صفحات الناس

دمشق التي تحولت الى خيمة كبيرة/ كمال شيخو

 بزيهن الأسود، جلسنَ في منتصف سوق باب سريجة الدمشقي، واكتفين برفع قطعة كرتونة مكتوب عليها ٣ كلمات فقط “إرحمونا الله يرحمكم”. لم تأبهنَ لازدحام الناس ونظرات الفضوليين، وهن اللواتي هربنَ من أصوات الموت كما قالت حليمة لـ”المدن”.

وعندما حاولت الاسترسال في الكلام، كانت دموع عينيها أسرع من نطق لسانها، قبل أن تعاود شرح سبب جلوسهنَ في هذه الحالة قائلة: صوت “الموت هناك كان مرعب؛ كل صبح ومسا الأصوات ما تهدي وفي كل صوت يموت أناس أغلبهم مدنيين”.

 وهناك ليس سوى منطقة الحجر الاسود جنوب دمشق، التي هربت منها حليمة ونجاح وسعاد بعدما أرهقن من أصوات القذائف وراجمات الصواريخ وهدير الطيران الحربي، التي باتت تطغى على حياتهم في تلك المنطقة المحاصرة نتيجة تعرضها للهجوم بشكل يومي.

 الموت كان في كل مكان حسب ما تصف نجاح، واستدركت قائلة “كل ما تقع قذيفة كانوا بينادوا حدا مات، هونيك صارت موت وبس”. أما سعاد التي مات أعز الناس على قلبها كما تقول، اكتفت بالقول بصوت حزين “الأحياء يتمنون الموت للتخلص من الهاجس يلي كنا نعيشه بكل لحظة”.

 حال حليمة ونجاح وسعاد ينطبق على غالبية سكان العاصمة السورية دمشق ممن يعيشون على وقع أصوات القصف المتبادل بين النظام والمعارضة، حتى غدت الحياة بالنسبة إليهم لا تطاق.

 المربية (مريم- مدرسة متقاعدة) تعيش مع ابنها غسان في منزل شقيقها الكائن في منطقة مسبق الصنع، بعد نزوحهم من مدينة حرستا بريف دمشق جراء المعارك الدائرة، روت لـ”المدن” كيف بدأت تلك الأصوات بسماع طلقات من الرصاص بشكل متقطع. ولكن بمرور الزمن تطور الوضع وتنوعت الأصوات إلى درجة ان الاطفال، وبحسب ام غسان، باتوا يميزونها من بعضها؛ قذيفة هاون وأخرى طلقة دوشكا، وواحدة شيلكا وراجمة الصواريخ التي يكون صدى صوتها اقوى الأصوات.

 وتصف ام غسان الوضع الآن قائلة “لم نعد نهتم لهذه الأصوات؛ بالرغم من قساوتها فقد أصبحت جزءاً من حياتنا اليومية، نستغرب إن لم نسمعها”.

أم غسان التي تعيش أيضاً مع حفيدتيها، في منزلهم القريب من قاعدة عسكرية تطلق النار على منطقتي برزة والقابون الخاضعة لسيطرة المعارضة، أوضحت أن الفتاتين أصبحتا تعانيان أيضاً من تداعيات ما تعايشانه. عن هذا الوضع تقول “انفجرت سيارة مفخخة بجانب مخفر الشرطة القريب من سكننا؛ والصوت الرهيب الذي نتج عنه أدخل حفيدتي في حالة من الهلع ورفضتا النوم ليلتها خوفاً من انفجار ثانٍ”.

 هذه المأساة تفاقمها في بعض الأحيان المدرسة. فوفقاً لأم غسان “بشكل يومي تأتي الطفلتان من المدرسة محمّلتين بكم من المآسي والمزيد من أخبار الموت؛ فزميل لهما استشهد برصاصة قناص؛ وآخر قتل أبوه بشظية؛ وثالثة كانت حيث سقطت قذيفة الهاون”، منهية حديثها بالقول “الاطفال فقط يدفعون فاتورة الحروب دائماً”.

 وترى الأختصاصية الاجتماعية الدكتورة، هناء زحلاوي، أنّ “أكثر من تضرر جراء المعارك الطاحنة في سوريا؛ هم الاطفال والشيوخ، كونهم أضعف شرائح المجتمع، فالأطفال باتت ألعابهم تتمحور حول الحرب؛ فإما أن يلعبوا مؤيد ومعارض وينهال أحدهم بالضرب على الآخر أو لعبة التشييع مثلاً، أو تقليد الأصوات، مما سيترك ندباً جسدية ونفسية في السمع وفي الدماغ ومشاكل كثيرة ستنشأ نتيجة الخوف الشديد الذي يتبع كل صوت”.

 أما عن الكبار في السن فتقول زحلاوي “نحن لم نجد تكريماً لائقاً لهم في كبرتهم، الآن يستيقظون على وقع مدفع هاون قاسيون، يتخلل نهارهم هدير الطيران وليلاً رصاص الاشتباكات يخترق ونسهم وحنينهم، فما حدث خلال عامين ونيف قادرٌ على جعلهم ينسون كل شيء جميل عايشوه في هذا البلد المتعب لحد الموت”.

وبالفعل، فإن تلك الأصوات وما تحمله من أنباء عن سقوط موتى غيرت حياة جميع القاطنين في دمشق.

بسمة، طالبة ماجستير في جامعة دمشق، تسكن في حي ركن الدين المحاذي لجبل قاسيون، حيث تنتشر فيه قواعد للصواريخ ومقرات عسكرية تصدر أغلب الأصوات، رأت في حديث لـ”المدن” أنّ “الموت هو المشهد الكامل للحياة في دمشق”. وأضافت “ما تبقى منا كومبارس لطيف يحاول تجميل قبح ما نعيش فيه، فالموت يمر بقربنا كل يوم، يلقي التحية ويمضي؛ فلا أظن أنّ أحداً قد أحتك مع الموت كما نفعل نحن، نلمحه في الشوارع بين المارة خلف الأشجار متنكراً بعبوة ناسفة، في جسد كل سيارة ربما تكون مفخخة مثلاً”.

 أما سلمى، وهي موظفة في شركة حكومية، فوصفت دمشق بأنها تحولت إلى” خرابة كبيرة وفقدت بريقها كعاصمة، فهي باتت عنواناً للنكبات المتعددة”. وأكملت حديثها لـ”المدن” بحزن وألم قائلةً “تحولت دمشق الى خيمة كبيرة يدعي الناس فيها أنهم نيام ووقع أصوات القتل والخراب لا يتوقف؛ ولكنّ الحقيقة جميعنا ننتظر مصيرنا المحتوم وهو الموت..، دمشق معسكر مقفل”.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى