صفحات الحوار

دلال البزري: أحاول الاجتهاد في كتابة ما يتعلق بالقضايا العادلة. “سنوات السعادة الثورية” كانت الأجمل في حياتي رغم مرارة الفشل

 

 

زهرة مرعي

ربما رأى كثر صورة لهم، أو توافقاً مع جزء مما دونته دلال البزري في «سنوات السعادة الثورية». هو كتاب من 224 صفحة صدر عن دار التنوير بغلاف حيوي الحركة، مباشر الدلالة عن المضمون. بلغة شفافة مُغلّفة بالسخرية المرّة حيناً والعفوية حيناً آخر تنقل البزري القارئ إلى سنوات السحر الأيديولوجي. سنوات عجز خلالها العالم برمته عن احتمال الأحلام بالحرية والعدالة والتحرير التي شغلت جيلين بين بداية الستينيات ونهاية السبعينيات. بتوصيف مصيب ودقيق تناولت الكاتبة الشهود على تلك المرحلة، وكذلك ذاتها. عادت إلى طهر الاندفاعات الأولى التي سببتها فلسطين والعمال المسلوب تعبهم، وطبعاً نظام لبنان الراسخ في طائفيته.

مع دلال البزري هذا الحوار:

■ لماذا البداية الفلكلورية لسنوات من عمر أجيال لبنانية بدءاً من العنوان إلى صورة الغلاف؟

□ فلكلورية! لم يخطر لي الفلكلور، بل العكس. بدءاً من صورة الغلاف وهي الأسهل، إنها واحدة من عشرين صورة رسمتها الفنانة هبة نصار. في التصور الأولي مع دار النشر وضع صورة تحكي كلا من فصول الكتاب العشرين، ومن ثم اختار ما أجده أكثر تعبيراً عن المضمون، للغلاف فقط. هبة نصار تُعبر رسماً بخفة، ورسمت بعد قراءة الكتاب. ليست على اطلاع بالمرحلة التي يحكيها الكتاب، ولا صلة لها بتاريخنا اللبناني. تعبيرها نتج عن إحساسها بما قرأت. ليس في العنوان فلكلور بقدر ما هو نابع عن حاجة عميقة للسعادة. لم أقصد بداية هذا النسق في الكتابة. تفاعلي اللاحق مع النص، راعى جداً حاجتي للحصانة النفسية مما أطلقت عليه جحافل النسيان. برأيي الخفة كلمة أكثر تطابقاً من الفلكلور.

■ هل كنت بحاجة لهذا البوح طلباً للراحة الداخلية؟

□ إجمالاً الكتابة فعل مريح خاصة عندما تكون داخلية. لا شك هذا الجانب موجود في ما كتبته. لماذا اخترت هذه الكتابة تحديداً؟ السبب أنني كنت ألتقط ومضات هجمت عليَ. وعندما جمعت الـ»بازل» الخاص بها انتبهت أنها ومضات تعود لأجمل سنوات حياتي. المفارقة أنني في حينها لم أكن اعتقدها الأجمل من عمري. تلك الومضات سمحت لي باسترجاع أحاسيس كنت استمتع بها في حينها. وحين كنت بصدد تدوين تلك اللحظات تضاعفت متعتي بما مضى. فالمنظار الذي شاهدتها من خلاله كأنه أعاد لها حقها. هي تجربة حزبية انتهت بالفشل، وكان الأحرى بي بعد انهيار كافة تصوراتي أن أشعر بالمرارة. مرارة لمستها لدى آخرين فشلت تجربتهم الحزبية من دون أن أفقه لماذا لا أشعر بها شخصياً. مرارة ألححت بالسؤال الذاتي لفهمها. بصرف النظر عن النتيجة التي وصلتها تلك السنوات من عمري، فقد أشعرني الكتاب بأنها كانت الأجمل. الابتعاد نسبياً عن الالتزام تركني في صفاء ذهني فاستعدت التاريخ واجتهدت في ترتيبه.

■ هل استبدلت القهر والخيبة من الفشل بالسخرية التي ميزت نصك خاصة الوصفي منه؟

□ قد تكون تلك اللغة استخداماً لا واعياً. أبلغني من قرأ الكتاب بهذه السخرية وبوجود مقاطع مضحكة لم أكن أقصدها. السخرية موجودة نعم، وأعجز عن تفسير سبب وجودها. هي عفوية ولم أصطنعها.

■ أن تكوني في العمل السياسي أو النضالي إن صحّ القول فهل فلسطين كانت حافزك الأكبر أم الرغبة بالتغيير والعدالة الاجتماعية؟

□ اقترنا معاً في عقلنا الأيديولوجي. في مقولاتنا أن تحرير فلسطين إما يكون بالتشابك أو بالتوازي مع مسألة العدالة الاجتماعية. هذه الترابط كان حاضراً بقوة في عقلنا. لم تكن المسألة شخصية، بل عبر تلقي الافكار ومناقشة التقارير التي كنا بالطبع نوافق عليها ونتحمس لها. كنا صغاراً بعد.

■ لاحظت خلال الالتزام تكريم منظمة العمل الشيوعي لأبناء البرجوازية فلماذا برأيك كانت تضعهم «فوق رأسها»؟

□ هو أمر طبيعي نظراً لطبيعة العلاقات بين الطبقات، وليس طبيعياً بمعنى قبول ممارسته. هي ممارسة كانت سائدة، ولم يكن ظاهراً أن الوعي السياسي يحصن من الفروق الطبقية، خاصة على الصعيد المعنوي. السبب في تلك الممارسة إنساني وطبقي اجتماعي. لم نكن جبابرة.

■ الربط بين الحرية الجنسية ومنظمة العمل وفلسطين، كما ورد في نصك، يدفع للسؤال عن الجدلية التي جمعت هذا الثلاثي؟

□ هي مسألة كانت موجودة بقوة عندنا، خاصة في قراءتنا عن الحرية الجنسية التي كانت السائدة في اليسار الفرنسي، والحرية الجنسية الموجودة في كتابات ماركس وأنجلز. بالطبع كنا نرفع من الذهن التجربة الملموسة التي لا تنم عن حرية جنسية. إنما كان التوق أن هؤلاء المنظرين، وتلك التجارب أعطت للحرية الجنسية شرعية تعاطيها مع النضال اليساري. وليس لأحد أن يتصور أنها حرية جنسية بورنوغرافية على طريقة بعض الروايات الحديثة التي رغب من كتبها بالانتشار عبر الكلام الفلكلوري عن الجنس. كانت مرحلة تنظير واسعة عن الحرية الجنسية، إنما التطبيق لم يكن بالغزارة نفسها.

■ هل ندمت لأن الاهداف الثورية غيرت مصيرك؟

□ لا شك في أن تغيراً طرأ على مصير الكثيرين بفعل الأهداف الثورية. بعد طموح بأن أكون طبيبة تداوي الفقراء، كان للماركسية أن تدفعني نحو الاقتصاد لفهم كافة الأمور من خلاله. وفي الجامعة اليسوعية تزوجت بعد أربعة أشهر من بدء السنة الجامعية الأولى. بعد تكوين عائلتي عدت إلى كلية التربية لدراسة الأدب الفرنسي رغم شهادتي الثانوية في الفرع العلمي. جواباً على السؤال اقول بأنني لا أحب الندم.

■ في هذا الكتاب هل كنت حيال توصيف للحالة الثورية التي كانت بعد منتصف القرن الماضي أم كنت بصدد رفع الغطاء عن المسكوت عنه؟

□ لا شك المسكوت عنه كثير، وهو يوجد لدى الجميع. برأيي هو نوعان واع، وغير واع. الثاني لم نحققه. في الأول أقول برد فعل قوي بمواجهة عرض النفس والحميمية والفضائحية، وحيالها مارست نوعاً من الرقابة الذاتية. برأيي لا شأن للقارئ بها. لم أكتب أسماء حقيقية، وغيرت بعض ملامح الشخصيات لرفع الحرج عن أي كان. جمعت بين المتخيل والوقائع من خلال سياقات تبعد الشبهة عن أي كان. شعرت بحرمة في مكان ما ولم أرغب بخرقها.

■ هل من تعليقات محددة لرفاق الأمس؟

□ منهم من وجد نفسه في الكتاب، ومنهم من لم يجدها.

■ كتبت بعضاً من سيرتك الذاتية ومن خلال عمر من الخيبات. أليس هناك فسحة أمل؟

□ لا أمل مطلقاً على الصعيد العام. ولا وجود حتى لأمل قريب. أمتلك أملي الشخصي بقدرتي على مقاومة كل ما يمكن أن يضربني صحياً وفكرياً. أملي موجود بأن لا أقع ولا يقع من حولي.

■أين أنت من نذرك الدفين بأخذ حق والدك بعد إفلاسه وحق جمال عبد الناصر بعد هزيمته؟ كم ترجمت هذا لاحقاً؟

□ كل ما أقوم به وحتى الأمل الذي أعيشه هو من أجل والدي. شخصية أبي صنعتني. في سرديتي الخاصة أجد والدي من دفعني نحو كافة أنواع المعارك، وكذلك المثابرة. هو نوع من الثأر. يقترب والدي من عبد الناصر، رغم كون عاطفتي نحوه بمكان، وعقلي نحوه بمكان آخر. صلتي بعبد الناصر تفسيرها أن لا سبب للحب ولا منطق. هي مسألة غير عقلانية. انظر إلى عبد الناصر بحب. أحب عينيه، سُمرته، رجولته وليس ذكورته، وصوته.

■قلت بـ«نفوري الصميمي من أي سلطة» فهل كانت سلطات اليسار ديكتاتورية؟

□ في اللحظة التي نعيشها لا ننتبه لسطوتها، هيبتها وهالتها التي تحيط بالمسؤولين الحزبيين. كافة هؤلاء هم عناصر، نحن مقتنعون ومؤمنون بهم سلفاً. إن فقدنا تلك القناعة سنبتعد، ولاحقاً ننتبه لما حدث. التجربة جارفة.

■في مرحلة النضال تلك كان مفهوم الأنوثة ملتبساً. هل تصالحت مع أنوثتك؟ وهل المساواة أن تقوم المرأة بما هو حكر على الرجل؟

□ صرت في مكان مختلف كلياً. لا شك بفرحي السابق بألقاب أطلقت عليَ كما الصخرة، القلعة، أخت الرجال. سادت لزمن فكرة أن المساواة في أن نصبح كما الرجال على صعيد الصفات، أسلوب الكلام وحتى طريقة التدخين، عدم الاهتمام بالشكل الخارجي، ولم تكن المرآة تعنينا. الوعي على هذا الصعيد تمّ ببطء شديد، حققته بعد زمن طويل من تركي للعمل الحزبي. كنت أحتاج للكثير من التجارب حتى أتأكد بأننا لم نخترع بعد الأنوثة الحرّة. حتى الآن نحن كنساء نحصد محاولات تقليدنا للرجال. وهذا ما يفسر ردة فعل الرجال الذين تحولوا لمزيد من الذكورية. أن تهدد المرأة الرجل، وتشعره برغبة في خصائه فهذا ما يؤدي لرد عنيف. مقاييس هذا الجيل اختلفت، النساء يعملن، قويات وفي الوقت نفسه يرغبن في أن يكنّ «سيكس بوم».

■ ما هو تعريفك للأنوثة الحرة؟

□ يكون ذلك من خلال عملية متواصلة من الحفر في خلال التعامل مع الحياة. ما أسعى لبلورته هو في أن تكون لمخيلتي حرية صياغة علاقة جديدة بين الرجل الذي أراه أكثر إنسانية للعلاقة التي يفترض أن تقوم بين رجل وامرأة.

■التشوش في مفهوم الذكورة والأنوثة هل ترك أثره على حياتك الشخصية وعلى تربيتك لابنتك؟

ـ أكيد ترك أثره لكني لا أدرك أين بالتحديد. بالنسبة لابنتي هي حرّة أكثر مني على صعيد عقلها، فيما أظهر حرّة من الخارج. ليس لدى ابنتي أحكام وأفكار مسبقة.

■رغم مرارة التجربة فهل أثناك ذلك عن مساندة القضايا العادلة في العالم؟

□ نعم أنا مستنكفة على النضال الحزبي. لكنني أحاول الاجتهاد في كتابة ما يوضح أو يهتم بالقضايا العادلة.

■أين فلسطين من أفكارك التي كانت من مسببات سنوات السعادة الثورية؟

□ أحزن لأن قلباً عربياً لا يرف على الدم الفلسطيني، فيما نحن منشغلون في صراعات أخرى.

■ وماذا عن إيجابيات سنوات الثورة؟

□ بكليتها ضحك وأمل وركض. نعم هي أحلى سنوات العمر.

زهرة مرعي

القدس العربي

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى