صفحات الرأي

دولة الاستبداد المديدة ثمرة الجمع بين خنادق الجماعات ووحدتها الآلية


تعليقة ثانية مستأنفة على حنا بطاطو في ضوء “المشاهد” العربية المعاصرة

وضاح شرارة

حين ولي فيصل الأول ملكاً على العراق، غداة هزيمة جيشه “العربي” بميسلون في ضاحية دمشق، واستقر ببغداد بعد تردد، لم يغفل الشاب الحجازي، والعثماني إلى بارحة قريبة، أن ولايته إنما هي على “كتل بشرية خالية من أي فكرة وطنية (و) لا تجمع بينهم جامعة” (عطفاً على تمهيد تناول كتاب حنا بطاطو الكبير العراق: الطبقات الاجتماعية والحركات الثورية من العهد العثماني حتى قيام “الجمهورية”، ونشر في “نوافذ “المستقبل”، في 22/10/2011). والعراقيون، على قول مليكهم الجديد الذي لم يختاروه ولم يخترهم في مذكرة سرية استخرجها حنا بطاطو من محفوظات بريطانية لا تحصى وثائقها كثرة وعدداً، العراقيون ليسوا “شعباً عراقياً بعد”. و”الكتل البشرية” المتفرقة التي آل إليه حكمها، أو حكم “دولتها” المفترضة، “متشبعة بتقاليد وأباطيل دينية”. وأهلها أو أهاليها سريعون الى “الانتفاض على أي حكومة كانت”. ويصف الشريف الحجازي الهاشمي ابن الشريف الهاشمي نقائض الاجتماع العراقي السياسي والأهلي وقصوره قياساً على مثال يتخيله ويحسب أنه حقيقة وواقع معياريان. ويحسب الأمير الجديد أن لا مناص من إيجاب الحقيقة والواقع المعيارين هذين قبل جواز الكلام على شعب عراقي، ودولة عراقية، وقبل استوائه هو ملكاً أو حاكماً فعلياً. وليس أضعف المفارقات ولا أقلها دلالة إقبال الشريف الحجازي والهاشمي على التملك على شعب “لا وجود” له، على قوله كذلك، على المثال المرتجى، الوطني والسياسي المجتمع، وليس على الشاكلة المشرذمة (القبلية العشائرية والقومية) والخرافية (الدينية والمذهبية).

وعلى هذا، عزم العاهل “العراقي”، ومعه رهط الضباط العثمانيين الشريفيين من أنصار ثورة أبيه على جيش السلطنة العلية والمسلمة المرابط في الولايات العربية، بين حلب شمالاً والمدينة المنورة جنوباً والسويس غرباً والبصرة شرقاً، ومن ورائهم ضباط الامبراطورية البريطانية وموظفوها، عزموا جميعاً على “بناء” أو إنشاء الدولة والشعب الوطنيين والعتيدين. ويقتضي هذا، على المعنى المضمر في شكوى الامير، توليد أو استيلاد “الفكرة الوطنية” الجامعة من “الكتل” الأهلية المتفرقة، وإرساء الحكومة أو الدولة ودالتها على ولاء المواطنين الطوعي (في وقت ثان) ورضاهم ولايتها عليهم باسم الرابطة المعنوية والرمزية المنشودة، والتدبير العادل، والمساواة في توزيع المصالح (“المناصب”، على قول ذلك الوقت، والاصول المعنوية والمادية وعوائدها من صنفيها).

“الفكرة الوطنية”

واضطلاع فيصل بـ”الفكرة الوطنية” العراقية- وهو الوافد على جماعات ما بين النهرين وقماشتها الاقليمية، من خارج مثلث: مراتب السلطنة والخلافة السابقة، والعروبة السلالية والتاريخية الملتبسة بالاسلام، والامبراطورية البريطانية وحراسة طرق مواصلاتها-، مفارقة أخرى من المفارقات التي لم ينفك منها نشوء الدول والامم في وقت وعالم خَلَفَا انهيار أبنية امبراطورية قديمة (التركية والنمساوية والروسية) ودوام أخرى (الروسية “السوفياتية” والبريطانية والتركية والايرانية)، وولادة كيانات “وطنية” هشة وضعيفة. وهو يطلب ملكاً وولاية على جماعات تقوم، أول ما تقوم وتتماسك، برئاساتها التي تتربع في ذرى أجسام عصبية منكفئة على نفسها، على رغم علاقاتها القوية والحيوية بأشباهها ونظائرها، وبنقائضها أو أضدادها، من الأجسام العصبية الأخرى. وطالبُ الملك والولاية، على خلاف من يطلب الملك عليهم من جماعات بين النهرين، ليس رأس عصبية قوية ومتغلبة على شاكلة تلك التي جمعت تحت سلطانها، الى الجنوب، ديرات القبائل، ومدن الأهل. فكسرت شوكة الحرب في القبائل من طريق التوطين في الهجر، وتوزيع عوائد الغلبة على الرؤساء والمشايخ لقاء استتباعهم، على المعنى الحرفي (إلحاقهم سيوفاً وجنداً ومقاتلة في أمرة العصبية المتغلبة).

ومن يتصدرهم فيصل ويتقدم عليهم من ضباط عراقيين وسوريين وكرد محليين شايعوه (شايعوا أباه أولاً) على السلطنة، ثم على فرنسا، قبل أن تنصبهم الادارة البريطانية على الجماعات “العراقية”، هؤلاء ليسوا أحسن منه حالاً في ميزان العصبيات والشكيمة والمرتبة. فهم طارئون على الجماعات الأهلية، ومولودون من مراتب ومكانات متوسطة. وهذه ارتقت من طريق بيروقراطية السلطنة المركزية، وحازت النفوذ بواسطة مراتبها الجديدة في الأسلاك العسكرية والادارية والمالية والدينية. وهذه الأسلاك، بدورها، تنامت عدداً ودوراً ونفوذاً تحت عباءة الدول الاوروبية “الكبرى”، وتنافسها على اصلاح السلطنة، أو تحديثها السياسي الوطني والتقني، وتقاسم النفوذ عليها وتوزيع عوائدها، وتقييد تفككها ورعايته، معاً وفي آن. فكانت البيروقراطية أداة من أدوات تجديد أبنية السيطرة المركزية المتآكلة على الولايات، وفي الداخل الأناضولي، وباعثاً على نشأة مجتمع سياسي ضيق اضطلع بتقييد سلطة السلطان وأركان نفوذه (مشيخة الاسلام والجيش القديم ونظام مِلك الارض وتلزيم الوظائف) وسعى في إضعاف هذه وتلك.

وكانت “الوطنية” أو “القومية”، فكرة ورابطة ودولة وجسماً سياسياً وحقوقياً، مطلباً أو غاية متناقضة أو متدافعة. فهي من بنات تحديث السلطنة، وإرادة حمل الشعوب والأقوام المغلوبة على الانخراط في كنف سلطان “دستوري” ما أمكن. ولكن “الفكرة” هذه كانت، في وقت واحد، نهجاً لمنازع أهلية وجزئية وفرعية، من وجه، وطُعمة لمصالح امبراطورية، دينية مذهبية أو عرقية، من وجه آخر. وإذا كان استقلال الولايات الذاتي، أو توسيع صلاحيات ادارتها الذاتية، خطوة على طريق تمدْين سياسي واجتماعي (“ديموقراطي”، على تحفظ شديد)، فلا ريب في أن تولي ولائد البيروقراطية السلطانية، من أهل الولايات المقيمين غالباً باستانبول و”المصعدين” إليها، طبع هذا التمدين بطابع التسلط والتوحيد الفوقي والعمودي الحاد.

ولم يشذ العراق، أي جماعات ما بين النهرين، عن التنازعات هذه وتدافع عواملها. فكان الملك الوافد، والقادم محمولاً على أسنة الجيش البريطاني (سلف “الدبابات الاميركية” المخيفة و”الضرورية”) غداة فراغ القوات الغازية من اخماد “ثورة العشرين” الوطنية الجزئية والعشائرية الدينية، أداة رغبة القوة المحتلة في تدبير مجتمع “منظم” على مثال دولة- أمة، آمنة ومن غير منازعات أهلية باهظة الأكلاف (على المحتل والرعايا). والمثال نفسه مناط رغبة “الطبقة الحاكمة” الجديدة والمزمعة، من باب أول. وبينما يملك الاحتلال قوة قسر الجماعات على الرضا بالدولة الوطنية، الخلو من المنازعات الأهلية العصبية والمراتب الوسيطة (بين السلطة المركزية غير القائمة وبين المواطنين المفترضين)، لا تملك “الطبقة الحاكمة” المتحدرة من البيروقراطية العثمانية القوة هذه، وهي عالة على القوة الفاتحة والمستعمرة. وتجتمع القوة الفاتحة والمستعمرة و”الطبقة الحاكمة” المزمعة على مصلحة مشتركة هي إخلاء المجتمع “الوطني” المرجو من منازعاته الأهلية المدمرة، وتوحيده أو جمعه على “حكومة” تدبير وإدارة وانتاج منقادة، ومن غير هوى ولا مصلحة ذاتيين.

وهذا يتناقض ويتدافع. فالباعث على الوحدة لا يتأتى إلا من مصلحة وهوى ذاتيين. ويقتضي تغليبيهم على المصالح والأهواء الاهلية والجزئية المتدافعة والمحتربة تحطيم اللحمات العصبية التي تغذي المصالح والاهواء هذه وتغتذي منها، أو استتباعها. وتتولى الاستتباع جماعة قوية ذات شوكة ومتغلبة. فترسي غلبتها وسلطتها على تحالف يقيد العصبيات، ويرتبها على مراتب تحفظ لحماتها، وتلحقها بالجماعة المتغلبة إما مباشرة وإما من طريق مراتب وسيطة، محلية أو اقليمية، على ما حصل الى الجنوب من العراق في العقود الثلاثة الأولى من القرن العشرين. وينشأ عن الاستتباع، إذا افلح، إطار سلطاني رخو أو مرن يرعى مساكنة العصبيات ومراتبها معاً. فإذا ضعفت العصبية المتغلبة، وقصرت عن التحكيم والتوزيع “العادلين”، استيقظت العصبيات المغلوبة، أو بعض فروعها، وخرجت على “النظام” باسم روابط عامة ومشتركة، دينية في الغالب. وأما التحطيم فتتولاه جماعة قوية أو تحالف جماعات قوي. ولا تستقر غلبتها إلا إذا هي أتمت تحطيم الابنية العصبية كلها، وفيها أبينة عصبيتها هي، وتبددت أركان الغلبة الخاصة. فتنحل السيطرة في أبنية الدولة السياسية، ويقوم الشعب السياسي، المؤتلف من ارادات فريدة وأهواء ومصالح “نووية”، مقام مصدر السيادة أو الولاية. وهذه السيرورة، سيرورة تولي الجماعة المتغلبة استتمام تدمير أبنية غلبتها وإرساء السيطرة على قواعد غير مرتبية أو فئوية، فردية، هي ما سماه نوربرت إلياس، الألماني فالبريطاني، “دينامية الغرب”، الليبرالية والديموقراطية في آخر مطافها أو مطافاتها.

إلزام الدولة

ولم يكن ثمة ما يدعو قوة الاحتلال البريطانية بالعراق الى تحطيم الأبنية العصبية الأهلية. ويقتضي العمل قوة كبيرة ووقتاً طويلاً، بينما تستعجل القوة المستعمرة العالمية اجلاء معظم قواتها العسكرية وطاقمها الإداري غداة الحرب الأولى وذيولها (التركية والهندية والقارية الاوروبية) المعقدة والباهظة. وهي لا تجهل أن تصديها لهذه “المهمة” يبعث اضطرابات وثورات وانتفاضات لا حصر لها، ويتهدد الممتلكات الامبراطورية كلها بالتصدع من طريق العدوى. وهي تحتاج الى تعاون “طبقات” وجماعات أهلية، على أن تجزى على تعاونها، في كنف البنية السياسية والاجتماعية الجديدة، ورعاية السيطرة البريطانية، فوائد ومنافع مادية ومعنوية رمزية، من غير انفصال. وانتهجت السياسة الامبراطورية نهجاً متنازعاً ومتعرجاً خَطَّ تنازعَه وتعرجه “تناقضُ” المشروع الاستعماري، الغربي عموماً والبريطاني على وجه التخصيص. فالدولة، أو الدولة الامة على مثالها الاوروبي، لا تقوم الا بولاية ذاتية هي شرط ضبط المنازعات المتفرقة في اطار يرعى تضافرها، في نهاية المطاف، على تمكين تماسكها (على نحو احتساب إعمال قوتين في حركة جسم واحد). ويفترض هذا، فيما يفترض، نازعاً تلقائياً وداخلياً الى السيادة في اطار بنية “وطنية”. وهذا معناه ان تضطلع القوة المستعمِرة بإعداد البلد المستعمَر الى الاستقلال والانفصال من الامبراطورية التي استعمرته تلبية لمصالحها الذاتية واحتياجاتها، على ما استنت مبادئ ويلسون في شأن الانتدابات. ولا يسوغ المبادرة الى “التأهيل”، حين تنهب المنازعات والتفاوتات داخلاً هلامياً ومتفرقاً وآن قوة المراقبة الدولة المعيارية لا تزال هزيلة ومتعثرة، مسوغٌ يتغلب على الارجاء لا الى غاية.

والحال أن “الحكومة” أي أجهزة الحكم الادارية والعسكرية والبوليسية والتقنية والمالية والتعليمية والقضائية، الى “الجهاز” المعنوي الذي يمثل عليه محلُ الحاكم أو “واسطة العقد” (الوكالة الدينية أو القومية السلالية والنسبية…) كانت “أضعف بكثير من “الشعب” في العقد الرابع من القرن العشرين، على قول حنا بطاطو. وهذا لا جدال فيه، إذا قيس على معايير مادية وكمية مباشرة، وإذا جمع في “الشعب” الواحد والمتجانس جماعات متفرقة ومتناحرة لا يدعوها الى التكتل والتكاتف داع قوي وثابت. وتحقق القول المتقدم المقارنةُ بين 100 ألف بندقية أهلية، تملكها العشائر مجتمعة أو متفرقة ومتقاتلة ويعود معظمها الى بطانات مشايخ العشائر، وبين 15 ألف بندقية حكومية يكاد يقتصر عليها تسليح الجيش العراقي والقوة الامنية. وكان الجيش العراقي يعد، قبل 1933 (عام سيطرة الحكومة الوطنية على الشؤون الداخلية)، 7500 عسكري. وعد غداة إقرار السيطرة 11500. وبعد 3 أعوام على ارتقاء غازي بن فيصل العرش، قفز عديد الجيش الى 19500 جندي في امرة 800 ضابط. وفي الاثناء، وسع غازي ما عجز عنه فيصل وهو سَنُّ التجنيد الالزامي (1934) وهذا اجراء على طريق دمج ابناء العشائر وأبناء المدن، وهما “جماعتان” متنافرتان الى فُرقة داخلية حادة، في “حياة وطنية” تتراءى أفقاً فوق ما هي حقيقة.

وتوسعُ الجيش الوطني، عديداً وتسلحاً ومصادر اجتماعية واقليمية مذهبية وطبقية، هو من الزامات بناء الدولة في مجتمع دول معاصر لا يطيق ما لم يكن سماه بعد “الدول الفاشلة”، وخلائفها هي الحروب الاهلية والحركات الانفصالية والقرصنة والتهريب والارهاب والتجارات غير القانونية وتهديد الاطراف والمراكز معاً. وتقدم الدولة المستعمرة على تلبية هذا الإلزام مكرهة، على رغم يقينها باستحالة التخفف منه، وذلك بموجب مصالحها. وعاندت بريطانيا طوال عقد ونصف العقد تقريباً الحاح فيصل في بناء نواة عسكرية وإدارية وتربوية وقضائية عراقية يستقوي بها على العشائر والطوائف والديرات والاقوام العراقية، وعلى الادارة البريطانية وقوتها العسكرية، في آن. وإلى اليوم، يعزى مقتل غازي في حادثة “غامضة” الى اصراره على بناء النواة الذاتية هذه. ومضى الطاقم الحاكم، وهو القصر وحلقة الأنصار الشريفيين المختلطة (من عسكريين وسياسيين)، على تقوية الجيش، بعد مقتل غازي وانتقال الحكم الى قرب المقربين من السلطة المستعمرة، الوصي عبد الإله ونوري السعيد. فبلغ عديده، في 1941- 1942، نحو 45 ألف جندي و1745 ضابطاً.

ولكن الزام الدولة، وبناءُ القوة المسلحة التي يفترض فيها “احتكار العنف المشروع” ليستقيم دورها الوطني والجامع فرعٌ على الالزام هذا، لا يقوم بنفسه ولا بمنأى من علاقات “الجماعات الأهلية وتكتلاتها ومنازعاتها. فمجتمع الجماعات المنقسم على نفسه انقساماً قريباً من الشرخ العميق والمزمن ليس في وسعه أن يستخرج من جماعاته، ومن منازعاتها، وشقاقها، جسماً متماسكاً ومتعالياً عن الشقاق. فمن هم في موقع الحكم والأمر، شأن نوري السعيد وعبد الإله، المتحدرون من النواة الشريفية الأولى والأضيق، انتابتهم الخشية من قوة الجيش المسلح. فعمدوا الى شقه حزبين: واحداً يناصرهم على صفتهم الشخصية والعصبية، تولوا السلطة أم خرجوا من ولايتها، وآخر يوالي ياسين الهاشمي، الضابط والسياسي الشريفي والعروبي. وإلى هذا، لم يلبث الجيش أن بلور عصبية سلكية حملته على طلب السلطة والمنافسة على امتيازاتها. وتغذت العصبية السلكية من مصادر الضباط الاجتماعية الجديدة، ومن دخولهم وأهاليهم دائرة التداول والتوزيع والعوائد المتسعة، وذلك من باب تقسيم عمل اجتماعي متعاظم ورأسمالوي (نظير “كابيتاليستيك” التي ذهب إليها مكسيم رودنسون في “الاسلام والرأسمالية”)، ومن أبواب التعليم والوظيفة الادارية والحيازة الزراعية الصغيرة والحرفة المحدَّثة والاقامة في المدينة. وهذه من مرافق الدولة وأبنيتها.

وقادت العصبية السلكية، وهي في الوقت نفسه عصبية على كتلة الحكم المؤتلفة (على منازعة) من الادارة الاستعمارية والملك وكبار الضباط الشريفيين وكبار ملاك الارض من رؤساء العشائر وأعيان المدن، قادت قيادات الجيش المتوسطة والجديدة الى الانقلاب على كتلة الحكم، والاستيلاء عليه في الاعوام الخمسة التي تلت اغتيال غازي (1937 1941). وأفلت الجيش من يد “الدولة”، فتوسل البريطانيون بالجيش “العربي” في شرق الاردن الى اعادة عبد الإله بالقوة وصياً على العرش. ونهض هذا قرينة على شقاق اجتماعي بين جيش تغلب عليه مصادره القبلية، وقيادته الأجنبية، وبين جيش يغلب على ضباطه تحدرهم من أصول مدينية متوسطة. وصحبت الأصول المدينية والمتوسطة منازع “قومية” عروبية استقاها فريق أكثري من الضباط من المنابع الشريفية الأولى ومن روابط الشمال الغربي العراقي (الموصل والأنبار) بسوريا وفلسطين وشرق الاردن. فثنى الفريق هذا بخلاف سياسي و”قومي” على خلاف اجتماعي قديم. ولكن الحسبان أن كثرة عوامل الخلاف ينبغي أن تؤول الى كثرة عوامل التماسك وتضافرها داخل السلك الواحد، في غير محله. ففي 1943، غداة عودة الوصي وإخفاق حركة رشيد علي كيلاني (وهذا “قناع” فريق من الضباط) وانقلاب ميزان القوة العسكري الدولي، فرّ 20 ألف جندي عراقي من الخدمة. وهم ثلثا العديد الذي بلغ يومها 30 ألفاً. وآذن تفكك الجيش بانهيار اجتماعي عام بدت طلائعه في اضطرابات كردستان، وفشو التضخم، وجفاف الترع في دجلة الاسفل وتعاظم الري بالمضخات، والامعان في انفراد مشايخ العشائر بالأرض وتردي حال الفلاحين…

محاكاة المفارقة

وحالُ الجيش ليست فريدة في بابها. ومسوغ تخصيصه ببعض التطويل هو دوره الظاهر والبارز في مراحل التاريخ العراقي الحديث كلها، من الدور المملوكي الى تولي نوري المالكي اليوم، الى رئاسة الحكومة، أي الدولة في الدستور العراقي الجديد، وزارتي الدفاع والداخلية بالوكالة منذ نيف وسنة على تأليف الحكومة الائتلافية بعد انتخابات 2010 المزعومة حاسمة. وبين الدورين الانقلاب على الملكية، ثم الانقلاب على الانقلاب فيما يشبه حرباً أهلية دابة ومتطاولة لم تنفك تتخلل فصول التاريخ العراقي في نصف القرن الاخير، وتجيِّش الطوائف والمذاهب والأقوام والعشائر و”المحافظات” أو الأقاليم والمناطق والأسلاك والأحزاب والطبقات. ولا تبين حال الجيش من احوال أسلاك وأجسام ومؤسسات الدولة الوطنية الأخرى وأبنيتها، شأن القضاء (استقلال الملل والمذاهب وقتاً طويلاً بأحكام أحوالها الشخصية، “دساتير” الأحياء الجنائية وقوانين السواني العشائرية في الديرات والمدن بعد عقود من الاستقرار في المدن…)، أو التعليم وتنازعه بين ثقافة رسمية موحدة وفقيرة وبين روافد أهلية و”شعبية” قصصية (أسطورية) وصورية محافظة وجامدة.

وعلى هذا، فأركان الدولة العراقية و”مداميكها الفولاذية” المفترضة على قول القنصل أمير الجيوش فالامبراطور الفاتح نابوليون في الجيش والبوليس والقضاء والادارات والتعليم وفصل الكنيسة من الدولة، وهو داعية “استقلال” الدولة عن المجتمع وجماعاته الأهلية والطبقية ومنازعاتها- الاركان هذه ضعيفة المناعة والحصانة وهي من فعل الجماعات المتفرقة وتأثيرها ونازعها الى التفتيت. ولعل حنا بطاطو أكثر الباحثين حدة نظر في تمييز الفروق الاجتماعية التي تجاذبت مجتمعات الجماعات العربية المشرقية. وجرت عليه حدة نظره التهمة الاستخبارية والبوليسية، والذريعة التافهة هي توسله تقارير الموظفين البريطانيين. واتفق صدور كتابه الكبير الاول، في 1978 (في اعقاب بحث وتقص دؤوبين داما ربع قرن)، مع نشر “بيان”الفلسطيني الآخر ادوارد سعيد في “الاستشراق”. واستقبل الكتاب الفاحص و”البيان” الخفيف على نحوين وشيا، ولا يزالان يشيان بتفاوت عميق في نوازع “الثقافة” العربية العقلانية والاجتماعية التاريخية، وفي الطاقة على احتمال الفحص الناقد في التواريخ الوطنية ونتائجها.

ولا يقتصر نظر بطاطو على احصاء الفروق وتعقب آثارها في (الحؤول دون) إرساء صروح الدولة على مداميك قوية تحصنها من التقلبات والانقسامات الاجتماعية الحادة. فينبه على تخندق الجماعات داخل أسوار منيعة وسميكة تحول دون تخليص الجماعات قواسم مشتركة، لا مناص منها في بناء دوائر عمل ونظر و”تجارة” (مبادلة) متصلة، على نحو ما ينبه الى تناقض السياسات، البريطانية والملكية وسياسة الطبقات المسيطرة والحزبية “الشعبية”، الساعية في انشاء الدولة. وعلى سبيل المثل، يحمل الكتاب الشقاق المدني/ العشائري- أي الخلاف بين عمرانين ومعاشين وميزاني معايير وأحكام ينجم عن (الخلاف) حصار العشائر المدنَ، وقطع طرق أهلها منها وإليها، ونهب تجاراتهم وتجويعهم، على قدر ما ينجم عنه استدخال العشائر وأهل الزرع منهم المدن بالهجرة والاقامة في “مدن” عشوائية تضرب على المدن حصاراً لا يقل قسوة وإحكاماً عن حصار العشائر من قبل يحمله على عامل أساسي في المنازعات الاجتماعية والسياسية والثقافية الوطنية. وهو شأن عوامل أخرى مثل الشقاق المذهبي والأقوامي والاقليمي المحلي والعشائري والمرتبي الطبقي. وعلى رغم ثبات وجوه الشقاق هذه، واتصالها الزمني، يتناول بطاطو أطوارها وتحولاتها، قوة وضعفاً وترجحاً. فليس الشقاق المدني/العشائري بعد سن الاحتلال البريطاني أنظمة التحكيم في المنازعات العشائرية (1925)، وإقراره تقديم الأعراف العشائرية المتفرقة على قوانين القضاء المشتركة، هو نفسه قبل سنها.

فالأنظمة الجديدة لم تثبِّت الشقاق على حاله، بل قوته ورفدت سيطرة شيوخ العشائر على أهل عشائرهم بروافد جديدة ليست من نسيج السيطرة السابقة: فالمشايخ “الجدد” هم أسياد الأرض قانوناً، وفي وسعهم بعد ضم المشاعات بيعها وشراؤها وجمعها وتبديدها، وتقييد الزراع بإجارتها وجبايتها، ومقايضة اقتراع المزارعين بقيمة الإجارة وتعجيل الجباية أو تأخيرها. فلا يركن التأريخ الاجتماعي إلى “بنيوية” العوامل، ولا يصدق اقامتها على حال واحدة. ولكنه لا يغفل كذلك عن سعي الجماعات في تأبيد هوياتها المتفرقة. فالعشيرة الدموية والنسبية لا تتبدد لحمتها تحت وطأة الهجرة الداخلية والتفاوت المرتبي والطبقي المتعاظم وغلبة العوائد النقدية السوقية على المداخيل. فالرابطة العتيدة، ويُقوي لحمتها المذهبُ الديني ومعمموه ومساجده، هي “دواء” كثير من العلل الاجتماعية الناجمة عن عوامل التفريق والمنازعة: فالزواج يمتنع في اطار اقتصاد سوقي وسلعي ونقدي (على هذا القدر أو ذاك) من غير طريق الأهل، والاقامة في المدينة كذلك، ومثلهما العمل أو بعضه، وبعض المؤونة من طعام ولباس… فما يطرأ ويجد، ويقتضي ربما روابط وخلافات من نمط جديد، تستجيب الأبنية الموروثة في حلة جديدة بعض مترتباته ومقتضياته.

و”تجاوزُ” الباحث هذه الأبنية، على خلاف موجبات أو دواعي التقصي التاريخي المتنبه الى المنازعات وصورها وأزمانها وأوقاتها ومضامينها، باسم تاريخانية مبدئية ومنهجية، يغفل عن “مقاصد” المجتمعات المضمرة، وعن سياقتها (أو سوقها) حوادث تاريخها صوب غايات دون أخرى، وليس على الباحث البت فيها، ونصب ميزانها. فإنشاء “المجتمع” العراقي خنادق وأسواراً من طينة النسب الدموي والقومي والاعتقاد الديني والتديّر البلداني والاقليمي، وتسويره جماعاته وأفراده بها، ليس ثباتاً أو تحجراً أعمى على أبنية “مؤبدة”، عفواً أو عمداً. فالأنساب والاقوام والمعتقدات والبلدان أركان الاجتماع، وقوتها على الزمن وتقادمه في بلاد ما بين النهرين ليست ثمرة ملاحظة تميل مع الهوى. وتقديم الجماعات العراقية هذه الأركان على عوامل تحول أخرى، وتحويرها احتساباً للعوامل الطارئة، “يقصد” بهما مدافعة نصاب الدولة السياسية “المفارقة”، وتقييد مفاعيله الهائلة في لحمات الجماعات وتحطيمها في سبيل “استخراج” الأفراد منها وصناعتهم، ونصب معايير الائتلاف والخلاف، وأحكام العمل والاعتقاد، والأبنية الاجتماعية والسياسية والثقافية بناء على المعيار الجديد.

وهذا ما تتردد على عتبته الحركات الوطنية والمدنية الديموقراطية الجديدة، وتدخل دائرتَه متلعثمة وظهرها إليه. وهو معين مقاومة أنظمة الاستبداد، الصلبة أو الرخوة. فالاستبداد، على صوره العراقية (السعيدية والقاسمية والصدامية، والمالكية؟)، والسورية (الاسدية) والليبية (القذافية) والمصرية (الناصرية والمباركية)، صاغ الدولة الجديدة واللازمة، على ما تقدم القول، على مثال يجمع مدافعة الدولة، ورفض مفارقتها الجماعات وانفصالها منها، الى احتساب العوامل الاقتصادية والتقنية والنفسية “الجديدة”. ولعل انكفاء الحكام الطغاة، وجماعاتهم المذهبية أو العشائرية الاقليمية (على المثال القذافي) والعصبية المصلحية المولَّدة (على مثال مبارك) والقومية العامية (على المثال الناصري)، على عصبية أهلية و”مقاومة” مناوئة “للامبريالية”- والرأسمالية والليبرالية والديموقراطية المدنية و”الأنوار” الفردية والعقلانية معاً لعل الانكفاء هذا قرينة على رفض التجريد والعموم السياسيين والحقوقيين اللذين تفرضهما الدولة المحدثة. ولا يسع الدولة، والحال هذه، وهي حال محافظة جماعات المجتمع على خنادقها وأسوارها، الاضطلاع بوحدة مجتمع الجماعات الوطني إلا من خارج هذه الجماعات و”فوقها”، ومن طريق تحاجزها، ومحاكاة وظائف الدولة الادارية والاجتماعية محاكاة صورية، على ما تختبر الحركات الوطنية والمدنية في أرجاء العالم العربي كل يوم.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى