صفحات الرأي

دفاعاً عن الثورات العربية

حسام عيتاني

أصبح انتقاد الثورات العربية، أو “الربيع العربي” رياضة يومية عند شرائح واسعة من الكتاب الذين يعبرون عن خيبة أملهم وأمل من ينطقون باسمهم بما آلت اليه الأوضاع التي علقوا على تغيير الثورات لها، طموحات عريضة.

الخوف والتخويف والتهويل مما ستجلبه الأيام المقبلة من كوارث على منطقتنا وبلادنا، يقوم على أسس عدة، منها ان “الربيع العربي” لم يحقق الوعود التي انطلق لتحقيقها. الحكومات التي تسنمت الحكم حيث نجحت الثورات، تحاول إما أن تقلد الاستبداد السابق وتصنع نسختها الخاصة من الإمساك طويل الأمد بالسلطة مستعينة بـ”الإسلام السياسي” على غرار تونس ومصر أو تتخبط بحثاً عن توازنات داخلية وخارجية تأتيها بالاستقرار، مثل ليبيا واليمن.

وفي رأي الخائفين والمشككين أن الثورات العربية فتحت أبواب المنطقة أمام مستقبل كالح السواد من الحروب الأهلية على خلفيات الهوية والدين، وتقدم النفوذ الأجنبي، التركي والإيراني والأمريكي والإسرائيلي، وضَربت الأنظمة السابقة التي كانت تدرك خطر وصول قوى إسلامية إلى السلطة، رغم كل علات تلك الانظمة وافتقارها إلى الديموقراطية وإلى احترام الحريات العامة والخاصة.

ومن المآخذ أيضا ان “الربيع العربي” يعرّض الأقليات الدينية والعرقية الى أخطار جسيمة بسبب هدمه لمنظومة العلاقات التي أرسيت على امتداد عقود، منذ نهاية حقبة الاستعمار الأجنبي المباشر، بين الجماعات المختلفة في هذه المنطقة. إعادة النظر في العلاقات هذه لن تجري من دون عنف ودماء واضطهاد للأقليات التي ستترك المنطقة العربية نحو المنافي البعيدة مخلفة التصحر الذي تبشر به الأصوليات الظلامية.

ويحضر العنف ضمن السلبيات التي جلبتها الثورات. وباستثناء تونس ومصر اللتين انتصرت فيهما ثورتيهما بعنف محدود مارسه نظاما بن علي ومبارك، لجأ اطراف الصراع إلى العنف عالي المستويات. ومعلوم أن استدخال القوة في التغيير السياسي يفرض آلياتها ومنطقها ومصالح القوى المساهمة بالعنف اثناء وبعد بناء السلطة المقبلة. وثورة تنتصر بالعنف محكومة باستمرار ممارسته ضد المجتمع والاستفادة من كل ميزات العنف لفرض سلطتها. فهو في نهاية المطاف تكثيف للمنطق الأحادي وأداته الأبرز والقادر على حسم أي خلاف لمصلحة الطرف الأقوى والأشرس.

وفي لائحة الهواجس والمخاوف تحضر أيضا قضايا المرأة والاقتصاد المتدهور وانتشار ثقافة متطرفة تضيق بأي نوع من الاختلاف.

هو مستقبل “اورويلي” [نسبة الى أجواء جورج أورويل وخصوصا في روايتيه “1984” و”مزرعة الحيوانات”]، ينتظر الشعوب العربية التي سارت بملئ إرادتها الى الخراب العميم وسلمت أمرها الى زمر لا هم لها غير نشر الموت وتقديس العدمية.

يتأسس الرد على هذه الاستنتاجات بمقاربة مختلفة جذرياً للتاريخ العربي الحديث وخصوصاً للقوى العميقة التي حركت الثورات. فما جرى لم يصدر عن اختيار وتخطيط. كان امتداد الثورات بتلك السرعة حركة زلزالية مزقت الطبقات المهيمنة وأظهرت تهافتها وضحالتها وطبيعتها الطفيلية. وبغض النظر عمن بادر إلى السير في الصفوف الأولى من التظاهرات الثورية ومن تخلف عن الطليعة ثم عاد ليجني ما قدمه الآخرون من تضحيات، فإن الواقع قد فرض نفسه بتظهيره موازين القوى الفعلية في المجتمع والأطراف الأقدر على استغلال لحظة التغيير الكبير.

الأمر الثاني هو ان التخويف من مستقبل عربي قاتم، يفترض أن الماضي اتسم بالزهو والحبور. ما من شيء أبعد عن الحقيقة من هذه المعادلة. وإذا كان من السذاجة والبلادة الاعتقاد ان الثورات تحقق اهدافها يوم خروج الطاغية من قصره المنيف، فإن من الملح التوضيح ان الثورات تُصنع عملياً في الاعوام التي تلي يوم الاحتفالات السعيدة. وليس سراً أن الأمراض التي تراكمت في صميم مجتمعاتنا ستفرز من الظواهر والاشخاص والتناقضات ما يبرر للبعض الترحم على الماضي واسباغ صفات جليلة عليه.

بيد أن الحقيقة البسيطة تقول اننا وصلنا الى هذا المنعطف الصعب لاستحالة البقاء حيث كنا، في كنف حكومات الديكتاتوريات الطفيلية. ولب المسألة ليس في الأخطار التي يحملها المستقبل (فالمستقبل صنو الخطر والمجازفة)، بل في صعوبة الخروج والصعود من الهوة التي نقيم فيها والتي ما زال البعض يفضلها على مغامرة اجتراح الحرية والديموقراطية والعدالة الاجتماعية.

الأمر الثالث أن حصر النقاش بمخاطر “الإسلام السياسي” على المجتمعات العربية، فيه استخفاف بتعقيدات الواقع العربي. صحيح ان تجارب حكم الإسلاميين تلامس الفشل في كل ما يتعلق بأداء الدولة وبناء مؤسساتها، لكن الأصح هو أن طريق السلطة، بعد عقود من الأمراض المزمنة، لن تكون مفروشة بالورود عندما يرحل الإسلاميون ويأتي غيرهم، إذا اراد هذا “الغير” تحقيق اهداف الثورات.

الأمر الرابع يتلخص في التشديد على أن الصراعات العربية والإقليمية الراهنة التي تتخذ شكل احتراب هويات دينية متنابذة، تكمن أسبابها عميقاً في أزمات انظمة ومجتمعات وتواريخ ما زالت تبحث عن أشكال التعبير الملائمة. ومن سوء طالع هذه المنطقة أن تجري ترجمة كل اختناقات التاريخ واحباطاته الى لغة الدين القطعية اليقينية.

موقع 24

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى