صفحات الثقافةفاديا لاذقاني

دمشق، سبع بحرات وسجن وحريقة/ فاديا لاذقاني

سوريا، يوم من آب 1981

كان يمكن لهذا اليوم أن يكون عابراً كسواه، بلا ذكريات، لولا أن…

نحن مكدّسون في حافلة كبيرة للنقل العام. اليوم منتصف آب والحرّ لايُطاق. “الباص” متوقف منذ دقائق، لا يحيد قيد أنملة. فنحن  خلف إشارة السبع بحرات في الشام. ازدحام السيارات والباصات وصنوف المركبات يحيط بنا من كل صوب. نكاد نختنق. كلٌّ منا يمسح عرق وجهه ورقبته. رحنا نسمع سقسقة الأدعية وهمهمات  التبرّم. تمر الدقائق والباص لا يتحرك. في المقعدين، أمامي مباشرةً، رجلان لهما كل مظاهر “العاديّة”. يركض عقرب الساعة وتتكاثر الأصوات. ليس بمقدور أحد النزول في منتصف الزحام. يتطاول بعض الناس رافعين رؤوس أقدامهم، مطلّين فوق الأكتاف وخلل الرؤوس، يحاولون رؤية المشكلة أماماً. تنظر العيون إليهم بارقةً برجاء، ثم تخبو معاودةً قنوطها. مرّاتٍ ومرّاتٍ تغير لون الإشارة ولم يتحرك الباص.

لا أدري عند أي دقيقة حدث ماسيحدث. إنه ذلك النوع من الحادثات التي يسابق زمن وقوعها استقبال الحواس لها، بلحظة تتشكل وتنتهي، ثم تتوكأ على أخدود من أخاديد الذاكرة لاتبرحه. ويكاد السمع والبصر ينكران. أوهمٌ من حمّى الحرّ أم واقع؟

فجأة، استدار إلى يساره أحد الرجلين الجالسين أمامي، و بسرعة البرق، هوت يده على وجه جاره بصفعةٍ دوَّت بحدّةٍ رغم ضجيج الباص!

ساد صمتٌ عجيبٌ مساحة الباص الصغيرة التي كنا بها.

الرجل الذي أكل الصفعة لم يحرك ساكناً. بل خيّل إليّ أن رأسه غاص بين كتفيه وجمد تماماً. أطبقت شفاه الركاب القريبين حابسةً حتى أضعف الهمهمات. أظن أن أكثر من رجل انتظر ونظر في عيون الآخرين. انهمر سيلُ مشاعر لم أستطع اللحاق بها. الرجل وجاره على وضعيتهما أمامي كأن ما حدث كان ضغثا. بقيتُ لثوان (أو أكثر؟) أتوقع انبثاق أحدهم  يهب للذَّود عن كرامة الرجل المصفوع. الكلّ صامت، وما من نأمة جيء بها! كأننا نصور فيلماً وتوقفت الكاميرا. لا الباص يمشي والسائق مازال ينتظر فرصةً كي يعيد تشغيل المحرك. “لم يحدث شيء، لم يأت أحد”. مرّ زمن. لم يتغير شيء في المشهد، سوى أن الصّافع تململ في جلسته قليلاً ثم قذف ببعض السباب البذيء وهو يخرج بصقةً لا أعرف أين وجدت لها مكاناً في الزحام، قبل أن ينهض بعصبية شديدة ويتقدم رافعاً رأسه عالياً، مفسحاً لنفسه المسافة بيديه نحو السائق بتشنج واضح. يقول له شيئاً فيفتح له هذا الباب تاركاً إياه ينزل ذائباً في عباب الزحام.

في حافلةٍ عامة للنقل، اشتدّ الضيق بالحرّ اللاّهب على رجلٍ، فصفع آخر اتفق أن أجلسَتْه مقاديرُ حظه التعس إلى جانبه.

 لو حدثت هذه الواقعة في أي مكان في العالم (إلا مايشبه سوريا، إن كان لها من شبيه!) كم سنياريو مختلفاً كان يمكن أن ينتهي عنده المشهد؟ ردُّ المعتدى عليه، استدعاء شرطة، دعوى في المحكمة، مشادة بين الرجال، أو حتى اقتياد المعتدي إلى مشفى للمجانين؟ وحده الصمت كان جواب الرجال الذين شاهدوا وسمعوا صوت الصفعة. وحدها حافلة للنقل العام بين القصاع ومدخل سوق الحميدية، في دمشق، طوت ذلك السرّ. لم يكلم أحدٌ جاره في ذلك، فكأن الناس في سدرة من ذلّ كظيم. لكن، خيل إليّ أن كثيرين مثلي، استرقوا النظر إلى جيبي وجذع الرجل ذي المظهر العاديّ جداً، بحثاً عن آثار مسدّس. لا أظن أحدنا رأى شيئاً. لكننا عرفنا، كلّنا، كما لو أن همساً خفياً سرى بيننا أن الرجل ذا المظهر العادي جداً لم يكن في الحقيقة سوى “عنصر أمن”.

سجن كفرسوسة، 1982

الزيارة عصفُ أحاسيس. زلزالٌ يرجّ سبات الأيام الآسنة. وبالمرصاد للسجين زمنَ السجن تفاصيلُ التفاصيل. الزيارة المنتظرة بلهفة  تهبط من مجهول تقويم الانتظار كبرق الرّعد. تطوي الأمّ زاويةَ ورقة اليوم من “روزنامة الهاشمي” الهاجعة تحت وسادتها  منذ طوت الأقبيةُ الأحبة، “تخربش” عليها شيئاً تملّت من مثيله ثم ستتملّاه دهراً لا تعلم حتى الآلهة بنهايته. لا يعرف أهل السجين موعد الزيارة إلا قبل ساعةٍ أو بضع سويعات من حدوثها، فيهرعون إلى لمّ الأمتعة التي جمّعوها منذ آخر زيارة.

الزيارة منّةٌ ولعنة! فكم يحبها من كان له بها حظّ وكم يكره عذابات امتحانها إذ تحدث ثم تنتهي!

هذا اليوم، أفلتت مني دمعةٌ، كأنها بحجم السماء، وأنا أسترجع منظر أصابع أيدي أمي وأختي المحمرّة المحزّزة من حمل أغراض الزيارة. ما أطول المسافة وما أكثر الأبواب والحراس مِن أقرب مكان مسموح به للسيارة التوقف، فباب إدارة المخابرات، ثم الباحة الصغيرة، فالممرّات، ثم الباحة  الكبيرة المفضية إلى السجن، وصولاً لغرفة الزيارة. نظر إليّ “عنصر الأمن” – السجّان الشاب المكلّف بحراستي، وأنا أحمل متاعي باتجاه قبو السجن، وعيناه تهربان  :

–         لا تؤاخذيني، اليوم رأيتهما تتعذبان وتتعثر منهما الخطوات في حملهما أكثر من العادة، أشفقت خاصةً على والدتك المسكينة، وقد تقوّس ظهرها. لكن ما باليد حيلة. أنا هنا أقضي مدّة خدمتي الإلزامية فقط. كان بودّي لو ساعدتهما في الحمل. لكنّ رفيقاً من عناصر أمن الحرس، قام بتلك الحركة بشكل عفويّ ذات يوم، فكلّفته تعذيباً حتى أغمي عليه، وأُلقيَ به أسبوعاً كاملاً في المنفردة عقاباً.

أغلب الظن أن هروب عينيه لم يكن تحاشياً للنظر فيّ مباشرةً. فهو يرفع جفنيه ونظره دون الرأس، تجاه السطوح و الأبواب المحصنة كأنه يخشى أن تضبطه يحادثني العيون والآذان الخفية، قال كأنه يكلم شخصاً غيري أو يردد درس استظهار:

–         بعد حادثة عنصر أمن الحرس شدّدوا علينا الأوامر الصارمة. لا أحد يغامر بعصيانها. النطق حتى بكلمة واحدة مع أهالي المساجين الآتين لزيارتهم ممنوع، وما أكثر العيون الراصدة المزروعة يتغير توضّعها كل يوم، فهي في كل الأمكنة. كل شاردة و واردة تصل لإدارة السجن أو حتى أحياناً الإدارة العامة. التقارير شغالة ليل نهار، وكل منا يخشى الآخر.

الحريقة، 17 شباط 2011

تعرف صديقتي المصرية أن عيون السوريين مسمّرة على الشاشات دقائق النهار والليل منذ مايقرب الأشهر الثلاثة.

ركضت إليّ ذات يوم لاهثةً باشة الوجه:

– ألم أقل لك إنكم لن تتأخروا عنا كثيراً، والسبحة فرطت؟ ثلاثمائة وخمسة عشر شخصاً شيء عظيم كبداية.

آه يا صديقتي، بأية مفرداتٍ أخبرك عن بلدي الحبيس؟ أجبتها وقلبي يفيض مرارةً:

–         إنهم خمسة عشر شخصاً وصلوا للساحة متفرقين متوجسين بغية التجمع، فوجدوا باستقبالهم ثلاثمائة عنصر أمن يحاصرونها ويسوقون بعضهم إلى فرع الأمن القريب.

يهمسون أن دمشق بدأت تتثاءب، وقطرات من نسغ الحياة شرعت تسري في أوصالها المغيّبة. أتتنا بهذا من وراء البحار رسائل “مشفّرة”. دمشق، الأميرة النائمة بفعل السحر الأسود، لم تعدم، بين فينة وأخرى، فرساناً وأمراء حملوا شجاعتهم في أيديهم، هبوا مراتٍ عديدة قبل أن تطويهم الظلمات. وقلب دمشق الأميرة المسحورة يحتفظ بأسمائهم في ثنايا شغافه، ثم يخلد إلى سباته العميق المديد. فالأبواب والأسوار مسيّجةٌ بالمشانق، ومدخل الغابة موصدٌ بمليون قفل وقفل.

ثم كان هذا الصباح. نفض الذلّ عن كاهله جبالَ الغبار وقال للأمير قم، فقام!

بكى كلّ السوريين (إلاّ قلّة منهم) لمّا رأوا وسمعوا، ثم أعادوا الكرّة فرأوا وسمعوا، وأعادوها كي يروا ويسمعوا، بعضهم غير مصدِّق من فرحٍ وذهول، “مظاهرة” الحريقة. اليوم، لم يعد يطيق الشاب السكوت على إهانة شرطي. اندفعت قصص كل البيوت والحيطان و النوافير والحواري والسنين متلبّسةً صوته ووراءه الحشد يردّد : الشعب السوري ما بينذلّ.

ربما يستنبط كثيرون لماذا بكى السوريون لما رأوا وسمعوا. لكن، وحدهم، السوريون خبِروا و يخْبرون، في عمق لحمهم وحَشا أجسادهم، حرقةَ هذا البكاء و ملوحته، بعد ألف حولٍ وحولٍ كادت أن تصير أبداً.

، أيار، 2013

مجلة دمشق العدد الرابع والخامس

نشر بموافقة الكاتبة فاديا لاذقاني

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى