صفحات الثقافة

دمشقي


هنادي سلمان *

كانت ظهري دوما، وسندي.

طغاة يحكمونها أو أبطال، يخونون ويضحون، يخطئون ويصيبون، نظام يرتهن شعبه، إلا أن البلاد تلك هي ظهري وسندي، وركن الأمان: مهما حصل، فدمشق ستبقى، دمشق سترفعني إنْ أنا سقطت، حتى وإن كانت هي من أسقطني.

على وقع المدينة السرمدي أحيا أيامي في قيظ الصيف وبرد الشتاء القارس.

في المنزل المزنّر بالياسمين كما كل منازل المدينة – مدينتي – التي تفرض نظامها عليك: متى تصحو، متى تأكل، متى تعمل، متى تقيّل، متى تعود إلى المكتب، ومتى تسامر الأصدقاء والأحباء.

نسهر على الشرفة، فأمازح الرجل الذي كالرمح والذي جعلني بعضا مما أنا عليه. أسأله: أليست لديكم مستشفيات مجانية؟ ومدارس؟ وجامعات؟ وأمان وبنى تحتية وطرق وماء وكهرباء؟ ماذا تريدون أكثر؟ حرية؟ نحن لدينا حرية، نستعملها للمجاهرة اليومية مطالبين بالحصول على كل ما لديكم مما سلف ولا من مجيب. خذوا حريتنا وأعطونا ما لديكم من مستلزمات العيش.

يضحك، وأضحك. فكلانا نعرف أن المهانة الناجمة عن غياب الحرية تساوي تلك الناجمة عن تغييب مستلزمات العيش الكريم.

أنا ابنة جيل تشكّل وعيه وفلسطين سليبة، ومصر غائبة مغيّبة، والعراق مرتهن ومرهون.أنا، لم يكن لي إلا دمشق ركن لن يخذلني يوما، دمشق، بأهلها المسالمين المتعلمين المثقفين الوطنيين الذين، من شدة وطنيتهم، يخافون على النظام ذاته من نفسه وتهوره. دمشقيون لا يرون دمشق إلا كما هي: قلب العرب، وبوابة فلسطين.

أمشي في الشوارع الهادئة، المزينة بالأخضر في كل ركن، ذات المنازل التي يُمنع ارتفاعها. لدمشقي زمانها الخاص، هي الهنا الثابت الصلب، وهي، اليوم، تكفيني. دمشق لي، دمشق سندي وظهري.

قبل زمن، كنت أرى أصدقائي الفلسطينيين يُرضعون أبناءهم مع الحليب أسماء قراهم وأماكن الصخور والتلال والأشجار فيها، فأوقن بأن غدنا آت بلا شك.

أجول في عواصم العالم فأتعرّف إلى الآلاف من العرب الذين ينهلون العلم في القطاعات كلها، فأقول ان وجه ابنتي غدا سيشبه وجه القمر.

ذات يوم، كنت أراوغ: أبتاع أفلام الستينيات التي تروي مصر بالأبيض والأسود، وأدّعي أن “مصري” تلك ما زالت قائمة، وتنتظر من يوقظها.

وكنت، حين تضيق الأمكنة والأزمنة، وتتردى الحياة إلى حد السفه، أقصد دمشقي. أعبق من رائحة ناسها، وحاضرها، وتاريخها، وغدها، وأقول ان كل شيء سيكون على ما يرام.

دمشقي.

بت اليوم أبحث عن مسلسلات تروي الشام قبل الكارثة، أتمسّك بصورتها قبل الخراب، وأقول ان كل شيء ما زال على ما يرام.

مَن جاء بمرتزقة يحلون محل الطغاة؟ مَن جاء بالغوغاء يرمون بماء النار وجه المدينة الصابر الهانئ البهي؟ مَن أولئك الذين باتوا اليوم يوزّعون نياشين الوطنية على الذين تخلّوا عنها، وتهم العمالة لمن صمد في هذه الأرض وفوقها على امتداد ليلها الطويل؟

ليس لدي اليوم لكِ، يا رمحي ويا الصابرة إلى جانبه كَسُور المدينة القديم، ما أقدّمه. أنا أعجز حتى عن الاعتراف بما يجري.

أسأل فقط: من سيرد الضنى، ويصدّ من يرمي وجه شامي بماء النار؟ أين نذهب من هنا؟ من يوصد أبواب الغد والديار كلها؟

* صحافية من لبنان

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى