صفحات سوريةغازي دحمان

دمشق أو حافظ بشار الأسد/ غازي دحمان

 

 

أثبتت أحداث السنوات الماضية في سورية أن كل خسارة للثوار في دمشق ومحيطها تقرّب الثورة أكثر إلى شكلٍ من أشكال التمرّد، في حين أن أي ربح تحققه الثورة في بقية أنحاء سورية لا يعتد به، وليس له قيمة إستراتيجية مهمة في عملية إسقاط النظام.

لم تغير سيطرة المعارضة على مدن وأرياف واسعة في سورية من معادلة الحرب، بقدر ما تحوّلت تلك المساحات إلى أمكنة لإستنزاف الثورة والثوار، سواء على صعيد رصيدها من المقاتلين، أو من رصيدها لدى البيئات الحاضنة لها، والتي ذاقت الأمرين، ذلك أن أي منطقة سيطر عليها الثوار حوّلها النظام إلى جحيم أرضي، وشرّع بحقها كل أشكال العنف، من دون رحمة.

وفي ظل سيطرة سلاح الطيران على المعركة، وسهولة استهدافه أي منطقة، لم يكن من الممكن الاستفادة من الأراضي المحرّرة لبناء سلطةٍ بديلةٍ عن سلطة النظام ومؤسسات خدمية ومدنية، وهي من المفترض أن تكون جوهر عملية تحرير المناطق. وبالتالي، حوّل انتزاع هذه المهمّة عملية تحرير المناطق إلى استثمار مكلف ومحكوم عليه بالفشل المحتم.

في فترة سابقة، لم يبق تحت سلطة النظام أكثر من 16 بالمئة من مساحة سورية، بل وصل به الأمر إبداءه الاستعداد للتراجع عن مناطق في هذه المساحة في مقابل احتفاظه بالعاصمة دمشق وسيطرته عليها، فقد اختزل نظام الأسد سورية بها، ووضع فيها أكثر من نصف قوّته، ونخبة جيشه، إدراكاً منه أن الثورات تنجح عندما تسقط العواصم، وطالما بقيت بعيدةً عن العاصمة، فإنها تتآكل وتنتهي إلى صراعاتٍ بين أطرافها مع الزمن، فالثورات في الأقاليم هي تمرّدات، حتى وإن دامت عقوداً، كما أن نهايتها تكون على شكل مطالب خدمية للأقاليم، لا علاقة لها بالنظام السياسي وطبيعة الحكم وآلياته.

تلك كانت من أخطاء عديدة للثورة السورية، ولعلّ الخطأ الأكبر عدم اعتماد الإستراتيجيا بمعناها الحرفي، بعد أن تحوّلت الثورة إلى السلاح. والإستراتيجيا بهذا المعنى تعني رسم خطّة للوصول إلى الأهداف بأقصر مدى زمني، وبأقل قدر من التكاليف، فضلاً عن تنسيق العمل والتكامل بين عشرات، إن لم يكن مئات الفصائل، المقاتلة التي استمرت كل واحدة بالقتال

“إذا قضى الأسد على الثورة في محيط العاصمة، فعلى السوريين التجهز لحكم نجله حافظ بعد زمن. وإذا قضى على الثورة هناك، فستنتهي كل المناطق إلى نهاية حلب وحمص” وكأنها هي الثورة كلّها، فما هي الفائدة الإضافية التي جنتها جبهة اللاذقية من نظيرتها الحلبية، بل ما المكاسب التي حققتها جبهات غوطة دمشق الغربية من الجبهة الجنوبية الملاصقة لها؟ الواقع أن الثورة السورية لم تكن سوى مجموعة ثورات، كل واحدة تعمل لأهداف منفصلة، من دون أن يكون هناك تبادلية في المنافع، ولا تنسيق في الأدوار.

شكّلت العاصمة الاستثمار السياسي الأبرز لنظام الأسد وحليفتيه، روسيا وإيران، فمن خلال ضمان السيطرة عليها، ضمن نظام الأسد استمرار عمل مؤسساته التي جعلته الطرف الأكثر واقعيةً في الحكم وقدرة على إدارة شؤون سورية، وكان من غير الواقعي في نظر أميركا وأطراف دولية كثيرة إزاحة نظام يدير مؤسسات الدولة وإستبداله بأطرافٍ لم يسبق لها إدارة مثل هذه المؤسسات، ولم تثبت أنها قادرة على صناعة بدائل مناسبة.

واليوم، يبدو أن دمشق تفلت شيئاً فشيئاً من يد الثوار، خصوصاً في ظل الحديث عن هدنة بين الأطراف المتصارعة، ما يعني أن نظام الأسد وحلفاءه سيتفرغون لإحداث تغييرات في دمشق وغلافها، استكمالاً للإجراءات السابقة التي قاموا بها، وكان لها أثر كبير في تفكيك المخاطر المحيطة بالنظام.

كيف لم ينتبه ثوار سورية إلى أن الجهود والموارد التي ضيّعوها في الأطراف كانت كافيةً لطرد نظام الأسد من العاصمة، وإن لم يكن إسقاطه فتحويله مع حلفائه إلى طرفٍ مثل “داعش” وجبهة النصرة في أحسن الأحوال، وسيطرة الثوار على العاصمة، بعدما انهار جيش النظام، كانت كفيلةً بضمان إنهيار قواته على الجبهات كافة، كما أنها ستضعه أمام خيارات وبدائل سيكون أفضلها التقهقر إلى جبهة الساحل، وحتى المليشيات الحليفة، القادمة من العراق ولبنان، ستضطر إلى تقليص أهدافها بالدفاع عن بيئة الأسد في مناطقها، وحتى روسيا نفسها لن تخوض حينها معركة على هذا الاتساع، في ظل تقلّص مساحات انتشار قوات الأسد.

ولكن، على الرغم من ذلك، هناك فرصة لتحقيق شيء من هذه الإستراتيجية، فعلى الرغم من كل ما حقّقه النظام من تقدم في محيط العاصمة، لا يزال هناك عديد قوات ثورية في الغوطة الشرقية، يقدّره بعضهم بخمسين ألف مقاتل، بالإضافة إلى مقاتلي الجبهة الجنوبية (35 ألف مقاتل)، وآلاف من مقاتلي القلمون، ويمكن تغذية جبهة العاصمة بآلاف من مقاتلي الجبهات الأخرى، كما أن الفصائل ما زالت تسيطر على مساحات من العاصمة نفسها (جوبر، القابون، مخيم اليرموك)، يمكن أن تشكل كل منها مداخل لتفعيل العمل ضد نظام الأسد، وتستطيع القوات في هذه المناطق تحقيق التحامات سريعة من شأنها تعطيل فعالية القوّة الروسية، على اعتبار أن مساحة دمشق ورقعة انتشار السكن فيها أصغر بكثير من المساحة في حلب التي تساوي أضعاف مساحة دمشق.

إذا استطاع الأسد أن يقضي على الثورة في محيط العاصمة، فعلى السوريين التجهز لحكم نجله حافظ بعد زمن. وإذا قضى على الثورة هناك، فستنتهي كل المناطق إلى نهاية حلب وحمص، إن لم يكن في هذا العام فبعد عامين أو ثلاثة. في حال استطاع تحطيم قوى الثورة وإفراغ محيط دمشق من الثوار، سيعمل نظام الأسد على تغيير هويتها إلى الأبد، عبر تغيير تركيبتها السكانية، وستنتهي أي إمكانية للثورة في دمشق.

العربي الجديد

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى