صفحات الناسعلي جازو

دموع أوّل تظاهرة كردية سورية: بهاء فردوسنا الضائع/ علي جازو

سبقني أبي، يبلغ من العمر ستين سنة، إلى الخروج في تظاهرات الجمعة. عاد شابّاً. كثر غيابه خارج البيت، وطالت ساعات دخوله في نقاشات ساخنة. أشرف على لجنة السلم الأهلي، وحوّل منزلنا صالة لاجتماعات يومية، في الوقت الذي كان اليأس العدميّ والكسل الشنيع قد حوّلاني أشبه بعجوز ضعيف. سبقني الرجل الخجول، وخرج في ليالي الشتاء ليوزع حصص المازوت الشحيحة، ويُحضر قوائم بأسماء العائلات الفقيرة، ويطلب من أمي تحضير لحف ومخدات وشراشف وثياب إلى أسر نازحة. بعد أشهر قليلة ستنقسم التظاهرات وتتخاصم بسبب منافسات وضيعة، وتتفتت الوحدة الشعبية. ستورثنا الأحزاب الكردية السورية أمراضها اللعينة وخلافاتها السقيمة، ولن يشفع لنا عقلٌ ولن تنقذنا من التيه حكمةٌ ولن ينفعنا رجاءٌ ولن تحمينا نقمة. أخوتنا في كردستان تركيا لن ينفعونا بشيء، وإذ تكثر هجرات النزوح إليهم، إلى “أرضنا” القومية عندهم، نكتشف غربتنا ويُتْمنا. نقول إننا جزء من الشعب، لكن القادة يسلكون طرقاً نجهل أسرارها، ثم لا نجد بيتاً يؤوي أحداً على كلمة واحدة، كلمة كان يمكن لعجوز خرفة أن تقولها لأي أحد، وكانت كافية كي نطمئن إلى أنفسنا التي هدّها الأمل وخدعتها الصور التي لم ندر كيف تتشكل، ولمن ترسل.

فجأةً، سيأتي دُعاة حماية الشعب مسلّحين، ويشغل فتيان، لم يحملوا السلاح يوماً، سواتر ترابية هشة تعلوها أعلام نضال أممي سرعان ما تتمزق. سيمرّغ المسلحون، أشباحُنا المظلمة عن البطولة الكارثية، شرفَ الشعب المسكين في الوحل. كم هي خاسرة البراءة، لكن كم هي مطلوبة وملحّة! عائلات تنقسم وأبناء يتركون المدارس إلى ساحات غضب متقدة، ومسدسات تلمع في الظلام، يتفاوض مراهقون على أسعارها. تنشأ سوق للتهريب، ويبيع أصحاب الأفران طحين الإغاثة والوقود الرخيص بأسعار خرافية. أرواح تتشوّه، نساء يصلّين كلّ ليلة، لكن صلواتهم تتمزق داخل حجرات معتمة، ثم يعود الليل كاوياً خاوياً ليلتئم كجرح على اسم ممحوّ وذاكرة محترقة.

لقد تغيّر أبي قبلي، ولم يتردد أو يقف من دون حراك، كما كنتُ أول الأمر. اجتمعوا قرب المسجد الكبير. قلة منهم تدخل المسجد للصلاة. لم تكن الصلاة سبباً لتجمّعهم هناك. كانوا جائعين إلى الصراخ، إلى الإحساس بوجودهم، وبجدوى ما يقومون به. كانوا يحلمون، ولن تكون الخيبة سبباً لنكرانهم قوةَ الحلم المرير وجمالَه الفتّان وخواتيمه المحزنة.

سبقني أبي وأدهشني، أنا الذي سال العرق من جسمي حينها، وخارت قواي، وغمرني الخجل والخزي إزاء صنيعه المشرِّف، الغريب والمفاجئ. ربما هو التردد الذي أخّرني، أو فقدان الثقة، أو هو اليأس، اليأس – المرض الذي تحوّل لدينا عادة حياة أليفة! كنت أكتب وأدوّن وأراقب كل ما يحدث؛ حدّ شعوري أن ما أراه يكفي، وأنني عبر الرؤية أحيا حياة ما يفعله سواي، وأشعر بما يشعر به، فلا أكون نفسي، أو أنني هكذا أكونها.

مكثتُ في البيت حائراً، فيما صرخاتٌ وأغانٍ تغطّي سماء البلدة. كنا في أواخر شهر آذار، وكان كل شيء على وهج أن يلحق بنفسه. تذكرتُ مقطعاً من رواية “الريش” لسليم بركات؛ كيف يخطو طفلٌ قصير الخطوات إثر والده المسرع في رحلة صيد صباحية، أسفل ظلال شتائية غائمة، لكنه في الآن يريد أن يصبح أباً من دون أن يدري. روحان تمتزجان في لحظة إشراق واحدة. العكس ما حدث معي. كان أبي يلحق بي ليعود طفلاً، ليعود شاباً على ما كانت رغبته التي لم تتحقق، ووجد الآن ما كان يحبّه ويريده. يبدو أنه كان ينتظر هذا اليوم منذ عقود طويلة. وإذ وجد لانتظاره معنى الآن، اكتشف أنه في المكان الذي أراد أن يكون فيه. كان يستعجل الخروج، كان يفكر في ألا يصيب أحد بأذى، ولا تنتهي التظاهرة باعتقال أو إطلاق نار.

في الحقيقة كان يفرح، وهذا هو ربما الأهم. كثيراً ما نظن أن النهاية التي نسعى إليها هي الوحيدة المهمة، أما الطرق التي نسكلها إليها فلا تكاد تعني شيئاً. أظن أن الطرق هي المهمة، وأن ما أراده أبي حينها هو السير مع الناس، وسط الشوارع، وأن ذلك كان يفرحه، فيعود إلى البيت، ثم يحدّثنا عما جرى. تحدث أمور غريبة غير متوقعة. كأن كثيرين غير أبي، وربما يشبهونه، كانوا في انتظار أن يحدث ما يجب أن يحدث، ما لم يعد من الممكن تأجيله.

لم نجرّب، لم يجرّب أيُّ واحد منا، الخروج في تظاهرة. عندما كنا فتية طلاباً كنا نخرج في 8 آذار عيد استيلاء جيش البعث على الحكم في سوريا. أتذكر لافتة كانت تحمل كل سنة، هي هي ذاتها تُبسَط وتُطوى ثم تعود تُبسَط وتُطوى: “الثامن من آذار فجرٌ وحدويّ أصيل”. كنا نجبر على الخروج في 16 تشرين الثاني من كل عام أيضاً؛ فالأسد الأب “godfather”، أطاح أصدقاءه البعثيين المناضلين وأودعهم السجون عام 1970، وكنا نحتفل بتلك الإطاحة وبشائر ذلك الحكم المخيف!

بلدتنا صغيرة، ومعظم سكانها فقراء، لكن صورتها مرفقة بصور من صنعاء والقاهرة على قنوات “الجزيرة” و”العربية” و”فرانس 24″ تصل إلى الملايين حول العالم. تبدو غنية وحيوية في الصور. يبدو الناس في حال من الجرأة النشوانة، أم هي لامبالاة قوية جارفة حطمت التردد الذي تمرّغتُ فيه، أنا وأبناء جيلي، ثلاثين سنة؟! أنا أخاف من الصور، وأفكر في قلوب هؤلاء الذين ربما تمنعهم الصور من أن يشبهوا أنفسهم. كان الشك دربي إلى حيرتي، ولم أنجُ من وحل التردد، وشعرتُ بفمي ولساني ينطبقان على أنفاسي. لكن الأغاني مغرية وجميلة، والأعلام أصبحت تُحَبُّ الآن. لم أستطع تجاوز هذه الحقيقة التي كانت تهزّني وتبهرني. أكفٌّ تُرفع عالياً في وقت واحد، ثم تدوّي مصفّقة. إنهم يحتفلون، إنهم يبتهجون. تحلّ درعا البعيدة والنائية والمحاصَرة في قلوب هؤلاء الفتية الذين لم يجدوا يوماً ما يربطهم ببلدتهم على النحو الذي يحيونه منذ شهر. اكتشف الناس البسطاء أن للمكان روحاً، وأن قوته ربما تأتي من مكان بعيد. لم تعد الجغرافيا هي الرابط، بل التعاطف، القرب الإنساني، وقوة الواجب الوطني المتواضع والبسيط والواضح: هؤلاء الذين يُقتَلون هناك من بلدنا، إننا نعيش في البلد نفسه، ونحن سَواءٌ في دفع ثمن الظلم. إنهم يُقتَلون للأسباب نفسها التي قُتلنا لأجلها عام 2004. نحن صادقون، ونعرف ماذا نفعل. مجرم الأمس هو مجرم اليوم، وابن درعا هو ابن عامودا، ولن نتوقف عن قول ذلك لأننا نشعر به كما هو، وهذا يكفي. الحقيقة هنا.

بعد ثلاثة أسابيع خرجتُ في أول تظاهرة. رفعتُ كلتا كفّيَّ عالياً، وصرختُ، وكانت الدموع تختنق إلى أن يفرَجُ عنها من عيني فتمتزج بلون الهواء. كنا نطفو عبر التصفيق، عبر الغناء، ولم نفكر، لحظة واحدة، أين ستحلّ دموعنا السعيدة بعد حين، أو أي منا سيكون مكان الضحية التي نخرج لأجلها، دفاعاً عن حقّها في الحياة والعيش بكرامة. بكيتُ، مثلما يبكي أي أحد يشعر أنه قد ولد من جديد. بكيتُ لأن الدموع كانت الصورة الوحيدة التي يمكن من خلالها التفكير والإحساس بما عاناه السوريون وما تحمّلوه من قسوة وحشية وتعامل همجيّ. الآن، بعد كلّ ما جرى، بتنا نحنُّ إلى اليوم الأول، إلى دموع التظاهرة الأولى وصرخاتها، كما لو كانت الدموع والتظاهرة والأغنيات فردوسنا الضائع، إلى حين.

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى