صفحات سوريةعمر قدور

دمهم في رقبة مَن؟/ عمر قدور

 

 

ما لم يكن هناك قرار على مستوى عالٍ بالتصعيد إزاء السوريين في لبنان ستنقضي أيام معدودة من الاعتداءات عليهم، وسيُنظر إليها كرد فعل اعتيادي على قتل جبهة النصرة الدركي اللبناني علي البزال. وكما أن علي البزال بريء من الصراع السوري سيكون دمه مقابل دماء الأبرياء السوريين “ضحية الاعتداءات”. وعلى هذا النحو لا بأس في أن يُهدر دم بريء مقابل دم بريء آخر من الجهتين. السؤال السياسي عن المتسبب سيتوارى، وهو لم يعد في الصدارة مثلما كان من قبل، إذ لا فائدة من تكرار القول عن تدخل حزب الله في سوريا واستجراره الإرهاب إلى لبنان طالما أن ترديد هذه المقولة انضمّ إلى الفولكلور اللغوي الذي لا يُبنى عليه أدنى فعل سياسي من قبل أصحابه، بل طالما أن أصحابه قد غضّوا النظر فعلياً عن تدخل الحزب.

خلف الضجيج الإنشائي ثمة وقائع مُقرّة، لكن لا يُفصح عنها علناً. فسلاح حزب الله الذي يُفترض أنه موجّه فقط ضد إسرائيل كُرّست شرعية استخدامه في الداخل اللبناني منذ السابع من أيار عام 2008 ومن ثم التسوية الحكومية التي بُنيت على ذلك باتفاق الدوحة. في مرحلة لاحقة، منحت الأطراف اللبنانية غطاء لمشاركة حزب الله في الحرب السورية بموجب ائتلافها معه في الحكومة الحالية، وإن أبقت بعض الأطراف على تحفظاتها اللفظية. وفق هذا التدرّج في الإعتراف بسلاح الحزب صار الحزب يعلو فعلياً على الدولة اللبنانية، ولم يعد من باب التناقض أن يفاوض من ينعتهم بالتكفيريين بينما تعجز الحكومة عن ذلك. لذا ربما كان من الأنفع لأهالي المخطوفين لو توسّلوا مباشرة تدخل قيادات الحزب لتتولى ملف أبنائهم، بدل ترك الملف أسير التجاذبات السياسية.

أما على صعيد الانتقام من السوريين الموجودين في لبنان، فالحزب لا يملك حتى الآن توجهاً لطردهم، ولو وُجد هذا التوجه لاختلف الحال كثيراً. التحريض على السوريين، والتغاضي عن عمليات محدودة من الانتقام، هما نوع من تنفيس الاحتقان لدى أهالي المخطوفين، لكنه أبعد من ذلك هو نوع من التنفيس عن احتقان أهالي قتلى الحزب في سوريا. وبما أن قتل السوري أو التعدي عليه أمران لا يخدشان “السلم الأهلي اللبناني”، فهذا لا يقتضي تحركاً من أي طرف سياسي لبناني لمنعه. ثم إن هؤلاء الضحايا لا يستحقون من أي طرف الدخول ولو في سجال لبناني محلي لأجلهم. إنهم ليسوا خسارة لأحد على أية حال. ولا بد من الإشارة هنا إلى أن الحزب لا يملك توجهاً لطرد السوريين لأنه لا يستطيع إعادتهم إلى بلادهم، ولا يملك خيار طردهم إلى بلد آخر، لكنه يطمح من خلال التضييق عليهم إلى الإبقاء على “نوعية” مناسبة منهم، وأيضاً إلى إبقائهم تحت التهديد كنوع من الضبط السياسي لصالح حليفه النظام السوري.

البحث عن ثأر لعلي البزال، أو سواه من الضحايا، هو في حد ذاته تحلّل من منطق الدولة والقانون، وإقرار بغيابهما التام. هذا لا يقتصر على أهالي الضحايا، وإنما على مجمل البيئة السياسية والأخلاقية المحيطة بهم. لكنّه بالطبع يشمل أولاً التنظيمات الإرهابية التي أخذت الأبرياء رهينة لديها، ويشمل أية جهة أخرى تتعامل وفق منطق الرهائن، حكومية كانت أم تعمل لحسابها الخاص. وعندما يسود هذا المنطق لا يبقى أدنى صدقية للأطراف المنخرطة في الصراع، لأن كافة الادعاءات عن تحقيق العدالة أو عن القصاص لا تملك الشروط الموضوعية المناسبة. قد يُقتل قاتل البزال في معركة ما، لكن أمر مثوله أمام العدالة غير وارد، تماماً مثلما من غير الوارد أن يمثل منفّذو الاعتداءات على السوريين أمام القضاء. أي أننا أمام دم بريء مشاع، على رغم التفاضل الظاهر في التعامل أمام أوليائه. لا يغيّر من هذا الواقع قدرة “البزالية” على قطع الطرقات أو التلويح بشتى مظاهر الانتقام، طالما أنهم يضعون دم ابنه في رقاب مستضعفين آخرين.

أما تحميل الحكومة اللبنانية مجتمعة مسؤولية ملف المخطوفين فهو أمر فيه ما فيه من الاستخفاف بالمنطق، فالحكومة نفسها عاجزة عن منع مقتل مئات، وربما آلاف، الشباب اللبنانيين العائدين في التوابيت من سوريا. أي أنها لا تستطيع ممارسة ولايتها الدستورية على مواطنيها، ولا تستطيع ضمانة سلامتهم وحياتهم بممارسة واجبها إزاءهم. بل لا تستطيع أية جهة حكومية ممارسة تحقيق قضائي في مقتلهم. بل يحصل هؤلاء على شهادات وفاة اعتيادية بينما تملأ يافطات نعيهم كـ”شهداء” شوارع الجنوب والبقاع. وأن لا تكون الحكومة مسؤولة عن دماء مواطنيها من عناصر الحزب، وأن تنحصر مسؤوليتها بموظفيها من الدرك والجيش، فذلك وحده كفيل بنفي صفة الدولة عنها، ونفي صفة العدالة عن سلوكياتها. لذا لعل أفضل ما تفعله هو إعلان عجزها طالما بقيت الظروف الحالية.

وطالما بقيت الظروف الحالية ليس لأية إدانة سوى القيمة الأخلاقية الرمزية، وسيبقى مقتل علي البزال والاعتداءات اللاحقة على السوريين في لبنان يذكّران بطرفة يمنية مأساوية قديمة، مفادها أن نزاعاً نشب بين عشيرتين فقتلت إحداهما المدرس المصري للأخرى، العشيرة التي قُتل مدرسها المصري لم تقبل بأي صلح قبل أن تثأر لشرفها وتقتل أيضاً المدرس المصري للعشيرة العدوة!

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى