سوسن جميل حسنصفحات الناس

دمشق خارج النشرة الجوية/ سوسن جميل حسن

 

 

لم تعد بعض الفضائيات والمواقع الإلكترونية تمرّ على دمشق في نشرتها الجوية. والتقليد الدارج لدى محطات البث استعراض حالات الطقس لعواصم العالم، بل يبث بعضها صورا آنية عن المدن المعنية، تضع المشاهد بواسطتها في المكان والزمان، وربما تحرّض لديه حلم السفر، وهذه من وسائل الميديا والدعاية، فللمرافق المعنية بالطقس وأحوال المناخ والتغيرات المفاجئة والطارئة وسائلها وأدواتها التقنية والعلمية، ولن تنتظر على لقطة تلفزيونية، أو رقم يظهر على الشاشة، لتقوم بنشاطها وتؤدي أعمالها.

لكن، ما يهم؟ قفزت دمشق منذ خمس سنوات بنقلة واحدة، وإثر آخر قصفة رعد وومضة برق من شتاء قارس مظلم، إلى ربيع موعود. قفزت من هامش النشرات إلى متنها، فصارت سورية مجتمعة ومتفرقة الخبر الأبرز، وصار مناخها العاصف والمنذر الشغل الشاغل للعالم. صار العالم الذي يتابع خراب وطننا ومأساة شعبنا يعرف المدن والبلدات والقرى، حتى أصغرها، بل يعرف الأحياء في عديد منها. لم تعد سورية الأرض الموطوءة، والسماء المحتلة، والبحر المغتصب، قبلة للسياح، حتى لو أصدرت الحكومة عشرات القوانين الناظمة، ومئات التعليمات الشارحة، ومثلها من التسعيرات ومعايير الجودة التي ستقبع في الأدراج، أو تصير جسراً متحركاً لسيل الرشاوى، من أجل تحييد القانون وشلّه وانتهاكه. ماذا يهم السائح من رصد عشرين مليار ليرة سورية من الليرات المتهاوية بانحدار مريع في قيمتها، لإعادة تشغيل مائة مشروع سياحي متعثر؟ وكأن المتعثر في سورية هذه المشاريع فقط، وهي وحدها لها الأولوية في الإحياء، لما تشكل من مرفق حيوي وضروري للحظة الراهنة في وطن ينهار فيه كل شيء. وماذا تستطيع الضابطة العدلية، في وزارة السياحة والمديريات التابعة لها، فعله في جولاتها الرقابية التي تخوّلها تقييد المنشآت السياحية وضبط أدائها، من حيث تطبيق الشروط الصحية ومعايير الجودة وطرق حفظ المواد الغذائية والتقيد في التسعيرة الحكومية التي، كما صرّح وزير السياحة، وضعت بشكل يربط السعر بالجودة والجودة بالسعر؟

لا أعرف من هي الشريحة المستهدفة من قرارات وزارة السياحة، هل هم المواطنون؟ أقصد الشعب السوري؟ وهل بقي في سورية ما يسمى شعباً؟ ما بقي في سورية هو مجموعات بشرية تتجمع في الأمكنة، بحسب أجندات خاصة، أو تحت ضغط الضرورة وانعدام الخيارات. سورية مجزأة ومحتلة، بلى، محتلة، فكل من يبسط سلطته بالقوة ويفرض شريعته على الواقعين تحت سلطة القوة التي يمارسها ليدير حياتهم بموجبها، هو محتل، وافداً كان أم مقيماً. هناك أمكنة مشتعلة، لا مكان للسياحة الداخلية فيها، وأمكنة آمنة تديرها الحكومة الحالية، مكتظة بسوريين وافدين وهاربين من الحروب الطاحنة في بلداتهم، أقصى طموح لهم أن يؤمنوا خبزهم كفاف يومهم، وأن يضمنوا استيقاظهم في الصباح التالي.

يعرف السوري النشرة الجوية المحلية من دون شرح ولا إخبار، يعرف السوري، الواقع تحت

“هناك أمكنة مشتعلة، لا مكان للسياحة الداخلية فيها، وأمكنة آمنة تديرها الحكومة الحالية، مكتظة بسوريين وافدين وهاربين من الحروب الطاحنة” سطوة البرد وانعدام وسائل التدفئة، أن السعود الأربعة بدأت، وأن خمسينية الشتاء قاسية، والبرد الذي لا يرحم تعدى عتبة البيت، يعرفها السوري في الداخل وفي مخيمات اللجوء في الجوار، فهذه المعرفة مكون من الموروث الاجتماعي لبلاد الشام، بل لدى بعض من مكونات الشعب السوري الموزاييكي الجميل تقويمه الخاص، والمعتمد شعبياً أكثر من النشرات العلمية، إنه “مطبوخ الأرمن” الذي يحظى بسمعة طيبة وثقة كبيرة، وينتظره الناس كل عام، ليعرفوا مستقبل السنة المقبلة، وما ينتظر حياتهم بكل مكوناتها ومكونات بيئتها. ويعرف السوري حالة الطرق في كل فترة من الشتاء، على الرغم من أنه لم يعد بحاجة إلى تلك المعرفة، فحالة الطرق صار يلزمها دائرة أرصاد مختلفة، ليس المناخ اختصاصها، بل الجريمة وقطاع الطرق والقنص والسلب والنهب والسطو.

ما الذي تعنيه كل القوانين والمراسيم والقرارات والتعليمات والدعاية السياحية لفرد مسلوب الأمن والأمان والدفء واللقمة والمستقبل؟ وأين هو السائح الغريب الذي سيأتي إلى مدن الموت والقنص؟ أين هي الأوابد التي كانت تجذب المهتمين؟ وأين هي المنتجعات التي كانت بالأساس دون المستوى المطلوب؟ وأين هو الفضاء الذي يضمن للسائح الغريب حريته في أن يمارس حياته الشخصية، فيلبس كما اعتاد ويأكل كما يشتهي ويتنقل من دون تهديد لأمنه وسلامته؟

وأي مطارات ستستقبله، ومطارات البلاد كلها مشلولة أو مرصودة للطيران المقاتل؟ وهل تكفي السياحة الدينية، المزدهرة وحدها تحت رايات متباينة الألوان والشعارات والغايات، لتكون السياحة بألف خير، وهي التي تعتبر أحد الروافد المهمة للاقتصاد الوطني؟

وهل يحق لنا، نحن السوريين، أن نسأل لماذا تغيّبُ النشرات الجوية مدينتنا العريقة دمشق، أقدم مدينة ما زالت مأهولة في العالم، عن شاشاتها، وتمسح اسمها من نشراتها؟ أشعر، أنا السورية، بالغبن، وبأن وقاحة العالم تصفعني كلما مرّت نشرة أخبار جوية تتجاهل مدينتي، وتمحوها عن خارطتها، بينما عدّاد الموت يعمل على مدار الساعة يحصي عدد ضحايانا تحت البراميل والسواطير وقصف الطائرات والغرق في البحار والموت من البرد والجوع، وما زال الزعماء، مالكو القرار ومالكو مصيرنا، يلهوننا بمؤتمراتهم ومقترحاتهم وقراراتهم، حول مستقبلنا ومصيرنا، ونحن آخر من يؤخذ رأيه، ويشارك في اقتراح تصور عن حياته المستقبلية.

يحمل مسح دمشق عن خارطة المناخ معنى فادحاً، إنه يكرّس موقفاً لا أخلاقياً تجاه شعبنا، وعدم اكتراث بمحنته وانعدام التعاطف الصادق معه مهما صدر من تصريحات إعلامية تدعي نصرته. دمشق خارج النشرة الجوية؟ يا لوقاحة العالم.

العربي الجديد

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى