صفحات الثقافة

دمشق كما تبدو من القاهرة مدينة يزداد حنانها كلما ازدادت قسوة النظام/ سمير الزبن

 

 

عندما كنت أقيم فيها ويسألني أحد عن دمشق، كان السؤال يربكني ويوقعني بالحيرة، ويجعلني أشعر بالتناقض تجاه المدينة التي قضيت عمري فيها.

ما هي دمشق؟

لم أكن أجد الكلمات التي أشرح فيها المدينة، لأنني أصلاً لم أكن أجد الكلمات التي أشرح فيها نفسي. عليك أن تعرف من أنت، حتى تعرف أين تعيش. لم يكن وجودك في المكان يعني أنه مكانك. اعتقد ان معرفة الغرباء للأماكن التي يعيشون فيها عن قرب، مهمة مستحيلة. وأنت منغمس في المكان، تراه، تمشيه، تعيشه، تشربه، تمسكه… لكنك لا تستطيع شرحه. أنه هو كما يُعاش، الكلمات تبدده، وتجعله مكاناً غير الذي تعرفه. شعرت دائما، أننا لا نعرف الأماكن عن قرب، لا نعرفها عندما نعيش فيها. اعتقدت لبعض الوقت أن الابتعاد عن المكان الذي تعيش فيه، يمكن أن يعطيك نظرة موضوعية بعد أن تخرج من انغماسك فيه، هذا الانغماس الذي يشلّ قدرتك على شرحه وتعريفه. المكان نفسه، لكنه من بعيد، جغرافيا مكانية، جغرافيا بشرية، بعض العلاقات الانسانية، بكلمات بين الأدب والسياسة وعلم الاجتماع، والقليل من الفذلكة، تستطيع أن تعرّف المكان وتشرحه بأبهر كلمات. كانت هذه قناعتي، وأنا المقيم طوال حياتي في دمشق، لكن عندما غادرتها تبين أن هذا النوع من الأفكار النظرية لا علاقة له بالواقع، ابتعادنا عن المكان لا تجعل مهمة معرفته وشرحه والحديث عنه أكثر يسرا، بل تجعله في غاية العسر، حيث تصبح نظرتنا له (أو على الأقل نظرتي) أقل واقعية، نظرة ملتبسة وغائمة، تشعر بالمكان، يتلبسك، لكنك غير قادر على شرحه، وصفه، الحديث عنه.

عندما غادرت دمشق إلى القاهرة قبل أكثر من عامين، اعتقدت أنها إجازة قصيرة، مجرد فاصل زمني لا يتعدى الأشهر، ثم أعود إلى دمشق، المكان الذي قضيت فيه كل عمري. لم تراودني أي شكوك، بأن العودة ستصبح غير ممكنة، أو أنها ستطول لوقت لا أستطيع تقديره. كان من السخرية المرّة لتجربتي، أن ولدت أنتظر عودة، لم تتحقق، فبت أنتظر العودة إلى مكان أنتظر فيه عودة أخرى. نعم، عندما تولد غريباً في المكان، أول شيء عليك أن تعرفه في حياتك أنك لا تنتمي إلى المكان، أنت لست من هنا، كل شيء يقول لك ذلك، لا الولادة في المكان، ولا العيش الطويل فيه، يعطيك الحق بأن يصبح المكان مكانك، أنت الغريب دائماً، اختر المفردة التي تشاء، لاجئ، منفي، مشرّد، مقتلع… الخ. لكنك ستبقى الغريب دائماً، في بلاد تنكر سكانها، لن تحفل بك يا غريب، فأنت غير مرغوب بك. لم أفهم يوماً كيف صرت فلسطينياً وأنا المولود في مخيم اليرموك في دمشق، ولم أفهم، كيف يمكن لجاري الذي يفصلني عنه جدار فقط، أن يكون سورياً وأنا لا. ليس لكوني سورياً هي مدعاة للفخر أكثر من كوني فلسطينياً. اليوم وأمس، لا أعتقد أن أياً من الانتماءات الوطنية في العالم العربي يمكن أن تكون مدعاة للفخر، أو لها معنى. انتظرت ولادة أطفالي لأطل على تفاصيل، كيف يمكن للمنفي أن يتكوّن من السلب، من السلب المطلق؟ أنت لست من هنا، كيف ذلك وأنا أعيش هنا؟ تذبحك أسئلة الطفولة، وكل البلاغة الممكنة، عاجزة أن تشرح للطفل أنه لا ينتمي إلى المكان الذي ولد فيه، إنها أجوبة أكثر تعقيداً من الوعي البسيط، خصوصاً عندما يرد على كل شروحك البلهاء، بالقول: دعنا نذهب إلى مكاننا؟ هنا، تقع على عاتقك مهمة أعقد، كيف تشرح لطفل، الصراع في فلسطين، الذي سلب جده (وليس والده) أرضه ورماه خارج حدود وطنه الأصلي، ليصبح وطنه وطن آخرين، وليتناسل جده في المنافي لاجئين، أنت واحد منهم.

كل الأطفال يلومون أهاليهم على انجابهم، لكن أطفال اللاجئين يلومون أهاليهم بمرارة لا تنتهي، يقول الولد لأهله: خبرتم حياة الذل، لماذا أنجبتمونا؟ تجيب: لتستمر الحياة يا ولدي. كان يمكن أن تستمر من دوني يا أبي. يجيب اللاجئ أباه اللاجئ.

ولدت غريباً في مدينة حنونة، رغم قسوة النظام السياسي الذي حكم البلد قبل ولادتي بعام، كانت المدينة حنونة، وكلما كان النظام أكثر وحشية، كانت المدينة تصبح أكثر حناناً، هل يمكن للمدينة أن تتواطأ على الحنان؟ نعم، من عاش تجربة القمع المعمّم في مطلع الثمانينيات، كان يمكن أن يلمس حنان المدينة في مواجهة وحشية النظام. كنت تشاهده في العيون الحزينة والأيادي التي تربت على كتف كل شباب أو رجل يتعرض إلى اعتداء قطعان «سرايا الدفاع» التي اطلقها رفعت الاسد (شقيق الرئيس السابق ونائبه، وعم الرئيس الحالي) تستبيح المدينة وتُهينها. وكم كانت المدينة مقهورة عندما اقتلعت المظليات (الميليشيا النسائية لسرايا الدفاع) كل غطاء رأس كانت ترتديه نساء المدينة، سواء كان حجاباً أو منديلاً أو أي شيء آخر، ولم يفرقوا بين فتاة ومسنّة، كل ذلك، بحماية القطعان المسعورة لـ»سرايا الدفاع» سيئة الصيت والسمعة. كان مشهد النساء المسنّات حاسرات الرأس اللواتي يبكين من انتهاك سافر لم يجدن له تفسيراً قد أدمى المدينة. صحيح، أن قطعان الفاشية البعثية كسرت دمشق، لكنها لم تستطع اقتلاع حنانها.

في كل حياتي بدمشق لم أعتبر نفسي سورياً، كنت الغريب المندمج في المدينة حتى النخاع، عشت المدينة بكل تفاصيلها، ورفضت كل عروض السفر طوال الوقت. كنت ابن المدينة، ولو عرّفوني بالسلب، وأرادوا أن أكون غريباً في مدينة حنونة ومقهورة.

أنا اليوم، ابن دمشق الغريب داخلها، المنتمي اليها خارجها. أحب المدينة وأكرهها، وأنتمي إلى جمالها، ولا أحن إلى قبحها، هي تركت آثارها على روحي من دون أن أنتبه، أنا المنتمي الغريب، إلى مدينة فيها من التناقض ما يدفع إلى الجنون. هي هكذا، كل شيء ولا شيء.

وانا اليوم في الطريق إلى منفى جديد، أكتشف أن المدن هي التي تعرفنا، لا نحن من نعرفها، ودمشق تعرفني وأنا أعجز من أن أعرفها.

المستقبل

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى