صفحات العالم

دمشق والحرب الأهلية


فيصل جلول

في واحدة من مداخلاته المبكرة عن مصير الثورات العربية، ربط الباحث الديموغرافي الفرنسي إيمانويل تود نجاح الانتفاضات العربية بطبيعة المجتمعات في البلدان المنتفضة، فقال ما معناه إنّ الفرد هو سيّد الموقف في المجتمعين المصري والتونسي، الأمر الذي يفسر بنظره تمكن المتظاهرين من قلب الرئيسين بن علي ومبارك بطريقة ميسرة، دون أن يؤدي ذلك إلى انهيار مؤسسات الدولة والجيش. وعندما سئل عن سوريا واليمن، قال إنّ الأمر مختلف، فالانتماء الطائفي في سوريا، والانتماء القبلي في اليمن، يمكن أن يضعا الحركة الاحتجاجية في وجهة أخرى. ولو قيّض لتود أن يسترسل في حديثه التلفزيوني، لربما توقع اندلاع حرب أهلية في البلدين، فضلاً عن ليبيا والبحرين، حيث يلاحظ أنّ النظام البحريني احتمى بالطائفية وبقوات درع الجزيرة والأسطول الخامس الأميركي وعشرة مليارات دولار خليجية نقداً وعداً، لتفكيك الانتفاضة البحرينية وكبحها. في المقابل، تولى الحلف الأطلسي التصدي في ليبيا لأقسام من قبائل «المقارحة» والـ«ورفلة» و«قذاف الدم» الموالية للعقيد معمر القذافي.

ليس إيمانويل تود بعيداً عن مراكز القرار في فرنسا. فقد سبق للرئيس جاك شيراك أن استخدم خلاصة أفكاره الاجتماعية في آخر حملاته الانتخابية، ومن غير المستبعد أن تكون أبحاثه عن الولايات المتحدة الأميركية وراء الموقف الفرنسي من الحرب على العراق، علماً أن الباحث نفسه كان قد توقع انهيار المعسكر الشيوعي، مما يعني أنّ تصوّره لسيرورة الثورات العربية ليس غائباً عن مراكز القرار. ولعل آخرين غيره، وخاصة الدبلوماسيين والباحثين المختصين في الشؤون العربية عموماً، والسورية خصوصاً، قد توصلوا إلى النتيجة نفسها، ووصلت تصوراتهم إلى ساركوزي، الذي طالب باستقالة الأسد، ورفع سقف تحرك المعارضة السورية في فرنسا إلى أعلى المستويات. وقد حذا آخرون حذوه في أوروبا، مع علمهم المسبق أنّ الحركة الاحتجاجية السورية، وعلى الرغم من شجاعة بعض المعارضين وتضحياتهم، تتجه نحو الحرب الأهلية، أي نحو خراب سوريا، وربما محيطها القريب، وحتى مجمل الشرق الأوسط.

أكبر الظن أنّ الخراب السوري مفيد للدولة العبرية التي بدأت منذ 2008 التعبير عن مخاوفها من التغيير الذي طرأ على الاستراتيجية السورية: «نسترجع الجولان بالمفاوضات أو بغيرها»، بدلاً من شعار «السلام خيار استراتيجي» الذي اعتمدته دمشق منذ أوائل التسعينات. وقد عبرت وسائل الإعلام العبرية صراحة عن تلك المخاوف. «الجيش السوري يواصل التدرب على نمط حزب الله وينتج صواريخ 45 ـ 70 كلم، ويقيم بنى تحتية… جرافات تعمل في هضبة الجولان… بشار اقتنع بشن حرب على إسرائيل وهو يعد العدة… بشار أقام جمعيات خاصة بالجولان ورخص لصحيفة باسم الجولان وينظم حملة دعائية ضد احتلال الجولان وينقل مئات السكان بعمر التدريب العسكري إلى الهضبة ويجري مناورات فيها… الجنرال آصف شوكت يريد حرباً في الجولان… كابوس الضربة العسكرية السورية الخاطفة في الجولان… بشار يخطط لما قام به السادات…». تلك مقتطفات وعناوين من صحف عبرية في النصف الثاني من 2008 وحده، علماً أنّ تلك الحركة السورية المستجدة توجت في أواخر 2009 بالحملة الدولية لدعم الجولان، وذلك للمرة الأولى منذ احتلال الهضبة في 1967.

كذلك لا تخفي إسرائيل، بحسب دراسة أمنية منشورة، رهانها على حرب أهلية سوريّة تعطل فرص المجابهة العسكرية مع تل أبيب و«تقوي نفوذ إيران في سوريا». في المقابل فإنّ تغيير الحكم في سوريا «سيؤدي إلى إضعاف ذلك البلد ويقلل من احتمال الحرب، وإذا ما حل نظام ديموقراطي فإنّه سيخضع للضغوط الغربية وسيقبل التفاوض مع إسرائيل». أما إذا بقي الأسد في الحكم، فإنّه سيكون محتاجاً إلى بذل جهود كثيفة من أجل الاعتراف الدولي بسلطته، وسيخفف المساعدات الموجهة إلى حزب الله، ودائماً بحسب المصدر نفسه. يعني ذلك أنّ تل أبيب ستكون مستفيدة من كل السيناريوهات المرشحة للخروج من الأزمة، ما عدا سيناريو واحد هو أن يتمكن النظام من القضاء على الانتفاضة، دون كلفة باهظة، الأمر الذي بات مستحيلاً، بعد شهور من الاستنزاف.

وإذا كان من الصعب على إسرائيل أن تنظر بعين الرضى إلى سوريا المحمية باقتصاد محلي غير مدين، والمحمية دولياً من الصين وروسيا، والمحصنة إقليمياً بمحور الممانعة والمقاومة، وبعلاقات جيدة مع تركيا حتى الأمس القريب، فإنّ الدول الغربية، وخاصة الولايات المتحدة الأميركية، ما كانت هي الأخرى مطمئنة إلى الدور السوري المرتقب في المنطقة العربية، بعد هزيمتها في العراق، وبعدما صار ذلك البلد صلة وصل ميسرة بين إيران وسوريا وحزب الله وحماس. والمرجح أنّ تلك المخاوف من سوريا قد ازدادت بعد المفاجأة التونسية، وبخاصة المصرية، ذلك أنّ سقوط مبارك كان له انعكاس مدوّ في محور الممانعة الرباعي الذي تخيل أنّ أبواب الشرق الأوسط باتت مفتوحة أمامه، وأنّ احتمال إعادة النظر في موازين القوة في المنطقة صار ممكناً ومحمياً من بكين وموسكو. لم يكن مفاجئاً أن ينفجر «الربيع العربي» في سوريا أثناء الاحتفال بسقوط مبارك، وأن تشترك فيه كل الدول التي ترغب في تصفية الحساب مع القطب السوري. ويروي في ذلك الصدد عدد من المعارضين أنّهم استُدعوا حيث يقيمون، وقيل لهم إنّ سقف تحركهم مفتوح تماماً، لا بل لم تتورع دولة أطلسية عن وضع أحد أهم قصورها في العاصمة، تحت تصرف المعارضين. كذلك استعين بالقنوات الفضائية العربية لقتل النظام بوسائل راوحت بين الدعاية والكلام الأحادي والفبركات والديماغوجية والمبالغة في نشر الدماء والأشلاء على الشاشة، وأحياناً لساعات متواصلة. وذلك مع علم المشرفين على تلك القنوات أنّ الدم يستسقي الدم في المجتمعات التقليدية العربية، وأنّ الباحثين عن الثأر يمكن أن يلجأوا إلى كل شياطين الأرض لكي يشفوا غليلهم، وأنّ ذلك من شأنه أن يشيع الخراب في ذلك البلد، لا أن يغيّر النظام ويقيم الديموقراطية فيه، لكن ماذا عن النظام السوري، وكيف رد على الحملة التي تستهدفه؟

يروي أحد نجوم المعارضة السورية في الخارج أنّه التقى ذات يوم الرئيس بشار الأسد الذي جامله قائلاً: نحتاج إلى أشخاص مثلكم في سوريا! لا ندري ما حاجة الرئيس السوري إلى مواطن مهاجر في بلد غربي، ينشر جريدة أجنبية مترجمة إلى العربية، بيد أنّ التعجب يزول تماماً إذا ما علمنا أنّ الاستراتيجية السياسية السورية الممانعة والرافضة للهيمنة الغربية لا تضمر رهاناً على الأيديولوجية الإسلامية التي تقطع مع الحداثة الغربية، أو الأصح كانت تفعل ذلك قبل «الربيع» المزعوم، كما أنّها لا تضمر رهاناً على أيديولوجيا بعثية حيوية، بعدما صحح الرئيس الراحل حافظ الأسد أيديولوجية البعث، وطوى صفحة مؤسسه ميشال عفلق. والباقي بعد التصحيح هو أيديولوجية شبه بعثية وشبه قومية، لا أثر لها في الحياة اليومية للشعب السوري. وأخيراً لا تضمر الممانعة السورية رهاناً على الأيديولوجيات الماركسية والليبرالية.

والواضح أنّ تفكير الحزب الحاكم قاصر على عروبة فضفاضة لا تعينه على الصمود حتى في محاججة ناجحة مع حزبيين سوريين تقدمت بهم السن، وهزمت أيديولوجياتهم شر هزيمة، تارة في الحرب الباردة وأخرى في الصراع على السلطة في مصر، وثالثة في أزمة الأسواق العالمية الأخيرة، وما عادوا هم وأفكارهم يتمتعون بجاذبية تذكر. ولعل سجن هؤلاء دورياً ينقذهم من مأزقهم الأيديولوجي من جهة، ويفصح من جهة أخرى عن ضعف حجة السلطة وعن حذر لا مبرر له تجاههم.

هكذا تبدو الممانعة السياسية السورية مستندة إلى تصورات تجريبية دفاعية، وجهتها العامة عروبية قومية ترتبط مع الناس بعقد قوامه الطاعة والولاء المطلق، ويجري ضبطه عبر الإفراط في استخدام الأجهزة الأمنية وفي العقوبات الجسدية والانتقامية التي تنتمي إلى عصر مضى، وكنا نحن اللبنانيين قد اختبرنا تلك السياسة سنوات طويلة.

لقد شاهد العالم في 2005 انهيار الاستراتيجية السورية خلال أسابيع، واضطرار الجيش السوري إلى مغادرة لبنان مع وعود من رأس الدولة بمعالجة أخطاء التجربة اللبنانية، دون أن نعرف كيف ومتى عولجت تلك الأخطاء، أو أنّها عولجت فعلاً. والراجح أنّها لم تعالج والدليل ما نراه اليوم، إذ تتصدى الأجهزة السورية للتظاهرات الخاطفة بوسائل أمنية قاسية، لا تبررها وحشية «المسلحين» أو «الإرهابيين». ذلك أنّ الدولة تربح المجابهة مع القتلة عبر التفوق الأخلاقي، لا عبر التفوق العسكري البحت. ويعم الأمن تماماً عندما يقتنع الناس بوجوب الحفاظ على الأمن، لا عندما يخافون من الانتقام الجسدي.

إن أخطر ما تعانيه الاستراتيجية السورية الراهنة هو القناعة الضمنية بأنّها تحتاج إلى «بضاعة» معارضيها، أو بعض مثقفيها المنتشرين داخل وخارج الحدود، من الذين نجحوا في اعتماد مناهج غربية، وأنتجوا نصوصاً حداثية وفق مسطرة أجنبية صارمة، إلى حد أنّ أحدهم قال ذات يوم إنّ نجاح الحداثة العربية رهن بتهديم المجتمع العربي، وردد مريدوه أقواله بشغف وضجيج عم الصفحات الثقافية العربية. وقال آخر إنّ نجاح الحداثة يقتضي التخلص تماماً من الدين، ضارباً عرض الحائط بتجارب عديدة عربية وأجنبية ناجحة، من بينها تجربة طلعت حرب الرائدة في مصر، التي لا تزال مفاعيلها مؤثرة حتى الساعة.

لا يتمنى كاتب هذه السطور سقوط سوريا في الحرب الأهلية، فهو يشترك معها في أحلام الوحدة والتحرر من التبعية والتطلع إلى مواطن عربي مرفوع الرأس والانتصار للمقاومة… لكنّه يرى مع الأسف، بأم العين، كيف تدفع قوى عديدة في الداخل والخارج، وبوتيرة ثابتة نحو الحرب الأهلية، وكيف يواجهها النظام بوسائله التقليدية القاصرة على الأمن العاري ونظرية المؤامرة.

* كاتب لبناني مقيم في باريس

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى