صفحات مميزةمحمد ديبو

دكتاتوريات صغرى تسند دكتاتورية كبرى/ محمد ديبو

 

 

إن “صمود” الدكتاتورية في سورية لأربع سنوات ونيف، بالتوازي مع صعود دكتاتوريات مليشياوية متعددة كلما ضعفت الأولى، وعودتها في مصر وصعودها (مليشياوياً) في ليبيا، يدفع نحو البحث في الجذور المكوّنة للدكتاتوريات، أي تلك الأسس والأعمدة التي تقف عليها الدكتاتورية، والتي يمكن اعتبارها هنا “بناء فوقياً” لا يصمد من دون الأبنية السفلية الممتدة من فضاء الأيديولوجيا إلى فضاء الجماعات (طوائف، قبائل، إثنيات..) والأحزاب والطبقات، إذ يتحدد موقف كل منها تبعاً لجملة معقدة من العوامل، يتداخل فيها التاريخي بالعقائدي بالمصالح لتكوّن بمجموعها الموقف الذي تتخذه جماعة ما تجاه الثورة.

ما كان لأنظمة متعسفة وجبروتية الطابع أن تحكم أساساً من دون صمت ورضى هذه القطاعات، والتي رأت مصلحتها باستمرار هذه الدكتاتوريات، لأن القمع وحده مهما بلغت حدته لا يفسّر استمرارها الطويل. ولعل موقف هذه الفئات الواضح حيناً والموارب حيناً في وقوفها إلى جانب الاستبداد اليوم أو تفضيلها إياه بالرغم من معرفتها باستبداده يوضح ذلك، لسيادة نوع من مخاوف أو أيديولوجيا تضغط على جماهيرها التي ترى مصلحتها في هذا الطريق.

قد تكون مصر النموذج الأبلغ للتعبير عن الأمر، إذ يبرر الواقفون خلف السيسي موقفهم هذا، بحفاظهم على الدولة من الفوضى والتذرر في منطقة متوترة من بغداد حتى دمشق وصنعاء وبنغازي، وتخوّفهم من المشروع الإخواني الذي غذّته تصرفات مرسي وفريقه في الحكم، إذ يصدر هذا الخطاب عن قوى قومية وعلمانية ذات طابع وحدوي، طالما كانت سندا لدكتاتورية مبارك، وطالما وضعت القضايا قبل البشر: الدولة قبل المواطن، فلسطين قبل الفلسطينيين، الوحدة قبل الشعوب، الشعب على حساب الفرد، الضريبة قبل حقوق المواطن.. واللافت هنا أن هذا الخطاب في تفضيله الدكتاتوريات تحت حجة الحفاظ على الدولة، موجود في كل بلدان الربيع من مصر حتى سورية، إذ تجد تلك القوى نفسها في خندق الدكتاتورية مدفوعة بأيديولوجيتها التي تصوّر لها أن مصالحها تكمن هنا، الأمر الذي يعني أن تفكيك هذه الأيديولوجيات ونقدها معرفياً ضرورة حتمية وممرّ إجباري للعبور إلى دولة المواطنة التي ترفضها أيديولوجيات هذه الأحزاب والقوى، وإن قالت بها جهراً، لأن الأسس المكوّنة لها ذات بنى شمولية يتكأ عليها الدكتاتور ليبقى، وهو ما نرصده في مواقف كتل قومجية وعروبية وكردية في موقفها من سورية خصوصاً.

ولكي نفهم أهمية تفكيك الأيديولوجيا كمقدمة لتفكيك الدكتاتورية أو نزع الأسس التي يمكن أن تستند إليها لإعادة تكوين نفسها، يمكن الرجوع إلى اللحظة التي تأسست فيها الدكتاتوريات مستندة إلى المدّ الشعبوي الوحدوي في خمسينيات القرن الماضي، عندما كانت القضايا الوحدوية وبناء الدولة والتحرر من الاستعمار الأيديولوجيا التي سوّقتها تلك السلطات لشعوبها لتحكم، لتبدأ مرحلة الفاشستية الشعبية التي تجمع بين خطاب تحرري تجاه الآخر (المستعمر والإمبريالية في الخارج وأذنابهم في الداخل!) وعسف مستبد نحو الداخل بحجة “لا صوت يعلو على صوت المعركة”، حيث كانت مفردات من نوع البرجوازية وحقوق الإنسان والديمقراطية مجرد أدوات للمستعمر وذات دلالة سلبية لدى النخبة والجماهير على السواء. ولكن معايشة الناس لعسف الدكتاتورية وانهيار المنظومة الاشتراكية أدى إلى سقوط المفاهيم التي رافقتها وتقدّم المفاهيم التي كانت منبوذة، بالتوازي مع مراجعة نقدية تفكيكية لكل المرحلة السابقة، مهدت بشكل تدريجي إلى إحلال خطاب حقوق الإنسان والتداول السلمي للسلطة وحرية الأحزاب مكان خطاب الشمولية، وهو ما رأينا نتائجه العملية في ساحات التظاهر حين صدحت الجموع التي تشرّبت الأيديولوجيا الجديدة بالحرية، في حين بقيت الأحزاب الأيديولوجية والدكتاتورية الطابع والبناء في مكاتبها. وعليه فإن عودة الإرهاب وسيادة خطاب معارض بلا برنامج واضح تجاه الدولة والقضايا التي تهم كوادر هذه الأحزاب يوفّر بيئة منعشة لها، وهو ما نراه بوضوح اليوم في سيادة خطاب عريض يدافع عن الدكتاتورية بحجة الحفاظ على الدولة والجيوش، غاضّين النظر عن كون السلطة أول من يدمر الجيش والدولة في آنٍ واحد.

يشكّل الاقتصاد والمصالح الخاصة بكل فئة أو طبقة، أحد الأشياء التي تفسّر مواقف البشر من التغيير، سلباً أو إيجاباً، فالناس ميالون عموماً بفطرتهم للحفاظ على مصالحهم والدفاع عنها، فسلوكهم يتحدد بناء على هذه المصالح، وهو ما فهمته الدكتاتوريات حين حوّلت الدولة إلى رب عمل يوظف المواطنين مقابل الولاء، وهو ما يدفع الجنود والموظفين إلى البقاء في أجهزة الدكتاتورية في ظل حاجتهم الماسّة لهذا الراتب، وغياب البديل الذي يحمي مصالحهم، فيصبحون سنداً للدكتاتورية وضحية لها في آنٍ واحد، إلى جانب كونهم ضحية لطبقة البرجوازية التي تقف حيث يكون الربح دوماً. وما تمويل البرجوازية للكثير من أعمال الأنظمة الدكتاتورية القذرة من شراء الأسلحة إلى تمويل المليشيات إلا دليلاً على ذلك.

ما يجب فهمه هنا أن هؤلاء ليسوا مجرد أفراد منعزلين يكفي معاداتهم وتجريمهم وينتهي الأمر، بل هم طبقات ومصالح معقدة ومتراكبة، حيث تقف البرجوازيات وعوائلها إلى جانب الموظفين والبسطاء والجنود وعوائلهم في صف واحد (بالرغم من تناقضهم الطبقي)، لشعورهم بأن مصالحهم مهددة وفق وعيهم. وكل من يقف خارج هذا الأمر يقف في الصف الآخر، ولعل معادلة الريف المهمّش والبعيد عن خدمة الدولة بمواجهة المدينة التي نرى تجلياتها في أكثر من بلد عربي، في ظل الثورات، تؤكد ذلك. بل إن مراقبة كيف تحوّلت أرياف ومدن كبرى من حواضن شعبية للنظام إلى ألدّ أعدائه على خلفية الموضوع الاقتصادي توّضح ذلك، فبعد التحوّل نحو اقتصاد السوق، وبعد أن قلّ الدور الرعائي للدولة ولعبها دور “رب العمل” تحوّل هؤلاء ببساطة إلى صف الثورة، في حين بقي من لا يزال “عيشه” معلّقاً بها.

ومن هنا فإن مصالح هؤلاء مع السلطة تشكل نوعا من قوة ساندة، وتفكيكها عبر بدائل وطنية يمثل شرطا لفك ارتباطهم بالسلطات. ولعل معرفة أن للجيش المصري مصالح اقتصادية ومصانع تقوم بتوظيف نسب لا بأس بها من “الغلابة”، قد توّضح لنا أحد أسباب عودة الجيش المصري الذي وجد سنداً آخر له في العمق المصري، في حين يجده النظام السوري أيضا في ذلك الترابط بين الطائفي والاقتصادي، فاعتماده على مكوّن تعصبي أمنياً وعسكرياً أدى إلى حصول ترابط بين الطائفي والاقتصادي لدى الفئات التي ألحقت به، فتعزز الطائفي بالمصلحة، الأمر الذي ينقلنا إلى الطوائف والإثنيات والجماعات كدكتاتوريات صغرى تسند الدكتاتورية الكبرى.

لا يمكن فهم موقف الطوائف والإثنيات من الاستبداد السياسي إلا بقراءته عبر موشور متعدد ومركب يبدأ من طبيعة العلاقة مع السلطة إلى العلاقة مع الأكثرية الدينية في البلد تاريخياً وحاضراً، إلى طبيعة الخطاب المعارض والقوى السائدة له، إلى احتكام هذه الأقليات عبر الوعي واللاوعي إلى موروث ديني مغلق لم تطاله الحداثة، ليشكل كل ما سبق موقف فئة ما من الاستبداد، فما يحدد موقفها هو قراءتها الخاصة عبر تفاعل كل ما سبق، وبناء على مصلحتها وليس خطاب الحريات وحقوق الإنسان الذي تفهمه كل منها وفق مصالحها وليس بعيداً عنها، حيث تمثل نظرة الآخر للحقوق القومية والدينية، لهذه الجماعة أو تلك، المعيار الأول الذي تنظر منه هذه الجماعات لتحدد موقفها قبل أي خطاب آخر، وهو ما نراه بوضوح في موقف العلويين والأكراد في سورية والأقباط في مصر، ليشكل الأمر في نهاية المطاف سنداً للدكتاتورية الكبرى، ليغدو تفكيك هذه المخاوف والمصالح شرطاً ليس لتفكيك الدكتاتورية فحسب، بل لمنع نشوء دكتاتورية أخرى.

الفئات والطبقات والأقليات مرتبطة بجمهورها من تحت وبالدكتاتورية الكبرى من فوق، ما يعني أن الكبرى متغلغة في نسيج المجتمع، والسعي لإسقاطها من دون أخذ ما سبق بعين الاعتبار يضع المجتمع بمواجهة بعضه بعضاً ليدخل دائرة حرب أهلية طويلة، في ظل سلطة تعرف مفاتيح مجتمعها فتبقيه على أهبّة التفخيخ. التجارب تقول إنه كلما قلت الدكتاتوريات الصغرى (أقليات، برجوازيات، طبقات مسحوقة ملحقة بالسلطة، أحزاب شمولية تتعيش على القضايا..) قلت الحاجة إلى الحرب الأهلية كما نرى في تونس ومصر حتى الآن، والعكس صحيح كما نرى في ليبيا وسورية والعراق، ما يعني أن إسقاط الدكتاتورية أولاً وآخراً، يبدأ من تفكيك القوى الساندة لها في المجتمع، وهذا لا يكون من دون مشروع تغيير وطني تجد فيه تلك الفئات مصلحتها فتلتحق به.

 

(سورية)

العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى