ديمة ونوسصفحات الثقافة

دعوة عامة للموت/ ديمة ونوس

 

بعد ثلاث سنوات، ليس إيقاع الحياة وحده ما تغير في سوريا، بل إيقاع الموت كذلك. الموت الذي ترافقه طقوس لا بدّ منها، بات عبئاً على أهل الميت. ولم يعد الحزن على من فارقنا ورحل، صافياً. بل بات يشوبه همّ آخر ينسي الأهل حزنهم على مَن فقدوا من أبنائهم. هموم إجرائية تتعلق بطقوس الدفن والعزاء والنعوة. وفي حين يكتفي أهالي الضحايا في المناطق المحاصرة والخاضعة لسلطة الأمن والجيش والشبيحة، بجملة “إثر حادث أليم”، نرى نعوات الطرف الآخر من صفوف الجيش النظامي أو المقاتلين إلى جانبه، مليئة بعبارات مثل القائد البطل أو المجاهد البطل وتطبع صورهم ملوّنة على النعوات بلباسهم العسكري وبما يحملونه من أسلحة.

وتلك الصور التذكارية التي يلتقطونها، يعرفون مسبقاً ربما أن الغرض منها هو “زفّهم” لموت محتمل. عائلات أخرى تختار عبارات مؤمنة بقضاء الله وقدره توحي بسبب الوفاة ولا تخفي الخوف من إعلان الكراهية للطرف القاتل والمجرم، مثل: “بإيمان ورضى وتسليم، بقلوب مؤمنة بقضاء الله وقدره، آل… ينعون إليكم وفاة فقيدهم الغالي المرحوم الصيدلي الشاب حسن أحمد…، انتقل إلى رحمته تعالى عن عمر 24 عاماً وهو في ريعان شبابه ودفن في مدينة دمشق”. ولا ينسى الأهل وضع خطين غامقين تحت “الصيدلي” و”الشاب” و”24 عاماً”، لتذكير الناس بمأساتهم وبحجم الإجرام الذي يرتكبه النظام من دون أن يفصحوا عن ذلك.

أما في المناطق الثائرة أو المحرّرة فيحقّ للناس أن يكتبوا ما يشاؤون. في نهاية العام 2011، وكانت الأوضاع لا تزال مبشرّة بحلّ قريب، انتشرت نعوات في أحياء مثل الميدان ودوما وداريا والحجر الأسود والمزة شيخ سعد وغيرها من المناطق، تنعي قتلاها من دون أي تردّد بذكر أسباب الوفاة: “بسم الله الرحمن الرحيم، ولا تحسبنّ الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون، أهالي حي الميدان والشام و…، يزفّون إليكم شهيدهم الغالي الطفل…، الذي قتل برصاص الأمن والشبيحة في منطقة القدم عقب صلاة الجمعة… تقبل التهاني في صالة الأشمر..” أو “أهالي مدينة داريا يزفّون إليكم شهداء الحرية الذين سقطوا على أيدي الغدر والخيانة في المدينة” أو “أهالي بلدة زملكا الحرّة، ينعون إليكم شهداءهم الأحرار الذي لبّوا نداء ربّهم” أو حتى “آل… يزفون لأهالي دير الزور استشهاد الشهيد البطل أحمد… الذي اغتالته يد الغدر (المخابرات العسكرية والشبيحة وأعوانهم)، تقبل التهاني في دار جدّه”. واللافت في تلك النعوات المنتشرة في المناطق المحرّرة أو الثائرة هو الجرأة على البوح بأسباب الوفاة واعتبار العزاء، مجلساً لتقبّل التهاني باستشهاد البطل.

بينما في المناطق الموالية فللموت أسباب معلنة أخرى. “قوات الدفاع الوطني في حمص وريفها، أهالي وذوي الشهداء يزفّون إليكم بكل فخر واعتزاز، شهداءهم الأبطال الذين ضحّوا بدمائهم الطاهرة في سبيل تراب الوطن وعزة سورية الأسد”. أي أنهم يموتون فداء بيت الأسد. وأن الوطن مرتبط بشخص الأسد وبعائلته، فإن حكمه شخص آخر، لن يكون ذلك الوطن الغالي الذي يستحق التضحية. ومعظم تلك النعوات مذيّلة بعبارة “الدعوة عامة”. بما أن الموت تحوّل إلى شأن عام يخصّ كل السوريين.

هل يمكن لأحد أن يتخيّل كيف تحوّل الموت الطبيعي إلى استثناء في سوريا! بات الموت قتلاً أو تحت القصف والتعذيب أو دفاعاً عن “الوجود”، هو القاعدة. بينما المرض أو الحوادث الطبيعية هي الاستثناء. وذلك الاستثناء يثقل كاهل أهل الميت وأصدقائه والمحيطين به. توفي شاب سوري في لندن قبل أسابيع. شاب في الثلاثين، توفي فجأة. إنه استثناء. الحكومة البريطانية رفضت منح أهله فيزا للسفر إلى لندن وحمله إلى سوريا! والشاب ظلّ وحيداً في البرّاد لأكثر من أسبوع. وعلى الأرجح، دفن هناك. غرباء عنه، قاموا بدفنه. وأهله لم يودّعوه. فارقت الحياة أيضاً إلهام عبد اللطيف، صاحبة دار “ممدوح عدوان” وزوجته. لم يستطع الصديقان زياد ومروان عدوان مرافقتها إلى سوريا لأسباب أمنية. عادت إلى هناك وحدها، وكان في استقبالها أهلها ممن اختلفت معهم سياسياً خلال السنوات الثلاث الماضية.

وثمة من خرج من سوريا نهائياً ولجأ إلى أوروبا أو غيرها. ثمة من جهّز قبره قبل سنوات طويلة، إلى جانب أحبّائه، وها هو يخشى الموت هناك، بعيداً، ليس خوفاً من الموت بحدّ ذاته بل من الاستقرار في أرض لا تعني له الكثير. أرض غريبة، تربتها تحمل رائحة رطبة لم يعتد عليها، وإلى جانبه يرقد أشخاص غرباء يتحدثون لغة لا يفهمها، وذاكرتهم لا تمتّ إلى ما عاشه بصلة. السوريون وحيدون في الحياة كما في الموت. وحيدون إلى الحد الذي يتحول فيه موتهم إلى دعوة عامة، عامة جداً.

المدن

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى