صفحات الرأي

دمشق الحرائق: حرب السلطة على العشوائيات

 

شكيب الورّاق *

يروي زكريا تامر في»النمور في اليوم العاشر»، بأن مروضاً خبيراً جعل نمراً جائعاً، مقفوصاً بين القضبان، يصفق له إعجاباً بخطاب ألقاه عليه، ثم أجبره بالجوع على أكل العشب، وعلى حَمْده. «وفي اليوم العاشر، اختفى المروض وتلاميذه والنمر والقفص، فصار النمر مواطناً، والقفص مدينة».

تشتعل الحرائق اليوم في دمشق وريفها. ويمكن من أماكن عدة مطلة عليها، متابعة أعمدة الدخان المتصاعدة من أحزمة بؤسها ومناطقها العشوائية والمخالِفة. كما يمكن مشاهدة الطيران الحربي وهو يغير ويقصف، ومرابض المدفعية في جبل قاسيون وهي تطلق نيرانها على الواقع الذي أنتجته السلطة بنفسها، عبر سني حكمها الطويلة.

نصف السكان يقطنون في عشوائيات

العشوائيات وسكن المخالفات هي مناطق غير خاضعة للتنظيم، أنشئت بلا تراخيص، وتطورت مع الوقت من دون أن تحظى بشبكات الماء والصرف الصحي النظامية، وخطوط التوتر العالي، ناهيك عن الحدائق والشوارع العريضة والمراكز الثقافية وظروف الحياة اللائقة الأخرى. وقضية العشوائيات والمخالفات في سوريا موضوعة مركزية، إذ ان 46 في المئة من سكان مدينة دمشق يقيمون في «مناطق المخالفات»، بحسب احصاءات المكتب المركزي للاحصاء للعام 2007. وبحسب هذه النسب والأرقام، رغم ما يصاحبها من شك، فإن ما يقارب من 700 ألف نسمة يعيشون في أحزمة الفقر هذه (هناك أرقام متداولة غير رسمية توصلها إلى 2,5 مليون في دمشق وريفها). وتصل نسبة السكن العشوائي إلى ما يعادل نصف السكن الإجمالي في سوريا، يتوزع على 147 منطقة، جرت إقامتها وتزويدها عبر سنوات بموضوعها البشري، بدءاً بالمفقرين الذين لفظتهم المدن إلى أطرافها، مروراً بموجات الهجرة من الأرياف القريبة المترافقة مع تدهور قطاع الزراعة، وصولاً إلى الخروج الكبير بعد موجة الجفاف الأخيرة التي ضربت عمق الريف السوري في منتصف العقد الماضي.

وفي مقاربة اجتماعية ـ اقتصادية لسكان المخالفات في دمشق، نجد أنهم متعددو المنابت الدينية والمذهبية والقومية: عرب سوريون وفلسطينيون، وأكراد… مسلمون علويون ودروز، اضافة الى السنة، ومسيحيون. ولكن وسط هذا تتلون العديد من المناطق بألوان طائفية صافية، حيث يسكن مناطق جرمانا غير المنظمة دروز ومسيحيون، ويسكن مخيمها نازحون فلسطينيون، بينما يتركز المسيحيون في عشوائية الدويلعة، ويقطن الأكراد في عشوائية حي الرز أو ما يعرف بـ«زورافار» على تخوم مشروع دمر من جهة والقصر الجمهوري من جهة ثانية، ويقطن العلويون في مزة 86، وعش الورور، ومساكن الحرس بالقرب من قُدسيا، في حين تتركز الغالبية السنية في منطقة مخالفات طرفي جوبر، وبرزة البلد شمال شرق دمشق وبساتين خلف الرازي وامتداد مزة 86 وصولا إلى كفرسوسة الليوان، والدحاديل وبيادر نادر ونهر عيشة والقدم والعسالي جنوب دمشق، بينما تختلط مناطق الحجر الأسود بنازحي الجولان المحتل في حي تشرين، والنازحين الفلسطينيين الذين تزداد نسبتهم وصولاً إلى مخيم اليرموك المجاور. ووسط تركز الهجرة إلى دمشق ومحيطها بشكل عام ومنطبق على جميع مكونات سوريا، حدث استجرار سكاني من محافظات أو مناطق علوية، لخلق نوع من التركيز ضمن العاصمة أو محيطها الأقرب لخزانات بشرية بعيدة نسبياً، ولكنها لا تكف عن إرسال أجيالها الجديدة إلى دمشق. ورغم تقارب المنشأ الطبقي والحالة الاقتصادية ـ الاجتماعية لسكان العشوائيات، ظل التخالف الديني – المذهبي العنصر الأبرز في تعريف هوياتها.

شجع النظام السوري على تشكيل بؤر سكانية عشوائية تحيط بالقطع والوحدات العسكرية القريبة من دمشق، يكون تكوينها الأساسي من عائلات الضباط والعساكر الذين يؤدون مهماتهم فيها. وقد حرصت السلطة على المحافظة على الظروف المعاشية السيئة لمناطقهم الاصلية، وتهميشها وتجهيلها قدر الإمكان، لأغراض قد تتعلق بإبقائها كتلاً بشرية صماء غير قابلة للانفتاح على الآخر، ما يضمن استمرار السيطرة عليها، ويحفظ ولاءها عبر استدامة الخوف فيها من الآخر المتوهَّم. تنامت هذه العشوائيات بسرعة ملحوظة خلال العقود القليلة الماضية من حكم البعث. وظلت نسبياً مساكن الحرس ومزة 86 وعش الورور وغيرها مناطق مغلقة للعلويين، أصبحت لاحقاً المورد البشري الأهم للمقاتلين من «الشبيحة»، الذين نجحت السلطة في تجنيدهم معها، ضمن سياق الحرب التي تخوضها اليوم.

كما أن تدهور الحالة المعيشية للغالبية الساحقة من الشعب السوري، جعلت من بعض العشوائيات القريبة من دمشق ملجأ يمكن عبر تتبع تاريخه، تسجيل الانهيار المتتالي لشرائح اجتماعية متزايدة، وخروجها تباعاً من قلب المدن الكبرى. فقد خسرت دمشق نصف أبنائها تقريبا لمصلحة ريفها من جهة، ولمصلحة عشوائياتها من جهة ثانية. بدأ النزف الأكثر حدة منذ منتصف التسعينيات وظل يتفاقم حتى ما قبل اندلاع الثورة السورية، وذلك بعد انهيار شرائح واسعة من الطبقات الوسطى، وانتقالها إلى حدود خط الفقر بسبب تبنى سياسات الانفتاح الاقتصادي، عبر تحرير التجارة، وفتح الباب أمام شركتين قابضتين عملاقتين قامتا بتوظيف الاستثمارات الهائلة في حقول السياحة والمضاربة والعقارات، التي سجلت أسعارها في حمى التهاب السوق الداخلية أرقاماً خيالية بالمقارنة مع الموارد البسيطة لذوي الدخل المحدود، والعاملين بأجر لدى الدولة، وموظفي القطاع الخاص العاملين في القطاعات الإنتاجية التي تدهورت تباعاً، ثم أقفلت بدورها مع انعدام أي شروط مفروضة على الاستيراد المتفلت من جميع الضوابط الحمائية.

إن نظرية «تحرير التجارة بوصفها قاطرة النمو» (قيل: على النمط المكسيكي)، والمصوغة لتناسب مصالح شريحة رجال الأعمال الجدد حصرياً، أسفرت في سياق رؤيتها الليبرالية المبسطة عن إغراق السوق المحلية ببضاعة أجنبية المنشأ (تركية وصينية)، منافسة في السعر والجودة، تسببت في إفلاس وإغلاق الكثير من الورشات الصناعية الصغيرة، كتلك العاملة مثلاً في مجالات الموبيليا والمفروشات في سقبا وعربين من ريف دمشق. كذلك تعرضت ورشات الحدادة والنجارة اليدوية وصناعة الألمنيوم والصناعات الغذائية البسيطة القائمة على الشركات العائلية إلى منافسة شديدة عجلت في اندثارها. في حين أن القطاع العام كان الخاسر الأكبر في هذا المجال، وتركت الكثير من شركاته الإنتاجية غير الرابحة تتعرض للموت السريري، من دون أي محاولة لإعادة هيكلتها. كل ذلك جعل من العشوائيات ملاذاً للهاربين من المدن. وكان أن تضخمت مستوطنات بشرية عملاقة على حدود دمشق الجنوبية والغربية، ضمت إليها أيضاً، اعتبارا من منتصف العقد الماضي، الهاربين من جفاف المنطقة الشرقية الذي تسبب في تدهور إنتاجية القطاع الزراعي، وانخفاض نسبة اليد العاملة فيه. وتشكل عشوائيات كفرسوسة والمزة وبيادر نادر والدحاديل والقدم وحي الزهور ونهر عيشة والحجر الأسود وبساتين داريا وخلف الرازي، الكتلة البشرية الأضخم لحزام البؤس الدمشقي، الذي مثّل أحد أهم خزانات العاصمة للرفض الشعبي ضد النظام.

تنظيم/تدمير العشوائيات

حين عجزت السلطة عن قمع الحراك، لجأت إلى تدمير المدن والقرى المتمردة على رؤوس ساكنيها. وحدث ذلك في جميع البقاع السورية. وبالنسبة لدمشق، فقد تركز التدمير الكامل حتى الآن على عشوائياتها. وكما ذكرنا، فهذه يسكنها دمشقيون اصيلون دفع بهم الفقر الى خارج أسوار مدينتهم، ومدينيون آخرون انهارت أعمالهم نتيجة المنافسة بعد تحرير التجارة، وريفيون تقطعت بهم سبل العيش من الزراعة. وهم بالطبع ناقمون بشدة على السلطة القائمة.

لكن ثمة أمرا آخر، إذ تتلازم مع عمليات التدمير العسكرية الجارية لتلك المناطق مخططات للاستيلاء على المساحات الهائلة من الأرض التي قامت عليها، وذلك عبر المبادرة الى عمليات «تنظيم» مستغربة في الظروف الحالية. وكمثال، فبتاريخ 20-9-2012، صدر المرسوم التشريعي الرقم 66 القاضي بإحداث منطقتين تنظيميتين في نطاق محافظة دمشق، ضمن المصور العام للمدينة، وتشمل المنطقة الأولى: عشوائيات وسكن مخالفات جنوب شرق المزة، بساتين الرازي، كفرسوسة، بمساحة تصل إلى 2330 دونما، والمنطقة الثانية تمثل جنوبي المتحلق الجنوبي من المناطق العقارية مزة كفرسوسة اللوان، وجزءا من بساتين داريا، الدحاديل، نهر عيشة، القدم، والعسالي، بمساحة تصل إلى 9000 دونم. والغرض من التنظيم بحسب المرسوم هو قيام «محافظة دمشق بالاشتراك مع المؤسسات والشركات المختصة بايصال وتنفيذ المرافق العامة والبنى التحتية من طرقات وأرصفة وحدائق وملاعب وساحات ومياه ومجار وكهرباء واتصالات، وغيرها من الخدمات، إلى المقاسم الملحوظة وتنفيذها بشكل متكامل بأحدث المواصفات.» ويقول في المادة الثالثة منه: «تؤلف الاملاك الداخلة ضمن المنطقة التنظيمية ملكا شائعا مشتركا بين اصحاب الحقوق فيها، بحصص تعادل القيمة المقدرة لملكية كل منهم أو الحق العيني الذي يملكه».

تنظيم العشوائيات مطلب إنساني ضروري لسكانها في كل مكان. ويُعتبر المرسوم 66 محقاً من الناحية القانونية، ويضمن نظرياً حقوق الناس، بخلاف مراسيم أخرى لامست الموضوع نفسه بتخبط لافت، حيث ان القانون الرقم 1 لعام 2003 مثلاً تشدد في قمع المخالفات، وكان له أثر رجعي على المخالفات السابقة على تاريخه، وقام بهدم البيوت من دون توفير بدائل لها. ثم تراجع المرسوم 59 للعام 2008 عن الأثر الرجعي للقانون رقم 1، وقال بجواز معالجة أوضاع السكن العشوائي القائمة قبل القانون المذكور داخل أو خارج المخططات التنظيمية. لكنه بقي من دون تطبيق أو أثر. كما صدر المرسوم التشريعي الرقم 40 عام 2012 ، بعد مرور عام بالتمام على الثورةالسورية، وكان يحمل طابعاً متشدداً يقوم على إزالة المخالفات وتغريم وحبس اصحابها ومن يتواطأ معهم ادارياً. وهو بدا وقتها كأنه يقصد تهديد سكان تلك المناطق بالعقاب بسبب موقفهم منه، بعدما سُجِل إنشاء أكثر من 500 ألف مسكن مخالف خلال السنة إياها وحدها، وذلك بحسب الإحصاءات الرسمية، بنيت بفضل سياسة انتهجتها السلطة تقوم على غض نظرها عن المخالفات والتعديات على الأملاك العامة.

أما المرسوم 66، فسرعان ما تظهر «طبيعة» حفظ حقوق السكان فيه: انه يطالبهم بـ«تقديم ادعاء بملكيتهم» ضمن فترة لا تتجاوز الشهرين من صدوره! هذا في مناطق طالها دمار كبير، بفعل استخدام المدفعية وراجمات الصواريخ والطيران الحربي، وهُجرَمعظم سكانها بعد مجازر جماعية، ولُوحِق ناشطوها بالإعدامات الميدانية والاعتقالات والإخفاء القسري. والكثير ممن بقي حياً لم يعد يملك أي أوراق ثبوتية عن سكنه من أي نوع، ولا يجرؤ على أية حال على مراجعة الدوائر الحكومية خشية الاعتقال، فكيف بتقديم ادعاء ملكية!

فهل تصح الانباء المصاحبة لصدور المرسوم 66 في هذا الوقت الغريب (وبينما تُدك هذه المناطق بكثافة، وقد دمرت واحيلت غير صالحة للسكن أصلاً) التي تقول ان شركات كبرى دخلت على خط استملاكها بهدف إقامة مشاريع سياحية كبرى فيها، وللمضاربة العقارية ذات الربحية العالية… هذا لو استتب الامر للسلطة. وهو بغض النظر عن كل شيء، انتهاك لتعب عمر سكان تلك المناطق. ما لا يلغيه بناؤها بلا تراخيص، لا سيما أنه تمَّ على مدى سنوات طويلة وبتغاض من السلطة نفسها، المتخففة هكذا من عبء ايجاد حلول للمفقرين المتزايدين عدداً من المدينة والريف. فالعشوائيات تجسد العمل البشري في شكل مُنتَج عياني هو المسكن، يحمل في أبعاده الأخرى ثقافة المكان، وتاريخ ساكنيه، ونوازعه الاجتماعية والطبقية، ودرجات رقيه وتخلفه، كما يحمل ذكريات قاطنيه وصانعيه…

* باحث في سوسيولوجيا السكن من سوريا

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى