’، كما تفعل عادة في قراءة الشخص واسمه، لكنّ الحال معه يأخذك إلى القراءة الأبعد والأشقّ. فمع مثله يحتاج المرء إلى استعارة حالة غنوصية، ليتسنى لنا أن نرى الشخص في مرايا الاسم، ونرى الاسم مرايا لأشخاص وحيوات.

معه الاسم ضوءٌ عميق في الشخص، طاقةٌ سرية تصرّ الحياة على منحها لمن تعرف أنهم يأتون كي يضيفوا.

جاء دارا بروح التلميذ المتفوق من القامشلي إلى دمشق. هو الأول على دفعته في الشهادة الثانوية على مستوى محافظة الحسكة. لكنه لم يكن يشبه المتفوقين في شيء سوى في قدرته الهائلة على التنظيم. وخلال الوقت الموزع بشكل مدروس ومحكم يعيش طولاً وعرضاً ما لا يستطيعه أعتى الصعاليك.

استطاع خلال فترة بسيطة، وعلى هامش دراسته، فرض نفسه ببضع مقالات نارية، رحبت بها مختلف الصحف التي تواصل معها. مقالات فكرية عالجت مسائل حساسة في الراهن السوري المحتدم ‘أبرزها مقال: المسألة الطائفية في سوريا- جريدة المستقبل’، أو نصوص شذرية جمعت بين اللغة الشعرية والمتن الفكري، راح يكتبها مفردةً على صفحته في ‘فيس بوك’، ثم ينشرها جملةً في صحيفة ‘الغاوون’ الأدبية.

يبدو الطب سرياً في يومه، هو الأمر الوحيد الذي لا يحدث على الملأ، بينما يعرف من يعرفه أهمية المواظبة على تربية العضلات بالنسبة له، والإصرار اليومي ذاته على وقت كافٍ للقراءة. لا تؤخذ المسألة على أنها سير على حكمة ‘العقل السليم في الجسم السليم’، بل ثمة ما يجعلك تشعر أن هذا العقل ضاق به الرأس فراح يتمدد في الصدر والظهر والساعدين.

وفوق هذا وذاك وجد متسعاً للاعتقال. أو أن عين الاعتقال ضاقت على هذه الحياة الضاجة فأخذوه يوم 23/10/2012، ربما لأنه نموذج للجيل السوري الخطير، الجيل الذي تفتّح على الحياة بإعلان ولادة الثورة، وفيها ومعها تفتّح وعيه.

(3)

علّمني دارا أشياء كثيرةً خلال مدّة وجيزة.

علّمني ألاّ أتوقف عن القراءة مهما ضاقت بي الدنيا، فالقراءة هي الخلاص، ولا مجال للمزاجيّة معها. القراءة التي تعيد خلقك في وسعها أن تعيد إليك المزاج العالي والروح الشفافة. أعاد إلي إيماني بالكتب، وعالم الكتب. كان يقرأ كل شيء لأنه لا يستطيع كتابة كل شيء. يقرأ ليعوض عن نفسه نصوصاً أخرى كتبها سواه بحكم أسبقية التّاريخ والزّمن، أو بحكم اختلاف اللغات والثقافات، أو بحكم قصور الحيلة. وعلّمني قراءة الكتب الالكترونية، في النهاية المهم أن نكون مع الكتاب، وفي الكتاب، حتى لو كان لا يزال رُقماً أو جريْد نخلٍ.

علّمني الانتباه إلى السؤال، فكلّ كتابة، مهما بدت سلسة وهيّنةً، لا تغادر موقع السؤال.

علّمني ألا أصرف الوقت في مطاردة الفتيات لأنّ الاستهلاك الطائش يُفقدنا معنى الحبّ.

علّمني أن أخاف بصدقٍ، وأن أقول هذا الخوف، قول الخوف شجاعة القلب التي لا نعرف وهجها إلا بمرور الزمن.

علّمني أن الشبيحة ليسوا فقط ‘أصحاب الرؤوس الحليقة من الخارج’، بل ‘أصحاب الرؤوس الحليقة من الداخل’.

علّمني ألا أسكب كلّ ما لدي على ‘فيس بوك’، كان يصرخ: ‘كتابة الـ(بوست) ضائعةٌ، كأنّك تبصق في البحر. لا تضع فيه إلاّ الفائض والخفيف، ولتحتفظْ لمشروعك دوماً بروح الطّزاجة ورعشة المفاجأة’.

(4)

دارا عبد الله درسٌ في زمنٍ معلمُهُ الوحيدُ هو العاصفة.

raedwahash@gmail.com

‘ شاعر من فلسطين يقيم في دمشق

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى