صفحات الناس

دفاعاً عن العمل الصحفي في سوريا الأسد/ سام هيلر

 

 

ترجمة: ياسر الزيات.

*****

بينما يتقدم نظام بشار الأسد في معاركه ويبسط سيطرته على مناطق البلاد الأكثر اكتظاظاً وازدهاراً، ثمة ما يشير إلى سعيه لشنّ حملة موازية يستردّ فيها شرعيته السياسية الدولية. مؤخراً فتحت سوريا الأسد أبوابها مجدداً لبعض الصحفيين والمحللين الأجانب، إما من باب تقديم سردية معادية للسردية السائدة، أو للمرافعة عن تطبيع العلاقات الدبلوماسية والاستثمار الاقتصادي الأجنبي، أو ربما فقط لاستعراض صمود النظام في مواجهة ما يعتبره مؤامرة دولية مترامية الأطراف تُحاك ضده.

عندما يدعو النظام المزيد من الناس في الخارج إلى الداخل السوري، أعتقد أنه يجب تلبية الدعوة كلما سنحت فرصة ملائمة.

طبيعة النظام السوري وظروف المناطق التي يسيطر عليها جزءٌ كبير وذو أهمية متزايدة من القصة السورية، وهو جزء ليس لدينا إلا إطلاع محدود عليه، ولا نملك إلا معلومات شحيحة عنه برأيي الشخصي. علينا فهم ما يحصل في الداخل السوري تحت حكم الأسد، وأرى أننا بحاجة لأكبر عدد ممكن من المراسلين الموثوقين والمستقلين للوقوف على مجريات الأمور في الداخل.

في تشرين الأول الماضي ذهبتُ إلى دمشق ضمن مؤتمر-وفد نظمته «الجمعية البريطانية السورية»، وإن يكن باستثمارٍ وتسهيلٍ من جهات رفيعة المستوى ضمن نظام الأسد. كانت المشاركة في المؤتمر أمراً حساساً، نظراً للمخاوف من أن النظام سيجني فائدة سياسية ودعائية جرّاء حدث كهذا. وكان مختلف الباحثين والخبراء والنشطاء قد انتقدوا بشكلٍ حادٍّ حضوري أنا وآخرين، في ما سمّاه أحد المعلقين المتحمسين «انقلاب علاقات عامة شائن»، حيث يتم توظيف الحضور الإعلامي الغربي لـ «تبييض حرب المعلومات الأسدية».

رغم ذلك أرى أن الأمر كان يستحق الحضور، لما أتاحه لنا من تواصل غير مسبوق مع كبار المسؤولين والنخب المدنية الدمشقية، بالإضافة لفرصة البقاء في دمشق والشغل على تقارير إعلامية من داخلها.

بالتأكيد قام مسؤولو الحكومة السورية وعدد من الحاضرين المرتبطين بهم بتوظيف الحدث للدفع بمجموعة من السرديات الأساسية لديهم، مثل تلك المتعلقة بالحرب على «الإرهاب» أو العبء الذي تفرضه العقوبات الدولية على المدنيين السوريين. غير أن هذه الحجج والرسائل لها دلالاتها الخاصة، بقدر ما تضيء على كيفية تفكير النظام ونظرته لمكامن الضعف السياسية عند الغرب.

وعلى الرغم من أن العمل الصحفي في دمشق لم يكن بلا تقييدات، كان لا بدّ لبعض التفاصيل والتفاعلات أن تجري بشكل عفوي، وبعيداً عن السيطرة المحكمة التي تفرضها الدولة. عندما أبدى لي المرافق الذي عيّنته وزارة الإعلام بروداً تجاه دخول باب السلام في دمشق القديمة، وهو الحيّ الذي كنتُ قد عشتُ فيه قبل الحرب -«هذه منطقة شيعية»، قال متردداً – استنتجتُ شيئاً مباشراً وحقيقياً حول وجود القوات الرديفة المساندة للجيش السوري ومدى استقلاليتها. كان المجال مفتوحاً أمامنا للتجول في أرجاء العاصمة الأخرى. أما هذا الحاجز الذي كانت على بوابته راية سوداء ملفوفة ولافتة ضخمة إلى جانبها تُظهِرُ شهداء «المقاومة الإسلامية في سوريا»، فإنه كان الحاجز الوحيد الذي أجبرنا على العودة.

في الوقت نفسه، من المفيد حتماً الحصولُ على أي نظرة، ولو كانت مجتزأة، على ظروف المدنيين في هذه المناطق. بغض النظر عن خريطة السيطرة السياسية في سوريا، ينبغي أن تكون تجارب المدنيين السوريين في صلب فهمنا للبلاد وللحرب. وحتى لو كان السوريون الذين قابلتهم هناك عاجزين عن التحدث بحرية وأريحية، ثمة ما يستحق إشراكهم على مستوى إنساني ونقل ما كان يبدو حقيقياً عنهم، سواء تحدثوا عن تدمير الحرب لصناعة الكحول في سوريا، أو عن مدمني الكبتاغون الذين يحطمون النوافذ في ضواحي دمشق.

كان الشغل الإعلامي من داخل سوريا الأسد يعني مشاهدة عشرات التفاصيل الصغيرة والحقيقية التي تعمّق وتناقض الخط الرسمي للحكومة، حتى وإن كانت تدعمه وتعزّزه في بعض الأحيان.

أنا على قناعة بأنه كلما كَثُرَ المراقبون المستقلون في دمشق أو حمص أو طرطوس، توسّعت الصورة الكاملة التي يمكن تجميع قطعها من الداخل السوري.

لا أقصد بذلك التقليل من قيمة المعرفة أو الخبرة لدى السوريين أنفسهم، سواء أولئك الذين ما زالوا يعيشون في تلك المناطق، أو الذين غادروا وبقوا على تواصل مع أصدقائهم وعائلاتهم. لدى هؤلاء السوريين بالطبع إدراك مباشر للمجتمع وللتاريخ السوري، ولما يفكر به الناس حقاً ويقولونه في أحاديثهم الخاصة، وغير ذلك مما لا يمكن لأي زائر خارجي أن يدركه. لكن كثيراً ما تغيب انطباعات المدنيين عن الجمهور الذي في الخارج، تحديداً لأنه لا يمكن التكلم بأمان وحرية في مكان مثل سوريا الأسد.

بالنتيجة، كما أرى، هناك ثغرات دائمة في قدرة الذين هم في الخارج على الإحاطة بظروف الداخل السوري الذي يسيطر عليه النظام، سواء كانوا سوريين أو غير سوريين، وقد صرنا دون أن ندري نملأ تلك الثغرات بتوافه الأخبار ومشبوهها، وبالشائعات التي تتوافق مع ما لدينا من تحيزات.

منذ مغادرتي دمشق، واجهني أكثر من مرة مواطنون سوريون ذوو ميول معارضة حول ملاحظاتي التي التقطتها في المدينة. سألوني بسخط: «وهل كنت قادراً على التجول بلا مرافقة؟».

في الحقيقة، نعم. كان يرافقني أحد موظفي وزارة الإعلام أثناء مقابلتي للناس في الشارع، وقد منحتني الوزارة ترخيصاً مكتوباً بالعمل الصحفي أعطته مباشرةً للمرافق، والذي كان يبرزه لسكان دمشق ما إن يشعروا بالريبة ويطلبوا رؤية الترخيص. في بعض الحالات، جلس المرافق أثناء المقابلات أو ساعد في تسهيلها، لكنه كان، في حالات أخرى وعندما كنت أطلب منه، ينتظرني بكل أدب خارج المتجر ويتركني أتحدث إلى البائع أو الزبون. أما خارج الساعات المحددة مع المرافق فقد كنت حراً في التجول في دمشق دون مرافقة، نهاراً وليلاً، سيراً على الأقدام أو بالتاكسي.

لا أحاول القول إن دمشق مكان حرّ، ولا حتى أن الأحاديث التي خضتها بلا مرافق كانت تجري خارج رقابة الدولة. لكن مجرد مواجهة أولئك السوريين لي في تلك النقطة كان يعني أنهم من جهتهم لم يكونوا يدرون. وهذا طبيعي جداً، فقبل أن أذهب أنا كنت مثلهم لا أدري…

ثمة ثغرات لا يمكن للزائرين الخارجيين أن يملأوها بطبيعة الحال. الأرجح أن الجوانب المعتمة من أفاعيل النظام –ما يجري داخل فروعه الأمنية، مثلاً، وتعامله مع المعتقلين– لا يمكن أن تكون متاحة لصحفيين أجانب. كما أن بعض أشدّ خصوم النظام لن يُسمَح لهم بالدخول، ولا يمكن أن يكونوا واثقين من سلامتهم إذا سُمِحَ لهم بذلك، خصوصاً السوريين المقيمين في الخارج. ثمة آخرون قد يكونون معنيين بالتملّق للسلطات السورية والإبقاء على فرصة التواصل مع الداخل، إلى درجة تخفيف أو تمييع التقارير التي ينتجونها. لكني أعتقد أنه يكفي وجود بعض الصحفيين والمحللين النقديين والصادقين فعلاً –بما في ذلك بخصوص القيود المفروضة على تحركاتهم وتقاريرهم– لتحقيق مكاسب صافية لفهمنا لسوريا ولحربها ومستقبلها.

وهذا يعود بالفائدة على الجميع، بما في ذلك المعارضون الصرحاء للنظام. لدى نقاد النظام مخاوف مفهومة تتعلق بالتطبيع السياسي مع النظام، ومخاوف أخرى –ضمناً- تتعلق بفقدان المعارضة السورية السيطرة على سردية الحرب. لكن إذا أردنا أن نكون واقعيين، فإن تغير موازين الحرب وقرار النظام المعلن باستئناف التواصل مع الخارج يعني أن هناك نزاعاً غير مسبوق سيدور حول الخطاب المتعلق بالشأن السوري. لم يعد النقاش حول سوريا مسألة بينية في أوساط المعارضة ومؤيديها. من هذه الزاوية، إذا أراد معارضو النظام بناء قضية واقعية ومقنعة ضد النظام فهم بحاجة إلى أقصى درجات التواصل والمتابعة، وإلى شهادات أطراف مستقلة. حجّة المعارضة تكون أقوى حين تقوم على الوقائع لا على الخطاب المجرد.

عندما غادرت دمشق، كتبتُ مقالاً عن تجربتي في الداخل قلتُ فيه إن ترويج النظام لنفسه والأجواء التي في دمشق أقنعاني إلى حد بعيد بأن النظام لم يتعلم ولم يتغير.

تعرضت لانتقادات لمشاركتي في تطبيع النظام، ونقل حقائق كانت، على ما يبدو، معروفة ومسلّمة لدى أصحاب الحق. «الكشف عن هذا لم يكن يتطلب الذهاب إلى دمشق»، غرّد فيصل عيتاني الذي يعمل في «المجلس الأطلسي». أجبته: «إذاً ليس من المفيد أن هناك من ذهب فعلاً إلى الداخل وشهد على ذلك، بدلاً من الاعتماد على الحكمة المتوارثة والأقاويل؟».

«الحكمة المتوارثة والأقاويل؟ ثمة منشقون كانوا مقربين من الأسد نفسه أكدوا ذلك، بما في ذلك رئيس الوزراء السابق [رياض حجاب]»، ردّ ناقد آخر، وهو موظف في مجموعة الاستشارات السياسية iDiplomat: «هل كنا بحاجة لغربيين يلتقون بالأسد شخصياً لـ’يتحققوا‘ مما دأب السوريون على قوله منذ حوالي من 6 سنوات؟».

لكن بطبيعة الحال، مسألة أن كثيرين ممن دأبوا على قول الأشياء ذاتها لمدة ست سنوات هم الأشخاص أنفسهم، هي في حد ذاتها مشكلة.

رئيس الوزراء السابق رياض حجاب انشق عام 2012، أي قبل خمس سنوات تقريباً، وهو الآن أحد أبرز وجوه معارضي النظام ويرأس هيئة سياسية معارضة ترعاها الدول المعادية للأسد. برأيي أن حجاب محقٌ بخصوص النظام على الأرجح، لكنه من جهة أخرى ليس مراقباً محايداً بلا مصالح، ولا شخصاً قادراً بالضرورة على الإدلاء بشهادته حول الأجواء الحالية داخل سوريا عام 2016 و2017. إن رياض حجاب –سواءَ تحدث هو نفسه أو حين ينقل عنه موظف iDiplomat، وهي مجموعة استشارية تمولها دول غربية داعمة للمعارضة لتقديم استشارات للمعارضين– ليس هو الرسول الذي تحتاجه المعارضة ليشهد بطبيعة النظام. ليس بمفرده، على الأقل.

إذا كان الخطاب حول نظام الأسد، وبشكل أوسع حول الحرب، يهيمن عليه أناس ذوو مواقف سياسية مستحسنة ومتجانسة، أو ممثلون برواتب عن المعارضة السورية، أو أشخاص لم يطأوا التراب السوري منذ سنوات، فهذا الخطاب لن يحقق شيئاً إلا طمأنة الذين اقتنعوا بالفعل سابقاً وتشجيعهم، ولن يكون مقنعاً لجمهور نقدي بلا تحيزات سياسية، كما ستتضاءل أهميته وصلته بالواقع السياسي مع مرور الوقت.

لا أحمل ضغائن تجاه أي أحد بسبب عمله أو بسبب الرعاية الأجنبية التي يحظى بها، كلنا بحاجة إلى دخل، ولا شيء يمكن إنجازه مجاناً. ولكن لبناء قضية فعّالة وسديدة ضد النظام، يتعين على المعارضين أن يعتمدوا على مستقلين يُدلون بشهادتهم، بشكل مباشر وصادق، حول الظروف التي تمرّ بها دمشق وغيرها من مناطق الغرب السوري الذي يسيطر عليه النظام.

البديل لذلك عملياً مساحة فارغة تغطي معظم أنحاء البلاد، يمكن لمن في الخارج أن يسقطوا عليها مختلف النظريات والسرديات التي لا سبيل للتحقق منها حقاً. إن بعض هذه النظريات والسرديات يناسب المعارضة، بما في ذلك فكرة أن النظام انحلَّ إلى ميلشيات متناحرة، وبعضها الآخر لا يناسبها، بما في ذلك محاولات التصوير الرومنسي والتبييض لـ«الهدن» المحلية و«المصالحات» التي يفرضها النظام على بلدات المعارضة المكسورة والمهزومة.

الطريقة الوحيدة لتجنب هذا النوع من الأسطرة هو أن يكون هناك أناس في سوريا التي يحكمها النظام – واقعياً، بإذن النظام– يقومون بتغطية ما يرونه ويسمعونه.

هناك حدود واقعية لما يمكن للصحفيين والمحللين أن يحققوه في الداخل. سيكون هناك أماكن لا يمكن الحصول على تراخيص مفيدة لزيارتها، أناس لا يمكن الحديث معهم، وربما محاولات زيارة ثانية يتم رفضها. ولكن العمل الصحفي داخل الغرب السوري الذي يسيطر عليه النظام يستحق المحاولة. البديل طريق مسدود على مستوى التحليل والخطاب.

موقع الجمهورية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى