صفحات المستقبل

دفاعاً عن مجتمع طويل الأظافر/ روجيه عوطة

 

 

بعد توطئة سلسلة “نثور بلا ثورة“، جاءت الحلقة الأولى عن القتلى في سوريا، والثانية عن العلاقة بين نظام الأبد ودولة البقاء والفارين في أرض الموت، والثالثة عن تقاطع الخطابين الممانع واللاممانع حول حادثة “أبو صقار“، والرابعة عن قتل “الإنسان” الأسد للحيوانات،  الحلقة الخامسة، عن الخروج من اللاسياسة إلى السياسة. هنا الحلقة السادسة، في جزئين، عن فك قيود المحكومين، ومنع فرارهم. الأول: “سياسة تفك الجنزير وتمنع المغادرة والجزء الثاني “دفاعاً عن مجتمع طويل الأظافر

في حين كان المحكومون يواصلون فرارهم من الأبد طالبتهم اللاممانعة بالحفاظ على معتقله الإجتماعي، وما يحتويه من “إفراديات” و”جماعيات”، ومن أدوات تعذيب، وعلى رأسها الجنازير-العلاقات، التي قيدتهم، وشققت جلودهم. وقد انطلق المطالِبون من مقولتين على الأقل. الأولى، أن النظام، بقصفه وقتله وإبادته الهاربين، يرغب في تدمير “المجتمع السوري” وروابطه. والثانية، أتت كردٍ على طرح ممانع، مفاده أن “مشكلة تغيير النظام مشكلة ثانوية في حين أن المشكلة الجذرية التي نحتاج الى حلها هي تغيير المجتمع”، على ما صرح أحد شعراء البراميل والمجازر الحداثيين. بالتالي، قلبت اللاممانعة المطروح، ووجدت أن تغيير النظام هو السبيل إلى تغيير المجتمع، وينفع استخدام هذه الشقلبة في مواجهة السلطات، لكن، بلا جوهرة موضوعها ثنائياً، وتجريده، ثم النظر إليه، كما لو أنه هو نفسه، قبل وخلال وبعد خروجه على الأبد ومنه.

لكن، هل فعلاً النظام يريد تدمير “المجتمع السوري” حين يغتال الهاربين؟ وكيف يكون إسقاط النظام متلازماً مع إسقاط المجتمع، بلا الوقوع في شرك تجريد الإجتماع، وتأبيد ذواته السابقة على الفرار، أو في فخ الدعوة إلى الإقتتال والتذابح، حيث أن تدمير “سوريا الأسد” شرط من شروط الإطاحة بـ”أبو الموت”؟

المجزرة تبني المجتمع

ما إن هرب المحكومون من المعتقل، حتى راحت ماكينات الأبد تحاول القبض عليهم، وإعادتهم إلى أرضها. في ذلك، كانت سياستها تتضح أكثر، إذ أن القتل، بالرصاص والقذائف والسكاكين والصواريخ والبراميل إلخ.. بدا كأنه امتداد للتعذيب وأدواته، الذي استعمله “البعث” لصناعة ذاتٍ نظامية مؤبدة، وممنوعة من الموت، أكان في الزنانة، أو في موازيها الإجتماعي. فالسلطة تفبرك المجتمع في المعتقل، ومع حمايتها الثاني، تصون الأول. أما الذين تغتالهم، فتتعامل معهم كأنهم غير موجودين أصلاً. وهؤلاء، إما الذين استنزفت قواهم الإنتاجية، فأعدموا، أو هم الذين فكروا بالهرب، ومارسوه، فأعدموا أيضاً.

والإعدام هنا ليس سوى الفعل السياسي الأخير للأبد، اتجاه غير القادر على حفر الخنادق وبناء المواقع العسكرية، أي تشييد “سوريا الأسد”، واتجاه الرافضين لتأبيدها من خلال تأبيدهم، كأناس مجنزرين مع بعضهم البعض. وفي الوقت نفسه، لا يحق لهم التواصل، إضافةً إلى أن أجسادهم تنجرح أكثر فأكثر، كلما تحرك واحد منهم، وهذا ما يؤدي، بشكل أو بآخر، إلى تحميله مسؤولية الشقوق والتصدعات.

على أن النظام عندما يرتكب مجزرة جماعية، يمارس توحيده المحكومين بالأبد العاري، الذي كان قد شكّل الروابط والعلاقات بينهم على مناويل، أو على بُسُط ريح ودواليب، وطنية وقومية وغيرها، تثبتهم في أرضه بعد رصهم، ليشكلوا جماعة كلية، هي “الشعب السوري”. إذاً، هناك نسق اجتماعي، تعتمده السلطات، بدايته المعتقل، ووسطه المجتمع، ونهايته المجزرة، حيث تمارس سياستها التعذيبية داخل كل مفصل من مفاصله، لتحميه، وتصنع ذواته، وذلك بحركة خطية أو عكسية.

فالذات السورية تُصنع في المعتقل (تُؤبد بالتعذيب)، ثم تُدمج في المجتمع (تؤبد بالعمل)، ثم تُقتل، عند استنزافها أو ضعف السيطرة عليها، في المجزرة (تؤبد بالإعدام). تالياً، المجزرة، بالنسبة إلى “البعث الأسدي”، هو الشكل الخالص للمجتمع. وقبله، المعتقل. وفي الجهة عينها، الإعدام هو الفعل المحض للإستغلال، والتعذيب. بعبارات أخرى، حتى عندما يرتكب النظام مجزرة جماعية فهو يثبت المفصلين السابقين عليه، ويعيد إنتاجهما، أي “المجتمع والمعتقل السوريين”، كما يؤكد أن المجتمع مجزرة لم تُرتكب بعد، أو أنها ترتكب بتقنيات أخرى، وأن المعتقل معمل لتصنيع شعبها، أي قتلاها.

ونتيجة ذلك، يشترط الخروج من الأبد وأرضه، تدمير نسقه والإطاحة بمفاصله الثلاثة. والثاني على وجه التحديد، أي المجتمع، الذي يقع في الوسط بين المعتقل والمجزرة، وهو مفصل يجري تحطيمه بإسقاط علاقاته الإحتجازية، أو جنازيره، التي تشكل إمتداداً لروابط الإعتقال، وتقود نحو المجزرة.

وفي هذا المجال، ثمة فعل نظامي، جاء على ذكره أحد المعتقلين في سردية “الهروب من الجحيم”، وهو التوقيع على أوراقٍ، عرف في ما بعد، أنها تنص على إعدامه، الذي قد يحصل قبل أن يحين موعد تنفيذه. وذلك، حين يتوقف المعتقل عن العمل. أوراق الإعدام هذه، وبحسب سياسة التأبيد البعثية وآلياتها وآلاتها، تجمع في سطورها الأوراق الحكومية، التي وقع عليها ملايين المحكومين. إذ أنه ضبطهم، وحرسهم، وعذبهم، وجمعهم، وتحكّم بعلاقاتهم، إلى غيرها من الأفعال السلطوية، حتى يقودهم “رسمياً” إلى المعتقل، والمجتمع، والمجزرة. وعندما يعدمهم، لا يعدم أحداً، لأنهم كان قد وقّعوا على أوراق تأبيدهم.

 

ومع هربهم من النسق، يلاحقهم كي يقتلهم، ويؤبدهم من جديد. وفي هذه الحال أيضاً، هو لا يقتل أياً منهم، ولا يدمر مناطقهم، بل يكمل تصنيع ذواتهم بآخر درجات التعذيب، ويبني أمكنتهم بآخر درجات الخراب. باختصار، الأبد يصنع “مجتمعاً” كي يؤبده، ثم يعدمه. وبالتالي، قتل الهاربين منه لا تتعارض مع سياسة المصنع، بل تفيد إنتاجه، وتحافظ عليه.

الرعب إحساس الحدث

إلا أن الهرب قد حدث. وفي لحظته، كسر المعتقلون الخمسة الجنزير، وانتهوا من الروابط المفروضة عليهم، ومن ذواتهم القديمة، قبل أن يذهب كل واحد في اتجاه على أرض الموت. وعلى المذكور سابقاً، لم يحملوا من آثار الذات النظامية على أجسادهم سوى الجروح والتصدعات، لا سيما الهوياتية منها، التي لم يعد هناك مجال سوى للإقرار بها، من أجل تخطيها بسبل جديدة. وبينما كان الهاربون يتعرفون على آخريهم بعيداً من الرص في الجماعيات والإفراديات، ومواربته، وفي حين كانوا ينظرون إلى بعضهم بعضاً، ثم إلى تشققات جلودهم، متذكرين أن الكثير منها برز بفعل تحرك بعض المربوطين معهم بالسلسلة الحديدية ذاتها، بدأت اللاممانعة، وأمام مشاهد التألم الذي كان ممنوعاً لعقود، تُطالب بالعودة إلى المكان السابق على الهرب.

إذ أن سياسة المُطالبة هذه تمحورت حول فك الجنازير من دون مغادرة معملها، أو مبارحة المعتقل بلا فك جنازيره. وفي الحالتين، النظام يحضر عبر الإستقرار في أحد مواقعه، أو عبر الحفاظ على قيوده التي تمنع التقدم، والجلوس، وطبعاً الإحساس للمرة الأولى بالجروح، بلا أن يكون التعبير عنها مكبوتاً.

هذا، وليس مضمون المُطالبة بعيداً من سياسة النظام. ذاك أنه يستخدم، على ما جاء في “رحلة الهروب من الجحيم”، استراتيجية مشابهة في تعامله مع المعتقلين، حيث يسمح لهم بمبارحة الزنزانة بلا أن يفك الجنزير المقيد لهم، أو يفك السلسلة الحديدية، ويمنعهم من المغادرة. وذلك، بغاية فتح مهرب مزيف أمام المحكومين، قبل إغلاقه من جديد، أو تشديد اعتقالهم داخله، ما يضاعف الضغط عليهم.

ففي إحدى المرات، منع الجلادون أحد المعتقلين من الموت جراء التعذيب، فنقلوه إلى أحد المشافي التي تقع في جغرافية الأبد، بين القبو (تحت أرض السياسة) والموقع العسكري (فوقها). فاعتقد أنه، في هذا المكان، ستجري معاملته بطريقة جيدة، غير أنها سرعان ما اكتشف العكس تماماً، حيث أعادوا تقييده بالجنزير إلى سريره، بعدما استقبله الأطباء بالضرب، وصب الماء البارد على جروحه، وإعطائه حبة إلتهاب واحدة. إذاً، غادر المحكوم مكانه الإعتقالي، لكنه ظل مقيداً، ومعصوب العينين، فضلاً عن مواصلة تعذيبه وتعميق جروحه، ومنعه من التوجع، عبر تسكينه، أو ضربه وتهديده المستمرَّين. وهذه الأفعال تجبره على تفضيل المعتقل على المشفى، بسبب الظن أن الأخير هو مكان المعافاة. لكنه لم يكن سوى امتداد للمعتقل وروابطه: “دخل أحد الأطباء فأخبرته أني بصحة جيدة، وأود العودة للفرع، فأمر بإخراجي”.

وفي حادثة أخرى، يسرد أحد المعتقلين قصة إخلاء سبيله المزيف. فبعدما تعرض لجلسات طويلة من التعذيب، أغلق المحقق ملفه، وأعاده إلى الجماعية، ومن ثم أمر بمغادرته، “فجهزت أغراضي ووصلت إلى غرفة المحقق، وأنا أعتقد أنه سيفرج عني، فإذا بالمحقق يقول لهم طمشوه وقيدوه، وبدأ بإعادة التحقيق معي من جديد”، فأجبر المعتقل على الإعتراف بـ”كل شيء”.

فقد يفك النظام الجنزير، ويسمح للمعتقل بالمغادرة، التي سرعان ما يوقفها، ويعيده إلى غرفة التعذيب. لكن، هذه المرة، بالقضاء على ممكن المبارحة، وبإكراهه على الإقرار. وفي المطاف نفسه، هناك حادثة أخرى، صانعها هو “أبو الموت”، الذي سأل المعتقلين، المجبورين على حفر الخنادق وقوفاً على الأقدام، إن كانوا يريدوا الجلوس، بعدما طلبوا منه استراحة لمدة ربع ساعة فقط: “نعم، سأسمح لكم بذلك، ثم قام بفك السلاسل وفصل المعتقلين وائل سراقبي وغسان بلور عن المجموعة، وأخذهما إلى جهة أخرى”، حيث أعدمهم، وطلب من رفاقهم أن يحفروا لهم قبراً. عليه، سمح “أبو الموت” بفك السلسلة بهدف واحد، وهو قتل معتقلين.

وارتكازاً على هذه الوقائع الثلاث، التي تختصر استراتيجيات فك السلسلة ومنع المغادرة، أو العكس، يهدف النظام من خلالها إلى ضرب أي تصور عن المبارحة إلى مكان آخر غير المعتقل، إذ أن المشفى هو مكان احتجازي أيضاً. وثانياً، سحق إخلاء السبيل، والخروج من غرفة التعذيب. وثالثاً، وهذا الأساس، تخويف المعتقلين من فك السلسلة، لأن ذلك سيؤدي إلى قتل أحدهم، ما يدفعهم إلى التمسك بها، خصوصاً أن السلطة تأمرهم، في ما بعد، بحفر قبر له، ليبدوا وكأنهم يتحملون مسؤولية قتله، أو لتزرع فيهم عقدة ذنب اتجاه إعدامه. والحق، أن اللاممانعة مصابة بهذا الخوف من الفك والمغادرة، الذي غالباً ما يظهر في مقولاتها عند وجع الهاربين، وتألمهم بسبب الجروح التي خلفتها السلسلة الحديدية. فبالنسبة إليها، الوجع يدل على خطأ في الحركة، أو على شر يكمن فيها، وليس على احتكاك بالتشققات، والشعور بها، والتعبير عنها.

ذلك أنها المرة الأولى، منذ عقود، التي يحايث بها الهاربون جروحهم، ويجربون معالجتها، وطبعاً، يتعثرون ويتخبطون ويعلقون في شقوقهم باستمرار. لكن هذا لا يعني أنهم ما عادوا قادرين على صناعة أي ممكن. في كل الأحوال، يخلص أحد الهاربين من الأبد إلى القول بأن لحظات فك السلاسل الحديدية، “كانت لحظات مرعبة”، ليس لأن الحارس ما زال يراقبهم، والوقت ضيق، بل لأنهم، أثناء ذلك، كانوا يخرجون من ماضٍ راسخ فيهم، وكانوا ينسلخون عن ذواتهم، فلم يكونوا “شعباً” أو “مجتمعاً”، بل كانوا تفردات مجروحة، ورعبهم، هنا، إشارة إلى أن فرارهم في طور الحدوث.

“خراشف السمك”

عليه، وفي وقت الهرب، أصبح النظام معتقلاً ومجتمعاً ومجزرة، من الماضي. تماماً مثلما هي حال الذوات، التي لطالما صنعها في هذه الأمكنة الثلاثة. والأخيرة، على الأقل، سقطت عن أجساد الفارين، الذين قالوا، في سرديتهم، أن المعتقلين في “حرستا العسكري”، ونتيجة حضورهم المضغوط بشدة، “لا يطلبون تحريرهم من قبل الجيش الحر وإنما يتمنون دخول عناصر الجيش الحر والقيام بعمليات انتحارية لقتل الجميع من حراس ومعتقلين على السواء ليتخلصوا من العذاب الشديد داخل المعتقل… الموت أرحم”. بذلك، وجد المعتقلون أن السبيل الوحيد إلى تحريرهم هو نسف المجتمع، وتحطيمه، عمرانياً، حتى لو سقطت جدرانه عليهم. فبهذا الحدث، ينتهون من المعتقل، ويتحررون من الأبد عبر الموت.

لكن الحدث هذا، يساوي، في المكان نفسه، بين الجلادين والمعتقلين، مثلما تكمن خطورته في انحرافه نحو استراتيجية النظام المذكورة سابقاً، أي بناء المجتمع وإعادة إنتاج بتخريبه، بحيث يبدأ الدمار النظامي بالتشابه مع الدمار الثوري، حتى لو كان الأول يؤبد عمران المجتمع المخرَب من داخله، والثاني، يحرر المعتقلين فيه بإماتتهم. على أن صناعة المهارب، وإبداع سُبل الفرار تظل ممكنة على الدوام، بحيث تسمح للمعتقلين أن يموتوا من دون أن يموتوا، وأن يحطموا ذواتهم القديمة بلا أن يتأذوا جسدياً، أو يعلقوا في الحطام بوصفه بناءً جديداً. فقد يكون اللامحتمل، في المعتقل، كبيراً، لدرجة يتمنى معها المحكوم تدميره والتحرر منه عبر وقوع جدرانه عليه. لكن، قبل الوصول إلى هذا الأمر، وتنفيذه، لا بد من ابداع الممكن من اللامحتمل ذاته، والبحث في صلات أخرى مع الجسد وأعضائه، التي من خلال حركتها تصنع علاقة جديدة مع الخارج، وتشق طرقاتها داخله.

التقى المعتقلون مع أجسادهم عاريةً أكثر من مرة، لا سيما عندما كانت آلات التعذيب التأبيدي تنخر أعضاءهم، وتحدد علاقاتها مع جغرافيتها الجلدية، المليئة بالتورمات والدمامل والتقرحات. هذا، وكان المعتقلون يمضون معظم أيامهم شبه عراة، أو عراة بالكامل. وذلك في طقس قارس، أو مرتفع الحرارة، وعلى ما هو معلوم، كانوا معلقين بالأرض نتيجة التصاق جلودهم بها، إلى درجة أن حركتهم عليها قد تؤدي إلى التهامها لهم، أو أكلها لما يعتبر كيانهم الوحيد. ورغم ذلك، لم يستسلموا، واستخدموا ما تيسر من أعضائهم من أجل أن يبقوا أجسادهم حاضرة، خصوصاً أن انتحارها ممنوع، وتعبيرها عن الألم مرفوض، وعقابه التعرض لتعذيب واضح.

فحين انتشر مرض “خراشف السمك” بين المحكومين، وبما أن الأطباء-الجلادين لن يساهموا في علاجه، قرر أحد المعتقلين أن يعالج نفسه بنفسه، جسده بجسد آخر، فطلب من أحد الأشخاص أن يطيل أظافره، “وعندما أصبح جاهزاً انتظرت حتى الواحدة ظهراً، وكان الطقس مثلجاً وفوقي السماء “في التنفس”. كانت المياه مجلدة، خلعت بنطالي وعضضت على قماشة وبدأ الشخص بقلع الجلد الميت بسماكة عدة سانتميترات، وكانت الجروح تنزف وتنزف”. بالطبع، محاولة صناعة الممكن العلاجي هذه توقفت، لأنه ممنوع على المعتقل أن يداوي جروحه، أو يتألم بها، مثلما أنه ليس مسموحاً أن يتصل بغيره، أو يطلب المساعدة منه، “جاء السجانون وعندما شاهدوا ما يحصل، وضعوني على الدولاب”.

لكن، ما يهم هنا، هو كيفية إبداع سبيل فرار جسمي عبر عضو محدد من جسم آخر، بحيث أن الأظافر الطويلة أدت دور المشارط المفقودة، والتي كان فقدانها جزءاً من صناعة حلٍ غير تجريدي، بالإضافة إلى أنها في لحظة استخدامها، كانت تخرج المعتقل من جلده، وتدع جسمه يتنفس. وبمعنى آخر، كانت تعريه من عريه المؤبد، وتتركه في ما تحته، أي في عريه الحي. بذلك، صنع “مجتمع المعتقل” ممكنه، بالإتكاء على ما تبقى من قوته الحيوية، أي على جسمه، وأظافره بالتحديد. وربما هذا ما يفسر، ولو في هذا السياق فقط، العداء الذي يكنه المحققون لأظافر اليد أو القدم، بحيث أنهم يعمدون إلى انتزاعها بالبنسة، أو أي آلة حادة أخرى. ذاك، أنها مشارط الجسم، الذي تتيح له التحرر من جلده المؤبد، والفرار إلى جلد ما زال يتنفس.

وبسحب هذا الممكن إلى المجتمع، حيث إن جلود معتقليه المؤبدة كثيرة ومتراكمة، أكانت الوطنية أو القومية والحداثوية وغيرها، يبدو أن إسقاط النظام المنتج لها يكون عبر التعري منها، أي بفرار الجسم المتنفس من الجسم المؤبد، قبل أن يلتقي بجروحه، ومن ثم، يصنع علاجها. مرة، كتب حازم صاغية أن “العري شرط لارتداء الثوب الجديد”، لكنه، هنا، شرط لإنتزاع الجلد الميت عن الجلد الحي، ثم التعرف على التشققات السابقة على وجوده، والشفاء منها، قبل البحث في خياطة الثوب الملائم لجسمه… مع التذكير أن الجلادين حكموا بالإعدام على أحد المعتقلين بتهمة صناعة إبرة خياطة، ومحاولة تفجير الفرع بها!

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى