صفحات العالم

دور الإعلام في الدراما السورية


غسان الإمام

هذا العالم بات قرية إعلامية. شبكات الثرثرة الاجتماعية الإلكترونية اختصرت المسافات. ألغت الحدود. أسقطت حواجز اللغات. بددت الخوف. ساقت ملايين المحتجين إلى ساحات وميادين التحرير. عَرَّت الطغاة. ثم حولت عشرات الألوف من الناس العاديين إلى صحافيين. مراسلين. مصورين، في مكان الحدث. في موقع الألم والجرح.

هذه هي ديمقراطية الإعلام الحقيقية: أن تقول بلا رقيب. أن تملك صحيفة هوائية من دون محررين. لولا هذه الثرثرة الهوائية، لتكررت مجزرة حماه. لولا هذا الاتصال والتواصل الاجتماعي بالكلمة. بالصورة، لتكررت مجزرة تدمر، حيث كان يتم إطلاق سراح المعتقلين عمدا، لتصيدهم رشاشات الهليكوبتر كغزلان الصحراء.

ديمقراطية الإعلام الهوائي ألغت ديكتاتورية الصحافة الورقية. ها هي إمبراطورية روبرت مردوخ عاشق الورق والحبر، تقف في قفص الاتهام. فقد اخترقت حاجز الصوت، لتسلّي القراء بـ«حواديت» طفلة مخطوفة. مذعورة، تناجي أمها وأباها.

ماذا ينفع اعتذار نمر من ورق، بعدما خاف الخاطف صحافة الفضيحة الورقية، فأخمد همس البراءة التي كانت معلقة بأمل النجاة الوحيد: خيط هوائي لهاتف إلكتروني محمول؟

هل هناك مردوخ عربي؟ هل بتنا، نحن الصحافيين العرب، أباطرة الحبر المغموس في الأزرق. والأحمر. والأسود؟! هل نحن نمور من ورق؟ ربما بعضنا. وليس كلنا.

ما زال هناك صحافيون وكتاب يقاومون، بقلم كالمخرز في العين. ينفون الدموع. الدماء. الجراح، بأدوات من ورق. بالكلام المكرر والمعاد. يلتقطونه مكرهين من أفواه الملقنين، عن الفتنة. المؤامرة. التدخل الخارجي… تلك أدوات اللغة الخشبية الثرثارة التي تحاول مقاومة لغة إعلامية هوائية أكثر ثرثرة، لكنها باتت أجدى قوة. ونفوذا. وإقناعا. لأنها تملك الصورة. والشهود. والضحايا.

لكن فن الحرفة الإعلامية يفرض صقل تقنية إعلام الانتفاضة. فقد حول أباطرة الانتفاضات السورية. الليبية. اليمنية… الحدث والخبر إلى مجرد أرقام متناقضة. ما أقسى الانتفاضة، عندما تحول شهداء القمع إلى مجرد أرقام صمّاء! تماما كشهداء العراق. نحصيهم بالأرقام. من دون أن نروي شيئا عن دموع الآباء. الأمهات. الزوجات الثكالى. ونحيب الأطفال اليتامى.

الإمبراطور الإعلامي يملك شبكة إعلامية داخلية. يديرها من مخبأه في الداخل. أو آمنا في الخارج. يسأل «مراسليه» الذين لا يتغيرون: ماذا عندك يا أبا فلان؟ يأتي الجواب مرتعشا: آه! هناك خمسة قتلى. يقفز «مراسل» آخر مزايدا: لأ. عشرة.

يكتفي صاحب الشبكة بالأرقام. تلتقطها الفضائيات. وكالات الأنباء. الصحف. في حيرتها، تنشرها. تبثها على علاتها. وهي تعرف أن الخبر غير مستكمل فنيا ومهنيا: مَنْ ضد مَنْ؟ مَنْ يقتل مَنْ؟ من يتظاهر؟ من يندس؟ من يؤيد. من يحتج؟ من ينظم؟ «إخوان»؟ سلفيون؟ قاعديون؟ شباب إلكترونيون؟ موظفو الطبقة الوسطى الخائفون على أمن وسلام المدن الكبرى؟ أم الريفيون المحرومون. الجائعون. العاطلون عن العمل. الزاحفون بلا خوف، إلى ساحات المدن الصغرى؟

لا جواب. الإعلامي الهاوي صاحب الشبكة لا يعرف عناصر الخبر. وإن كان يعرف فهو لا يقول. لأن من يدفع. ويموِّل. لا تهمه مصداقية الخبر. المهم أن يُمْعِن النظام بالقتل. لكي تستمر الانتفاضة. لكي يستمر الصدام الدامي في ساحات وميادين التحرير. نظام الانتفاضة المضادة يستفيد من هذا القصور في عناصر الخبر. ينفي عن الشبيحة والبلطجية في سوريا. ليبيا. اليمن… جرائم القتل. والسلب. والقمع، ريثما يستكمل فاروق الشرع حوارا إعلاميا ودعائيا، مع أنصاف المترددين. ويسكت عن الجلادين والاستئصالين الذين «يحاورون» في الأقبية أكثر من عشرة آلاف معتقل دائم وعابر.

أما بشار فقد بشر العالم بإنجاز لجانه المجهولة قوانين الانتخاب. الأحزاب. الإعلام… يستعجل إحالتها على «مجلس الشعب» الحالي، ليبصمها أعضاء انتخبهم جلاوزة الأمن والقمع. بدلا من أن يحيلها إلى برلمان قادم. قد يكون حرا في النقاش. والاعتراض. برلمان قد يسقط صبغة «العمال والفلاحين» المهترئة. ويلغي قسمة الجبنة الانتخابية بين «الحزب القائد»، والمومياوات الحزبية المدفونة في هرم الجبهة التقدمية (البلغارية).

شبيحة الدراما السورية ليسوا فقط محترفي القتل والقنص في الشارع. هناك شبيحة يغتصبون القلم. يتوسلون النشر. يغالطونك، عن جهل، في ما تكتب. تخدع المغالطة براءة الصحافة العربية. بل الصحافة الأجنبية. قرأت في «هيرالد تريبيون» نجل الرئيس الأسبق نور الدين الأتاسي، مُطنبا في مدح أبيه (الديمقراطي)!

هذا الأتاسي الذي حبسه الأسد، ظلما، 23 سنة، ظلم ملايين السوريين، عندما رضي أن يكون دمية (سُنية) تغطي طائفية نظام صلاح جديد وقمعه (1966/1970).

في الدراما السورية، شبيحة للنظام من أهل الطرب والفن، يُستقبلون في العواصم العربية بحفاوة شعبية وإعلامية. يعودون إلى سوريا، ليفاخروا بدورهم الإعلامي. الدعائي للنظام، في دراما سورية تغصّ بدموع. ودماء حقيقية، وليست طلاء على وجوه وأجساد، تخبئ تزلفها. أو طائفيتها، وراء جلودها.

كصحافي محترف لا يعمل في السياسة، كنت حريصا على تذكير أهل الانتفاضة السورية بالعروبة. قلت إن ديمقراطية سوريةً عربيةً، هي الضمان لمساواة تامة في الحقوق بين السوريين، لأنها قادرة على تجاوز الغلو الحاصل اليوم في المشاعر الشوفينية العرقية والطائفية.

سوريا غير العراق. سوريا بلا هوية الانتماء لوطن أكبر. ولثقافة عربية أرحب، هي مجرد صحراء بلا روح. بلا دور. كتبت دائما. أقول إن سوريا بلدي. لكن العالم العربي هو وطني. ما من بلد عربي امتزجت فيه الأعراق والطوائف. وعاشت في سلام تاريخي، كما امتزجت في سوريا. جرت دماء الأكراد في عروق زعماء النضال الوطني والقومي، كإبراهيم هنانو. وجميل مردم. ورؤساء كحسني الزعيم. وأديب الشيشكلي. قاتل هنانو الانتداب الأجنبي سنينا طويلا، متحالفا مع ثورة الشيخ العلوي صالح العلي، امتدادا من جبال اللاذقية، إلى جبل الزاوية، حيث يسلح اليوم ماهر الأسد القرى العلوية لتقتتل مع القرى السنية.

يرفع بعض الأكراد في القامشلي والحسكة لافتة انتفاضة إعلامية: «لا عربية. ولا كردية. سوريا وبس». يتداولها فورا إعلام غربي كاره للعرب. يتاجر بها نظام طائفي يحتكر العروبة، محذرا العالم والعرب من «انتفاضة طائفية. عرقية. منقسمة. ممزقة»، وتشكل «خطرا» على أمن واستقرار سوريا والمنطقة. عندما تذكر المؤتمرون في لقاء إسطنبول عروبتهم، انسحب ممثلو الأكراد احتجاجا.

=لم يرتفع صوت سوري واحد ضد الأصول الكردية للزعيم وللشيشكلي. إنما كان الاعتراض على قمعية نظاميهما. استعان الزعيم (1949) بالأمير الدرزي اللبناني عادل أرسلان، ليكون وزير خارجيته، وهو القومي العربي. انسحب الشيشكلي من الحكم. غادر سوريا (1954) حقنا للدماء. وكان قادرا على قمع التمرد العسكري عليه.

آمل أن يظل أكراد الحدود السورية النائية (الذين عانوا من النبذ والإقصاء) مواطنين سوريين. يتقاسمون مع إخوتهم العرب السوريين السراء والضراء. لا عتب لديَّ. إنما مجرد النصيحة. ولعل خير ما أختم هذه الدراما السورية، بنصيحة النبي العربي للصحابي سلمان الفارسي. قال له: «تُبْغِضُ العربَ. فَتُبْغِضُني».

الشرق الأوسط

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى