صفحات الثقافةمحمد العطار

دمشق وحكايات جدي: ماذا نروي لأحفادنا عن اليوم؟


    محمد العطّار

ليس هذا مجالاً لاستذكار جدي الذي قضى منذ سنوات قليلة عن تسعين عاماً ونيف، فكلما شرعتُ في الكتابة عنه تذكرتُ أن هناك أموراً أكثر إلحاحاً اليوم، لكن ما العمل إن كانت حكايا الأجداد وذكرياتهم عن المدينة هي المدينة بالنسبة إلينا؟

“عاش جدي ليروي” لكن من دون مستمعين كُثر. عاش في دمشق، ومعها. شهد استقلالها الأول ثم هرم وشاب قبل أن يذبُل تماماً مع احتضار نهرها بردى. ابن ساروجة، وزّع حبه بالتساوي بين أحياء دمشق العتيقة وغوطتها ومصيفها الأثير الزبداني. وأنا ورثت عنه الحب نفسه، من دون أن تبقى الأماكن نفسها. كانت أكثر شحوباً وأقل خضرةً بازدياد، الاسمنت الرمادي البارد يأكلها بالتدريج، وأزقتها تكتظ بكل أشكال التلوث البصري.

في سوريا الثورة، وفي كوادر صور التظاهرات، تُدهش وأنت ترى أين يعيش السوريون وكيف، في بداية العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين. مخالفات وعشوائيات وطرق ترابية وأخرى مهترئة، ليس هذا في القرى والمدن النائية فحسب، ولكن في ضواحي كبريات المدن، وحتى في قلبها. هل هذا ما يستحقه السوريون فعلاً؟ أين تذهب مقدرات بلدهم؟ في الأسابيع الأولى من الثورة كنتُ أحسب أن هذه المشاهد ستبدد أي شك بضرورة الثورة. كان السؤال الوجيه: لماذا تأخرت؟ بدأتُ أفهم أكثر اغتراب جدي عن مدينته قبل رحيله. بدأت أفهم لماذا توقفت ذكرياته عن المدينة عند مطلع ثمانينات القرن المنصرم.

إذا كان جدي عاش ليشهد كيف تُسرَق روح المدينة، كما مواردها، فإني اليوم أفكر أن رحيله الهادئ وفّر عليه مشقة أن يرى كيف تُدَكّ دمشق وغوطتها ومصيفها الزبداني وكيف تدمَّر الأحياء وينزح أهلها. هل كان ليقوى على مشاهدة حقول الصبارة المزاوية المُعمرة تُزال بالجرافات؟ هل كان قلبه ليحتمل المشاهد القادمة من بساتين داريا ومزارع الزبداني؟ الآن فقط أفكر كيف يكون مصطلح “الموت رحمة” أحياناً بليغاً ومعبراً.

كيف كان لجدي أن يفهم تحليق المروحيات وهي تلقي بحمولتها هنا وهناك على أطراف المدينة، أو أن يحتمل منظر سحب الدخان المتصاعدة فوق أحياء القدم وبرزة؟ لا أزال أذكر كيف ظل حائراً حيال ما حلّ بسوق الخجا الشهير الذي طاولته أيادي التحديث الحكيمة والأمينة وليس القنابل (وإن كان الأثر الجمالي يتشابة أحياناً). لم يقبل البتة الذهاب إلى السوق الجديد، ثم اكتفى لاحقاً بربوة دمشق ومصايفها التي تسكن أرشيف صوره، لا تلك البقايا الشاحبة المتناثرة على ضفاف نهرٍ محتضر. انكفأ جدي وانكمش جسده رويداً رويداً في سنواته الأخيرة. كان دوماً يردد على مسامعي جملةً لم أدرك معانيها في حينه: “لا أنتمي الى هذا الزمن، لو أنني رحلتُ قبل هذه الأيام لكان ذلك أفضل لرجلٍ مثلي”. كنتُ أعتبر هذا الكلام محض استسلام للشيخوخة. اليوم وبقسوة تتفوق على الحنين، أشعر بالراحة لأن جدي رحل قبل أن يرى مدينته تُقصَف وتُقطع أوصالها على أيدي إخوة لنا في الوطن. أشعر بالراحة لأنه لن يرى دوما وقد سوِّيت أجزاء منها بالأرض. دوما التي حدّثني عن نخوة أهلها كثيراً، هي نفسها كانت أول ما ذكّرني به في مطلع الثورة، حين زرتُها معزياً بفوج شهدائها الأول. في خيمة العزاء المهيبة، استمعتُ الى كلمات السيدة منتهى الأطرش وهي تشدّ أزر أهل دوما وتروي لهم كيف حدّثها أبوها سلطان باشا الأطرش مراراً عن سند أهل الغوطة الشرقية له وشجاعتهم المذهلة أثناء الثورة السورية الكبرى، وجدتُ نفسي أذوب في الهتاف الهادر في العزاء: “الشعب السوري واحد”، التفتُّ حولي لأرى شاباً صلباً يذرف الدموع، أشحتُ بنظري بسرعة قبل أن تصيبني العدوى، حينها تذكرتُ جدي وتمنيتُ لو كان بجانبي ليرى كيف يعيد التاريخ إنتاج نفسه بصور بهية. كان عندي قصة مؤثرة يومها، ووددتُ أن ألعب دور الراوي معه ولو لمرة، وودتُ أن أخبره أن هذا الزمان لم يعد غريباً عليه كما كان. اليوم، وأنا أطالع أخبار دوما وصورها، يعاودني إحساس الرضا برحيله.

جدي الذي اختبر الاحتلال الفرنسي، وتشكّل وعيه الوطني في جريدة “القبس” التي أسسها نجيب الريس، فعمل معه وحفظ القصص منه وعنه، روى لي الكثير عن جرائم الفرنسيين، وعن قصفهم الهمجي لدمشق، وعن تعاضد السوريين وثورتهم الكبرى، وعن إضرابهم الذي شارك فيه اللصوص حين حموا المحلات التي كُسرت أقفالها لإجبار التجار على رفع الإضراب. حدّثني أيضاً عن رجالات الاستقلال. لطالما استعرض بفخر أرشيف صوره الأبيض والأسود، متباهياً بندرة اللقطات. لكنه لم يحدّثني قط عن شيء يشبه الشبّيحة، ولم يذكر سجوناً تشبه أقبية فروع الأمن، ولم يعرض عليَّ صوراً لدمار يشبه الدمار الذي نراه اليوم في طول سوريا وعرضها. لم يرَ الفرنسيين إلا كمحتلين، لكن حدود معرفته بوحشيتهم كانت واضحة وصريحة: فعلوا هذا ولم يفعلوا ذاك، الأمر كان واضحاً.

ماذا نروي لأحفادنا إذاً؟ وأيّ صور نعرض عليهم؟ لدينا الآن أرشيفٌ حافل بالدم، ألوف الصور بالألوان وبالصوت والصورة هذه المرة. أيّ حكايا نرويها عن ظلم ذوي القربى، وأيّ مُدنٍ نورثهم إياها؟ ماذا يترك لنا الطاغية لنروي؟ كيف يحوّل الطاغية أبناء البلد جلاّدين أشد قسوة من الغرباء؟ كيف يشوّه مدناً ضاربة الجذور في الوجدان، كما التاريخ؟

وحشية الطغاة تحملنا عبء ذاكرة الألم، حتى عندما يرحلون وتلعنهم حكايانا، تبقى ذكرياتنا مثقلة بالوجع وبقصص تثير الغصة كما الغصب. كم من الأسئلة الصعبة التي ستواجهنا – إن عشنا لنروي – عن حاضر دموي، وعجز وصمت وخوف طال أمدها؟

لا مخرج لنا إلا أن تُساهم سرديات “أجداد المستقبل” في خلق مدن جميلة للأحفاد القادمين، وأن تروي لهم قصصاً حول ماضٍ قاسٍ تجاوزنا تبعاته، وحول منزلقاتٍ خطرة دفعنا إليها المستبد ليفتت وحدتنا ويبقى هو، لكننا تجنّبناها. لا أمل لنا إلاّ بأن يصغي الأحفاد لهذا كلّه، كقصص ما قبل النوم، بابتسامة مطمئنة، لأنهم يعيشون في بلدٍ أحسنَ أجدادهم حمايته على رغم كل الصعاب. الحق، إلى جانب ذاكرة الوجع، وصور الهمجية، يملك أجداد المستقبل منذ الآن حكايا عظيمة لتُروى، يملكون قصصاً عن التضحية والبسالة وعن شجاعة نادرة لأناس خرجوا يطلبون الحرية في وجه الرصاص الحي، حكايا غيّاث مطر وحيّان المحمود وباسل شحادة، قصص عن سوريين متنوعين ومختلفين ناضلوا وعُذِّبوا وعشقوا وهم يمضون معاً في درب الحرية، قصص مدنٍ تداعت تحت القصف،  قصص عن كفرنبل وبنش وعامودا وقرى أخرى نائية أعدنا اكتشافها، وأعادت إلينا الثقة بسوريا.

 لأجل هذا كله، يجب أن نُتمَّ الفصل الأخير من الحكاية التي سنرويها مستقبلاً. لعله أصعب الفصول وأعقدها. لكن الحكاية كما المستقبل الذي ستُروى فيه، تستحق هذا كله. وأكثر.

مسرحي سوري

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى