صفحات الثقافةعبدالله أمين الحلاق

دور المثقفين بين ربيعَين لدمشق


عبدالله أمين الحلاق

من التبسيط بقاء النظرة إلى المثقف العربي ودوره في عملية التغيير، على ما كانت عليه قبل عقود، تلك التي حمل فيها هذا المثقف مشروع التغيير نظرياً وفكرياً عبر طرح الفكر والإيديولوجيا والمعرفة وبرنامج “الحزب النضالي”. فالمشهد في زمن الربيع العربي والتغيرات العاصفة والشاملة التي يخلقها الشارع المنتفض ويجترحها شباب التغيير، يبدو مختلفاً عن الشكل الذي وسم التغيير وإسقاط الأنظمة في الخمسينات والستينات من القرن الماضي.

بقيت الأنظمة التي استقرت في أوائل السبعينات، على البنية والنمط التسلطي نفسيهما ولم يتغير فيها سوى الأفراد والأشخاص. بذلك بات “المثقف الرسولي” مخيَّراً بين موقعين جلبه إليهما وصول الأنظمة الانقلابية “الثورية” إلى سدة الحكم، أولهما الانضواء تحت لواء الزعيم القائد وفي مراكز سلطوية يتيحها له إعلام الرئيس أو النظام، مما يعني تحوّله بوقاً أو ماكياجاً يحاول أن يُظهر مفاتن السلطة الديكتاتورية الموغلة في البشاعة، وثانيهما رحيله الطوعي إلى الخندق المعارض للديكتاتور مما يعني نفيه أو سجنه أو قتله، على ما حدث للغالبية الساحقة من الأحرار، ممن اختاروا حياة التشرد والتعرض للأخطار مقابل موقف أخلاقي تلزمهم به ثقافتهم المنحازة إلى الحرية، لينضموا إلى خانة المعارضين المستقلين أو المتحزبين ممن عاصروا مرحلة وصول تلك الأنظمة إلى السلطة أو ولدوا بعدها ليبدأوا مسيرة شاقة من العمل السياسي والثقافي في مواجهة ما لا يمت الى السياسة والثقافة بصلة.

النظام والثقافة

تبدو سوريا مثالاً بالغ الفائدة لتقديم نظرة بانورامية الى المثقف بين الأمس اليوم، تنزّ منه دماء الشهداء وعذابات المعتقلين من المثقفين أو الناس البسطاء المنتفضين تأييداُ لمطالب لا علاقة لها بالثقافة والإيديولوجيا، تتعلق بإحرازهم معنى وجودهم في هذه الحياة، وهذا ما لا يستقيم في ظل غياب الاعتراف بأنهم بشر لهم حقوق في الحياة الكريمة والحرية والمساواة. يستوي نظام الحزب الواحد والفئة المستولية على البلد وثرواته والضاغطة على رقاب السوريين نموذجاً لكل ما من شأنه أن يحول بين السوريين ولائحة المطالب التي ينتفضون لأجلها، وخصوصاً بعدما صار من الواضح أن رحيل النظام مقترن بتحقيقها ولا سبيل الى ذلك في ظل بقائه. فما الذي يحتم على المثقفين السوريين فعله إذاً لمواكبة انتفاضة أبناء شعبهم؟

الانتفاضة السورية ليست انتفاضة نخب ثقافية أو سياسية تقود “الجماهير”. إنها انتفاضة شعب يعود إلى السياسة من باب الشارع والشعارات والهتافات. شعب يخلق ثقافة الاحتجاج الخاصة به، التي لم يتعلمها في أكاديميات العلوم السياسية أو الفلسفة وعلم الاجتماع. لم يكن ثمة أحزاب سياسية ومثقفون وسياسيون حرّكوا الشارع بحسب الروايات الخلاصية التي سادت في فترة الانقلابات العسكرية، والمسكونة بـ”النهايات السعيدة لأبناء الوطن”. لكن، في الوقت عينه، لا بد من السؤال: أي دور يرتجى للمثقف السوري في ظل المد الشعبي وثقافة الاحتجاج؟ هل يعني ذلك استقالته من المشاركة بإمكاناته الفكرية والتنظيرية والتأسيسية للمستقبل، والناقدة لانحرافات قد تكبر وتحرف الانتفاضة عن مسارها وخطها؟ وخصوصاً أن الشارع السوري معبأ بما أفرزه الاستبداد السياسي من ثقافة لم يسمح الزمن والأنظمة والسلطنات البليدة بطرح بدائل ناضجة منها، أضف إليها انتماءات ما قبل المواطنة والدولة التي لعب عليها النظام السوري طويلاً، عبر نصف قرن مضى من الاستبداد القاسي الذي دمّر سوريا.

علاقة المثقفين السوريين بالاستبداد في سوريا من حيث رفضه لهم ومحاولته تدجينهم، علاقة واضحة ولا غبار عليها، بدأت تتوضح منذ وصول حافظ الأسد إلى السلطة، وقولبة المجتمع السوري على المقاييس التي يريدها النظام ورموزه آنذاك، وهي لا تتم إلا بإفراغ الثقافة من مضمونها النقدي الذي يبقيها على مسافة أمان من السلطة والتماهي معها. هكذا بدأت عملية مأسسة للثقافة في مؤسسات كاريكاتورية فارغة من الثقافة الحقيقية إلا ما يصب في خدمة السلطة والرئيس والحزب. أما المثقفون الذين رفضوا الوقوف مع السلطة إلى جانب رفضهم الصمت حيالها وحيال ممارساتها، فبدأت سلسلة من الإجراءات السلطوية ضدهم، توضحت في البيان الذي وقّعه خمسون مثقفاً عام 1976 رفضاً للدخول السوري إلى لبنان، وهؤلاء سُحبت منهم جوازات سفرهم بالجملة. بعدها بدأ العمل السياسي المعارض على شكل أحزاب أو مثقفين مستقلين دفعوا ثمناً باهظاً، قتلاً وتنكيلاً وملاحقة واعتقالاً عرفياً لسنوات طويلة، خصوصاً الذين انتموا إلى أحزاب يسارية رفدت الحياة السورية بأسماء وأقلام مهمة لا تزال تمارس دورها التنويري والنهضوي المقاوم للاستبداد والداعم للانتفاضة السورية حتى اليوم.

ربيع دمشق الموؤود

أطلق سراح كثير من المثقفين في نهاية عهد حافظ الأسد وبداية عهد ابنه بشار، ومع تولي الابن لمقاليد السلطة بدأ خطاب إصلاحي يتسلل من بين الشقوق، صدّقه المثقفون السوريون بنية طيبة واعتقدوا أن سوريا مختلفة وجديدة ممكنة التحقق. ومع بيان المثقفين الـ 99 أُعلن وبشكل غير رسمي انطلاق ما عرف بـ”ربيع دمشق”، مع المنتديات والصالونات السياسية والثقافية والاعتصامات، للمطالبة بالحرية. لكن السلطة ضربت الربيع الموعود ضربة قاصمة مع اعتقال العشرة الأفاضل وفي مقدمهم رياض سيف ورياض الترك، لينتهي موسم الربيع وتقفز السلطة عن فصلي الصيف والخريف، معيدة سوريا قسراً إلى الشتاء القارس الذي بدأت ثلوجه بالذوبان متدفقةً سيلاً جارفاً في 15 آذار 2011.

استمر التضييق على المثقفين السوريين ممن رفضوا اليأس وقاوموه بمشاريع سياسية وثقافية دائمة، مثل “إعلان دمشق للتغيير الوطني الديموقراطي”، باعتقال أعضاء أمانته العامة أواخر عام 2007، ثم “إعلان دمشق بيروت – بيروت دمشق” الذي دفع نخبة ممتازة من المثقفين ضريبة توقيعه، في مقدمهم ميشال كيلو الذي أمضى ثلاث سنوات في سجن عدرا. لتستمر الاعتقالات هنا وهناك إلى حين اندلاع الانتفاضة السورية المستمرة، كما نأمل، حتى تحقيق أهدافها.

ربيع دمشق المولود

بدأت بوادر الانتفاضة السورية في 15 آذار 2011. مثقفون سوريون حاولوا كسر جدار الصمت في مملكة الصمت، وهم يرون قلاع السلاطين والديكتاتوريات في البلدان العربية تتهاوى تحت وقع هتافات الشعوب والتظاهرات. بدأوا في الحريقة وسوق الحميدية، ولم يعرفوا أن درعا ستكمل محاولتهم الشجاعة، وان أطفالها سيكونون شرارة الاحتجاج الذي ستنتقل إلى كل بقاع سوريا ومناطقها. تحوّل الاحتجاج فعلاً شعبياً غير نخبوي، لكنه يتبدى سياسياً بامتياز عبر الشعارات المرفوعة والأهداف المطلوب تحقيقها. لم يعد دور المثقفين قيادياً كما كانوا يتوهمون في العقود السابقة، لكن ذلك لن يعفيهم من واجبهم كمثقفين نقديين يتبنّون قضية حرية شعبهم وبلدهم والخلاص من الديكتاتورية.

يرى الشاعر عبدالله ونوس، وهو ممن اعتقلوا بتهمة التظاهر والمشاركة في الانتفاضة “أن معركة المثقف اليوم تضعه بين خيارين: إما أن يكون مع أنظمة القهر وإما أن يكون مع الشعوب والحرية”. ويكمل في مراجعة تاريخية قائلاً: “إن ضرب تجربة ربيع دمشق كان قاسياً في حق كل المثقفين النقديين والمعارضين في سوريا، وهذا ما يجعل المثقف في حالة قلق من إحباط الانتفاضة وتلقّي الربيع الموعود ضربة ثانية محتملة، وإن كان خيار العودة إلى الوراء أو إسكات الناس وإعادتهم إلى حظيرة الاستبداد يبدو مستحيلاً”.

ثمة كتّاب ومثقفون يعرفون حجم المثقف في ظل اكتساح الشعب للشوارع، لكنهم لا يتوانون عن المشاركة بكل فاعلية بحسب إمكاناتهم الفنية أو الكتابية أو الروائية أو الصحافية في رفد الانتفاضة ونقد مآلات شعبوية قد تنزلق إليها، من دون لبس في انحيازهم إلى قضية الشعب ومواجهة النظام الحاكم.

ياسين الحاج صالح، واحد من الكتّاب الذي اعتقلوا لمدة 16 عاماً في السجون السورية، وواكب ربيع دمشق وضربه واعتقال رموزه، هو الذي كان من الفاعلين فيه وفي منتدياته. يغيب اليوم عن الأنظار، بعدما غادر منزله في آذار الماضي ليتاح له الحديث بحرية والكتابة بحرية. باتت صفحته على الـ”فايسبوك” مجالاً لحوارات وتعليقات سياسية مهمة. المثقف في أزمنة الحراك الشعبي والتغيير الشامل يلعب دوراً يمتزج فيه الثقافي التنويري مع السياسي الداعم للحراك، والمساهم ميدانياً فيه أحياناً، بل ربما فاقت المساهمة السياسية اليومية فيه مساهمات ثقافية غيرها. لكنك قد تجد في المقلب الآخر، أي في صف السلطة و”مثقفيها” نمطاً يدعو الى الضحك من الموقع الذي وضع فيه “المثقف” السوري نفسه، خصوصاً أن كتّاباً ومثقفين كانوا معارضين وصاروا اليوم أبواقاً للنيل من المعارضين واتهامهم بالعمالة.

تستمر الأمثلة لتشمل رسام الكاريكاتور علي فرزات، الذي لم تكتف السلطة بغلق صحيفته “الدومري” بعد انحسار موجة الربيع الموعود في عامي 2001 و2002، بل أكملت الهجوم عليه وكسرت أصابعه المبدعة في اعتداء سافر عليه في ساحة الأمويين على يد شبيحة النظام. فيما يبدو المشهد السوري ملوّناً بمثقفين وفنانين مشاركين في الاحتجاجات كان بعضهم ممن وقّع بيان الـ99 قبل حوالى عقد من الزمن.

اكتسب الشارع السوري ثقافة الرفض والمعارضة من الواقع السيئ والحرمان الاقتصادي والاجتماعي والقمع السياسي وغياب الحريات، لا من المثقف السوري، وإن يكن هذا الأخير ملزماً، إن أراد التصالح مع ماهية المثقف النقدي، قضية شعبه.

على سبيل الخاتمة

ثمة ثقافة جديدة تتبوأ صدارة الأحداث وصناعتها، أو على الأقل، التأثير فيها، هي الثقافة التي تصنعها الميديا والفضاء الافتراضي للتواصل بين الناشطين والأحرار، وتختزن احتمالاً لبروز أسماء جديدة اكتشفنا بعضها عبر ثمانية أشهر من عمر الانتفاضة السورية. هذا لا يلغي المثقف والكاتب الذي يوظف إبداعه لصالح الحرية وإنجازها في سوريا، بل يفتح الباب لتلاقح أفكار مشاريع تبدو سوريا في أمس الحاجة لها، خصوصاً بعد أن تنجز الانتفاضة هدفها الأول وهو إسقاط النظام الاستبدادي. ذلك أن المرحلة الانتقالية في حاجة إلى قدرات ميدانية ونظرية معرفية مهمة في طرح مشاريع وأفكار ورؤى وتشكيل تيارات وتنظيمات سياسية من شأنها أن تخفف الصعوبة الطبيعية للانتقال من الاستبداد إلى الديموقراطية، وهذا في طبيعة الحال يعيدنا إلى دور المثقف الذي يتعامل مع كل مرحلة بحس نقدي تفرضه تطورات المرحلة وسماتها. المشكلة أن ثمة فعلاً من يصدّقون أنهم أنبياء ويتعالون على الشارع، ناظرين إلى المنتفضين نظرة دونية بوصفهم “لا مثقفين ولا سياسيين بل مجرد جموع متوترة لا تعرف بوصلتها”، كما أفاد أحد “الأنبياء” الذي ادعى أنه لا تربطه علاقة بالنظام الاستبدادي في سوريا، فيما يبدو أن مجرد بحثه العبثي عن كتل بشرية متجانسة ومتساوية في الفكر والثقافة والنمط الاجتماعي والحياتي دليل على قربه من نظام متجانس لا يقبل أي تمايز أو تنافر في الألوان.

أخيراً، سوريا تستحق أن تعيش حياة كريمة وحرة، وهي مختبر لتجارب ثقافية وحزبية وسياسية كانت ذات فترة فاعلة ومؤثرة في مجرى الأحداث قبل أن تنزل بها نازلة الحزب الواحد عام 1963، وهي قدمت الى السوريين والعرب والعالم نماذج لثقافة نقدية خلاّقة مثّلها مثقفون سوريون كبار، ولا تزال تحبل بالمزيد، ممن سيلجون باب المعترك السياسي والثقافي ويعملون من أجل سوريا ديموقراطية متنورة، بعيدة عن نماذج طالما حاول مدّعو الثقافة إبقاءها بعيدة المنال عبر مغازلتهم للاستبداد. فالمثقف، إما ان يكون محترماً تجاه ما تمليه عليه ثقافته النقدية وإما ان يتحول كلب حراسة للسلطة والطوائف والعشائر. سوريا تحوز الطرفين معاً، لكن المستقبل يبشر بما يجنح إليه المثقف النقدي السوري، في حين أن الآلهة التي يعبدها عشاق دنانير السلطان ومناصبه ستفشل حتماً، وسيصنفها التاريخ الذي يُكتب اليوم في سوريا في خانة لا تحسد عليها.

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى