صفحات الناسنائل حريري

دمشق بسمنة وحلب بزيت/ نائل حريري

نائل حريري

 في الوقت الذي تشهد فيه سوريا إحدى أكبر الأزمات الإقتصادية في تاريخها، لم تنكر التقارير الاقتصادية التي أصدرتها جهات عدّة، بما فيها المكتب المركزي للإحصاء التابع للدولة،  وجود تفاوت كبير في نسبة التضخم كانت أعلاها في حلب وأدناها في دمشق. الأمر الذي يعكس وجود عوامل هامة كثيرة تؤدي إلى تكريس توزيع غير عادل للموارد، وأهمّها موارد الطاقة الكهربائية التي كانت السبب الأساسي في الافتراق المعيشي بين المحافظات السورية.

برغم التفاوت بين المحافظات السورية يمكن تلخيص المسألة في مجموعتين من المحافظات السورية: مجموعة تضم حلب وإدلب وحمص وحماه، ومجموعة أخرى تضم محافظات كدمشق والسويداء واللاذقية وطرطوس. المجموعة الأولى تقف في أعلى قائمة معدلات التضخم النسبية “حلب أولاً 375%”، فيما المجموعة الثانية تتمتع بأقل نسبة تضخم “دمشق بالمركز الأخير 250%”. وليس من الصدفة أن تكون المجموعة الأولى من المحافظات رازحةً تحت وقع أزمة الطاقة الكهربائية بشكلٍ مرعب، فيما لا تكاد المجموعة الثانية تعاني من مشكلة طاقة كهربائية أساساً.

ويكشف التباين بين التغذية الكهربائية في محافظة دمشق (انقطاع التيار بمعدل ساعتين يومياً) وبين محافظة حلب (انقطاع التيار بمعدل 15 ساعة يومياً) عن بعض تفاصيل الأزمة الإقتصادية، خصوصاً بعد تخلّي الدولة عن دعم المحروقات في تلك المحافظات المنسية تماماً. في دمشق وبعد رفع الدعم جزئياً عن المحروقات وصل سعر ليتر البنزين إلى 85 ليرة، في الوقت الذي يتأرجح فيه سعره في حلب بين 400 – 800 ليرة حسب التوافر في السوق السوداء، في الوقت الذي تعتمد فيه هذه المحافظات على التوليد الكهربائي بشكلٍ مفرط.

مع هذا الواقع المؤسف، ظهر وزير الكهرباء السوري عماد خميس مؤخراً ليذكّر بالضغط الكبير الذي تعانيه الدولة من جرّاء تأمين الطاقة الكهربائية، مؤكداً أن مؤشرات الاستهلاك السنوي من الطاقة لعامي 2010 و2011 بلغت نحو 50 مليار كيلو واط/ ساعة، وهو ما يحتاج إلى 10 ملايين طن مكافئ نفطي بتكلفة تقدر بنحو 300 مليار سورية، أما في فترة الثورة فصرّح أن كمية الطاقة نفسها تكلف الدولة حالياً نحو 1380 مليار ليرة، الأمر الذي يتطلب تكثيف الجهود لمواجهة هذا الطلب المتزايد على الطاقة وترشيده إلى أقصى الحدود.

ووفق ما نقلته عنه وكالة الأنباء السورية الرسمية (“سانا”) “يتكبد قطاع الكهرباء يومياً خسائر مالية، تقدر بملايين الليرات نتيجة الأعمال التخريبية في مناطق مختلفة، ما يشكل عبئاً مالياً إضافياً على خزينة الدولة في ظل انعدام عملية الجباية في عدد من المناطق”.  لكنّه مجدداً يحيل المسألة إلى “التحديات الكبيرة التي يواجهها قطاع الكهرباء”، ويبشر “بتمويل عدد من مشاريع الكهرباء من الاحتياطي النقدي بعد توقف البنوك الدولية عن تمويلها نتيجة العقوبات المفروضة على سوريا”، وأن تكلفة إنتاج 1 كيلو واط/ ساعة تبلغ نحو 25 ليرة سورية وتباع للمواطنين بسعر وسطي يقدر بنحو 0.8 ليرة سورية.

لكن ما يناقض هذا الكلام هو ما ذكرته مصادر مختلفة من النشطاء المعارضين في محافظات سورية عدة. فقد أكد أحد النشطاء في مدينة الرقة أن اليوم الأول الذي أعلن فيه تحرير المدينة شهد انقلاباً حقيقياً في التغذية الكهربائية، من انقطاع يتجاوز 18 ساعة إلى انقطاع يقارب 6 ساعات يومية وسطياً، وذلك بمجرد خروج المدينة من سيطرة النظام السوري. أما في حلب فقد قامت كتائب معارضة مسلحة منذ أشهر بمحاصرة محطة التوليد الحرارية من الجهات كافة مع بقاء الجيش السوري مشرفاً عليها ومحاصراً في داخلها، وقامت بعقد اتفاق معه لتحييد المحطة الحرارية عن الصراع والإبقاء على التغذية الكهربائية. ويقول الناشط الإعلامي الحلبي رأفت الرفاعي لـ”المدن” أنّ التغذية الكهربائية للمدينة والريف تحسنت بشكلٍ ملحوظٍ جداً بعد هذا الاتفاق، ما يدلّ على أنّ التلاعب بالطاقة الكهربائية ليس إلا مسألة سياسية يستخدمها النظام كوسيلة ضغط على هذه المناطق.

وفيما يصرّح وزير الكهرباء أنّ نسبة التغذية الكهربائية في سورية وصلت إلى نحو 99.7%، ويختصر المسألة بـ”التوعية بوسائل ترشيد استهلاك الطاقة”،  يبدو أنّ المسألة ليست إلا تراكماً لسياسات اقتصادية مجحفة تتطلبها الضرورات الأمنية. وإذا كانت الدولة تعتبر كل هذه المحافظات “المنكوبة كهربائياً” ليست سوى 0.3% من سوريا ككل، فلا عجب أن ترافق الخطاب السياسي السلطوي محاولات التهرب من المسؤولية ودفن الرأس في الرمال.

 من سخرية الأقدار أن النسبة المذكورة للتغذية الكهربائية 99.7% هي النسبة عينها للأصوات التي نالها الرئيس بشار الأسد في استفتاء تجديد البيعة الأخير العام 2007 تحت شعار حملته الانتخابية: منحبّك. بمعنى ما، يبدو أنّ الـ 0.3% الباقية هي التي تعارض الأسد في رأيه، وتالياً تستحق هذا المصير. سياسة واضحة من حيث المبدأ، ولو أنّ النظام الحاكم يتهرّب من تحديث الإحصائيات المتعلقة بشعبيته منذ ذلك الوقت.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى