صفحات الثقافة

دمشق… العفة والقبور والفياغرا والملابس الداخلية/ محمد حجيري

 

 

مرة أخرى، لا بدّ من الهروب كتابياً من الاحداث المتسارعة والجارية في محيطنا، سواء الهذيان في التعليق والتأييد أو الرفض للانقلاب في تركيا أو بحر الدم في سوريا أو النزيف الفرنسي في نيس، أو اللهيب العراقي في بغداد. لا بأس بالهروب نحو التسلية والترفيه، نحو شيء يخفف من وطأة عالم لا يعرف السلم إلا في أوقات نادرة، على اعتبار ان الحرب هي القاعدة والسلام استراحة بين حربين، ويزيد معنى الهروب أننا نكتب عن دمشق.

والحال انه خلال مدة قصيرة، قرأتُ ثلاث دراسات عن دمشق، دراسات لا تتعلق بشعارات “قلب العروبة النابض” ولا “عرين الأمة” ولا “سوريا الأسد” ولا “باب الحارة”، بل جوهرها الجنس والجسد والعفة اذ جاز التعبير. الموضوع الأول عنوانه “الحياة السرية للملابس الداخلية السورية: الحميمية والتصميم” لمالو هالسا ورانا سلام، والذي قرأت العديد من التعليقات عليه. الثاني فصل بعنوان “عاصمة العفة” لكريستا سالاماندرا(*)، والثالث “الجنس والمقبرة: الحجاج الإيرانيون، زيارة العتبات المقدسة، والتعبّد الشيعي في دمشق” لإديث زانتو(**)… كل من هذه المواضيع له دلالاته الفانتازمية، وسحره وجاذبيته وعالمه. هي مواضيع بتوقيعات كاتبات من أصول عربية (مالو هالسا ورنا سلام) او كاتبات أجنبيات زائرات في الشرق الأوسط (كريستا وأديث)… لا أدري إن كان عربي يفكر بتدوين كتاب عن الملابس الداخلية في مدينة ما، أو يقرأ واقع الزيارات المقدسة في دمشق ويربطها بالسياسة والجنس… الأجانب أو القاطنون في بلدان غربية، ربما يكونون أكثر قدرة على اختراق المألوف من دون الوقوع في الابتذال والهتك، وربما تكون لديهم نظرة مسبقة ومتخيلة عن دمشق وغيرها من المدن المشرقية، يريدون تطبيقها من خلال مدوناتهم ودراساتهم ومقالاتهم.

فقبل سنوات تجولت مالو هلسا ورنا سلام في أسواق دمشق وحلب، ثم استولت عليهما الدهشة للتناقض الواضح بين جرأة وإثارة الملابس الداخلية المعروضة في واجهات المحلات، وبين المجتمع السوري المحافظ حيث نساء كثيرات محجبات. وسرعان ما قررت هلسا وسلام تدوين كتاباً مشتركاً حول هذا الموضوع غير المألوف، وهو واحد من أكثر الكتب المنشورة عن العالم العربي إثارة للدهشة، قرأنا عنه لكنه لم يترجم حتى الآن. إنه الكتاب الأول الذي يبحث في الثقافة العربية من منظور الملابس الداخلية الأنثوية، التي تُعدّ من “المحرمات” ولا يتم التكلم عنها إلا همساً، في حين تستطيع النساء الدمشقيات، بكل سهولة، اختيار الملابس الداخلية الجريئة والاكزوتيكية من سوق الحميدية في دمشق. وتبين الصور الملونة، ذات الطباعة المكلفة في الكتاب، ملابس عديدة مزينة بعناصر مختلفة من بينها طيور وفراشات وريش، وأيضاً عقارب وزهور وفراء… لم يكن الكتاب مجرد “استعراض” و”انبهار”، انه تبيان لثقافة اجتماعية في المدن السورية، وإشارات لصناعة الغواية بين أربعة جدارن، والجمع بين المحافظة والحداثة قبل أن تأتي ثقافة البراميل الأسدية وسواد أبو بكر البغدادي.

مقال “عاصمة العفة” ليس ببعيد عن كتاب هلسا وسلام، والذي نقرأ فيه المجتمع الدمشقي من خلال الملابس الداخلية، بينما نقرأ المجتمع نفسه من خلال الأزياء والموضة والوجاهة في مقالة كريستا سالاماندرا التي ترينا أهمية المظهر الخارجي بالنسبة للدمشقيين، نساء ورجالاً. فجمال المرأة وملابسها وحليّها وزينتها تمثل غنى أسرتها ومكانتها، ولا يقل أهمية عن مظهرها الخارجي تظاهرُها بالعفة. يقتحم مقال كريستا ارضاً جديدة، اذ تدنو من مجال عملها الاثنوغرافي النافذ، مستفيدة من تحليل بيار بورديو للتمييز، والتذوق، وهي الصورة لتستكشف كيف تتلاعب نساء الطبقة الوسطى السورية بمظهر النقاء والعفة الجنسية كشكلين من أشكال رأس المال الاجتماعي. إن سالاماندرا تعي وعياً تاماً أن توق المرأة السورية الى العناية بالمظهر الخارجي الجذاب، والجاذبية الجنسية، ليس بالأمر النادر بالنسبة الى نساء الطبقة المتوسطة الدمشقية اللواتي تدرسهن. لكن التعامل مع الظاهرة بوصفها رأس مال العفة، يجعل بعض مظاهرة السورية غير العادية أشد وضوحاً. وتبرهن سالاماندرا: “لقد وجدت المرأة صعوبة في المحافظة على زي وسط بين ما يخفي الحجاب وبهرجة المرأة اللعوب”.

يقول سمير خلف في التقديم إن هوس صيانة “رأس مال عفة” المرأة وتعزيزه، يفسر التنافس الذي غالبا ما يتخذ شكل التزاحم العنيف، بين النساء، في سعيهن وراء هذا الملاذ النادر والعزيز. وعرض التنافس هذا مهلك الى درجة أنه لا يجري فقط في التجمعات العامة، بل ينفذ الى حرم الشبكات المشاعة والدوائر الحميمة.

والنساء ينهمكن كثيراً في كفاحهن التنافسي لاكتساب الزخارف الخارجية، رأس مال العفة المشتهاة، وهناك فكرة حول الجاذبية الجنسية، كيفية الحصول عليها وإيجاد مساحة لاستعراضها، تتفوق على المعايير الاجتماعية التقليدية الأخرى التي تستحق الاحترام. وكما قال أحدهم، إن طبقات النخبة في دمشق “تختلق المناسبات لتتباهى بثرائها”. ان مضاعفة أهمية الصورة بالنسبة الى النساء السوريات هي الجائزة التي توضع لمظهر العفة. وعلى الرغم من أن موضوع السيطرة على نوازع الأنثى الجنسية، كريه بالنسبة الى المتخصصين بالعلاقة بين الجنسين والذين يفضلون ان يشددوا على قوة المرأة الشرق أوسطية، إلا أنه يؤثر بعمق في المجتمع السوري بطرق متجددة. ويصبح مظهر النقاء من الناحية الجنسية، شكلاً من رأس مال الفتاة الشابة، وغيابه يمكن أن يكون مدمراً لآمالها في المستقبل. والدمشقيون يقدرون الجمال الأنثوي ويربطونه بالمدينة، ويقال ان المرأة الجميلة شربت من ماء دمشق. وفي حين ان الجمال مصدر قوة النساء، فإن الثروة هي التي تجعل العريس مرغوباً، والرغبة في عروس المستقبل لا يحددها العريس وحده، فاختيار الشريك مسألة عائلية مركزها الاخوة والأخوات…

أما موضوع الجنس والمقبرة يبدو أكثر غرابة للبعض. فهو ليس عن الأجواء الحميمة والعفة والبهرجة، بل عن المقدسات والقبور، مرفقة بنوازع جنسية خلال الزيارات المقدسة إلى المزارات الدينية في دمشق. فالباحثة بعدما سردت المسار الايديولوجي لتاريخ المزارات الدينية الشيعية وتطور الزيارات اليها، خصوصاً مع تولى آل الأسد الحكم في سوريا 1970، وثورة الخميني في ايران 1979، إلا أن الجانب الذي ربما لا ينتبه اليه كثيرون هو كثافة انتشار المنشطات الجنسية، سواء النباتية أو الطبية أو الشعبية في أماكن نزول الحجاج. وتترافق هذه الظاهرة مع ظاهرة زواج المتعة أو الزواج المؤقت. تقول الكاتبة: “لا شك أن قلة من الحجاج تنخرط في ممارسة الزواج المؤقت، كما لا تهتم غالبيتهم بشراء الفياغرا. ليس هدفي في هذا التحليل تصوير الممارسات المذكورة على أنها جزء جوهري في المعتقد الشيعي، بل إنها بالأحرى محاولة للإجابة على انتقاد الأنثروبولوجي مايكل تاوسيغ للباحثين الجدد في مضمار التدين الشعبي لأنهم يبرّئون الحجّ من مظاهره العدائية. نخلص من هذا التحليل للتدين الشيعي في سورية أن الحج هو فسحة زمانية ومكانية للأتباع لقلب القوانين ذات الصلة بالمعايير الجندرية والسلوك الجنسي على وجه الخصوص”.

بين الدراسات الثلاث، ربما نخلص الى ان المتخيل الجنسي هو هاجس الباحثين والشعوب المجتمعات والرحالة، سواء في اللغة أو الثياب أو الجسد، وفيه رائحة الشرق والاستشراق معاً. كأن شبح عالم “ألف ليلة وليلة” يخيم في كل مكان، وحتى في خضم الحرب السورية الآن، هناك من يأتي من الغرب ليقدم دراسات وفي ذهنه المتخيل الجنسي الذي لا ينضب. قد يتهم البعض، الدراسات هذه، بالاستشراق. لكنها، في المضمر، تسجيل للواقع قبل كل شيء…

(*) الجنس في العالم العربي، دار الساقي 2015، ترجمة أسامة منزلجي تحرير كل من د. سمير خلف أستاذ علم الاجتماع في الجامعة الأميركية ببيروت، والبروفيسور جون غانيون.

(**) نشرت مترجمة في موقع معهد العالم للدراسات، ترجمة باسل عبدالله وطفة.

المدن

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى