صفحات سورية

دولة العصابة 41: كابوس السلام


أحمد الشامي

في افتتاح دورة مجلس الشعب المصري في 1977، وفي جلسة شهيرة أعلن السادات استعداده للذهاب للقدس بل والكنيست الإسرائيلي ، وقال : “ستُدهش إسرائيل عندما تسمعني أقول الآن أمامكم إنني مستعد أن أذهب إلى بيتهم، إلى الكنيست ذاته ومناقشتهم “. انهالت عاصفة من التصفيق من أعضاء المجلس ، ولم يكن هذا الهتاف والتصفيق يعني أنهم يعتقدون أنه يريد الذهاب فعلا إلى القدس.

لكن السادات كان يعني تماماً ما يقول وكان قد أجرى اتصالات عدة عبر تشاوشيسكو رئيس رومانيا حينها و ملك المغرب الحسن الثاني. هذه الاتصالات توجت بلقاء بين “حسن التهامي ” نائب رئيس الوزراء المصري وموشي دايان في المغرب بوساطة الملك المغربي. كل من اتصل بهم السادات أكدوا له : ” أن بيغن هو صهيوني قح ، لكنه رجل سلام ويريد دخول التاريخ كالرجل الذي قام بترسيخ وجود إسرائيل وضمان أمنها “.

السادات الذي كان يواجه أزمة اقتصادية خانقة في مصر توجه قبل خطابه هذا إلى دول الخليج العربي في زيارة تهدف للحصول على مساعدات مالية بهدف إخراج مصر من أزمتها. السادات كان مقتنعاً أن دول الخليج التي كانت تبيع نفطها بأبخس الأسعار قبل حرب تشرين، قد استفادت كثيراً من الأزمة النفطية التي صاحبت الحرب وضاعفت أسعار البترول عدة مرات. الخليجيون ساهموا بالقليل من المال ولم يعانوا من ويلات الحروب وفي النهاية خرجت الدول النفطية كالرابح الأكبر من الحرب ومن وقف ضخ النفط الذي صاحب المعارك.

المصريون من جهتهم ضحوا بالغالي والرخيص وقدموا أرواحهم ودماءهم وكانت النتيجة تدمير اقتصادهم وٳفقار الشعب المصري. السادات كان مقتنعاً وعن حق بأن مصر ضحت بالكثير من أجل العرب وأنها تستحق الحصول على جزء من الكعكة الاقتصادية النفطية ومن الثروات الهاطلة فجأة على عرب الخليج.

حسب بعض ألسنة السوء فإن السادات سمع بأذنه، أثناء زيارته تلك لدول الخليج ، بعض مستقبليه من عرب النفط يتهامسون “ها قد جاء الشحاذ…”. السادات أتم زيارته دون تعليق على الحادثة. حين عودته لمصر وفي طائرته الرئاسية كان قد اتخذ قراره النهائي : سوف يذهب إلى القدس المحتلة “ولن يعود ليشحذ ثمناً للدماء المصرية التي سالت في سبيل العروبة…” بحسب ما صرح لأحد أصدقائه.

بالنسبة لإسرائيل، كانت الصفقة التي عرضها السادات علناً ممتازة فهي تعني نهاية حالة الحرب مع الدولة العربية الوحيدة القادرة على مقارعة إسرائيل. خروج مصر من معسكر المواجهة كان يعني عملياً نهاية الصراع العربي الإسرائيلي. الثمن لم يكن باهظاً وعودة سيناء إلى السيادة المصرية كانت تعني خفضاً هائلاً في نفقات الجيش الإسرائيلي الذي كان مضطراً لحراسة حدود سيناء، ولمراقبة كل شاردة وواردة فيها ، على عكس الحال في  هضبة الجولان حيث يتولى الأسد وجنوده ضمان أمن إسرائيل مجاناً.

أنور السادات الذي ورث الحكم في مصر بعد عبد الناصر كان نقيضاً لسلفه في كل شيء. في حين كان عبد الناصر رجلاً عاطفياً يتمتع بكاريزما شخصية وبالتجاوب مع “نبض الجماهير الهادرة ” كان السادات عقلانياً بارداً و يحسب كل خطوة قبل القيام بها. السادات اعتبر أن السياسة العربية لمصر يجب أن تخدم المصالح المصرية أولاً مع حفظ مظاهر التضامن العربي بما يخدم استمرار القيادة المصرية للعالم العربي. مبدأ السادات هو “من لا يستطيع ٳفادتك لا يستطيع الاضرار بك “. ما دام لا فائدة من العرب ، مثل السوفييت قبلهم ، فليذهب لأمريكا وإسرائيل بحثاً عن مصلحته ومصلحة مصر.

لم يصدق اﻷسد أذنيه حين سمع أن السادات ينوي التوجه ٳلى القدس المحتلة عارضاً السلام على ٳسرائيل…

السادات الذي حافظ على علاقاته مع نظام حافظ الأسد “استشار” هذا الأخير في شأن إجراء مباحثات مباشرة مع إسرائيل. الأسد رفض بشكل قاطع أي اتصال مباشر مع “العدو الصهيوني ” واعتبر القضية على أنها مبدأ لا حياد عنه وربما كان مشككاً في جدية السادات.

السادات كان خير من فهم دوافع اﻷسد ومراميه السياسية وتعامل معه على أساس أن اﻷخير “أفاق ” لا أمان له ولم يرد أن يرهن مصيره بمغامرات الأسد وطموحاته. هذا يفسر “المقالب ” التي نصبها كل منهما للآخر.

بالمحصلة، تصرف الاثنان كزعيمي عصابة يتنافسان على من يكسب أكثر ومن منهما يستطيع التقرب أكثر من الأمريكيين. الفرق هو أن السادات كان أقل نرجسية وشراً من اﻷسد بما لا يقاس. السادات وضع مصالحه الشخصية بعد مصلحة مصر على عكس ما فعل اﻷسد الذي خطط منذ بداية حكمه لتأسيس سلالة حاكمة و لمصادرة البلاد والعباد لصالح شخصه وعائلته.

منذ حرب تشرين التحريكية ، رفض السادات التضحية بالمزيد من الجنود المصريين بهدف التغطية على سوء ٳدارة الأسد للمعارك في الجولان وعجزه الفاضح عن الدفاع عن اﻷراضي التي كان قد حررها. السادات كان يدرك أن اﻷسد يريد تحسين موقعه التفاوضي المقبل مع ٳسرائيل وتقاسم النفوذ معها لصالح شخصه ولم يرد تسهيل الأمر على الأسد أو مد يد العون له، ثأراً من “الخيانة” البعثية لمصر في حزيران 1967. من يومها لم يعد الأسد يثق بالسادات.

 لنتذكر أن اﻷسد نجا حينها بفضل “بعد نظر ” كيسنجر الذي أنقذه من “البهدلة ” التي كانت ٳسرائيل تعدها له.

بسبب شكه في دوافع السادات كان اﻷسد واثقاً من أن في اﻷمر خديعة ! خاصة حين قدم السادات شخصياً ٳلى دمشق “ليخبره بنيته زيارة القدس المحتلة ” وليطلب منه “أن يرافقه في رحلة السلام كما رافقه في الحرب “.

احتار اﻷسد ماذا يفعل ؟! هل يرافق السادات ٳلى القدس ويحرج هذا اﻷخير وٳسرائيل معه ؟  هل يحتجز السادات في دمشق ويمنعه من السفر ٳلى ٳسرائيل ؟ أم أن عليه أن لا يفعل شيئاً ويبقى محافظاً على خطاب الممانعة والصمود الفارغ والذي جلب له كل الخير ؟

السادات تمكن من خداع الأسد وإقناعه أنه كان يريد منه فعلاً أن يرافقه ٳلى القدس المحتلة وأنه قدم للضغط عليه فالسادات لم يكن يحتاج للقدوم لدمشق من أجل ” مجرد ٳعلام اﻷسد بقراره “.

اﻷسد ظن أن الرئيس المصري أتى لدمشق كي يلوي ذراعه ويفرض عليه القدوم معه للقدس بغرض أن يبيعه مرة ثانية ﻹسرائيل….

من المؤكد أن اﻷسد كان يشتهي رد الصاع صاعين للسادات واحتجازه أو قتله في دمشق “ﻷنه خرب عليه صنعة الممانعة “. لكن ذلك لم يكن وارداً بالنسبة للأسد لأن هكذا خطوة ستكون فيها نهاية لنظامه. اﻷسد الذي خشي من مقلب ساداتي جديد رفض الذهاب مع السادات ٳلى القدس وأنشأ فيما بعد “جبهة الصمود والتصدي ” التي ستبيع تجارة الممانعة لكل راغب.

اﻷسد كان مخطئاً على طول الخط ، فمقلب السادات كان موجوداً فعلاً ولكن هدف السادات من زيارة دمشق كان منع اﻷسد من المزاودة عليه ٳسرائيلياً أو أمريكياً. السادات كان يخشى أن يأتي اﻷسد معه ٳلى القدس المحتلة !

السادات كان يعرف أن فرصته الأفضل في استعادة سيناء هي في حل منفرد لا يشمل لا اﻷراضي الفلسطينية ولا الجولان. بالنسبة ﻹسرائيل : الضفة الغربية وغزة (حينها) هي جزء من أرض ٳسرائيل التاريخية ولا تنازل عنها. أما الجولان فالسادات كان يدرك تماماً أن لا مصلحة ﻹسرائيل في الانسحاب منه.

على عكس سيناء التي كانت عبئاً عسكريا وجغرافياً مكلفاً على ٳسرائيل، الجولان تم تسليمه على المضمون ومجاناً ﻹسرائيل مع ضمان استمرار احتلالها له وحراسة هذا الاحتلال بحراب اﻷسد. كانت ﻹسرائيل مصلحة في التخلص من الكابوس المصري بأي ثمن وعدم ٳضاعة جهودها في حراسة احتلالها لسيناء.

لو كان اﻷسد ذهب مع السادات ٳلى ٳسرائيل لكان أحرج نفسه وأحرج ٳسرائيل وكانت النتيجة ستكون فشل مبادرة السادات. حكومة بيغن لم تكن قادرة ولا راغبة في الانسحاب من كل الأراضي العربية ولا هي كانت راغبة في سلام شامل. السادات بمبادرته العلنية أحرج إسرائيل وحكومتها أمام شعبها والعالم وفرض عليها صفقة رابحة لمصر ولإسرائيل ، هذه الصفقة استثنت كل العرب و خربطت أوراق الأسد.

 لهذا السبب فعل السادات كل ما في وسعه لكي لا يطالب بسلام شامل ولكي لا يأتي اﻷسد معه ٳلى الكنيست اﻹسرائيلي.

لم يكن السادات بحاجة لبذل الكثير من الجهد كي يبقى اﻷسد “ممانعاً ” فصاحبنا كان منهمكاً في بناء إمبراطورية النهب في سوريا وفي جني ثمار غزوته اللبنانية واحتكاره ﻷوراق المقاومة اللبنانية والفلسطينية. اﻷسد كان قد وضع اﻷسس لمملكة الصمت اﻷسدية وأمن مستلزمات استمراره في الحكم ٳلى ما شاء الله.

اﻷسد لم يكن يريد ، وخليفته بعده لا يريد ، التوصل ٳلى اتفاقية سلام بأي شكل من اﻷشكال مع ٳسرائيل، ليس فقط ﻷن السلام سيجعل من نظامه خارج حركة التاريخ ولكن ﻷن لديه ما هو أفضل من اتفاقية سلام : لديه اتفاق فصل قوات يضمن له حكم سوريا بشكل أبدي، ما دامت ٳسرائيل تحتل الجولان وما دامت ٳسرائيل اللاعب اﻷقوى في الساحة اﻹقليمية وخاصة ما دامت ٳسرائيل نظاماً عنصرياً رافضاً للسلام وللآخر بامتياز.

أي اتفاقية سلام كانت سوف تمر أمام الكنيست اﻹسرائيلي وسيصعب تمرير الملاحق الخاصة باستمرار حكم آل اﻷسد في ظل اتفاقية بين دولتين. النواب اﻹسرائيليون و الراعي الدولي للاتفاق سوف يطرحون التساؤل المشروع حول مصير الاتفاقية ٳن سقط حكم اﻷسد أو انهار لسبب أو لآخر؟ اتفاقية سلام تحتاج لدولة مؤسسات تحترم التزاماتها بغض النظر عن شخص الحاكم. هذا اﻷمر كان متوفراً من حيث المبدأ في مصر. لكن اﻷسد كان رافضاً تماماً ﻷي شكل من الحكم المؤسساتي سوف يحد من طموحاته ويجعل من الصعب تحويل سوريا إلى مزرعة للأسد وعائلته.

لكي يكون طرحنا منطقياً ، فاﻷسد نفسه ربما ما كان يعتقد أن حكمه سوف يدوم لثلاثة عقود وأنه سوف يتمكن من توريث اﻷسد الصغير. لكنه حين كان يأخذ أي قرار كان يفعل كل ما يلزم ﻹدامة حكمه وسطوته وليذهب الشعب والبلاد ٳلى الجحيم. السادات على عيوبه الكثيرة كان له من الضمير ما سمح له بأخذ مصالح شعبه وبلده بعين الاعتبار “وليذهب اﻷسد والسوريون والعرب حيث يشاؤون…”.

في السادس من اكتوبر 1981 ولدى حضوره عرضاً عسكرياً بمناسبة الحرب، قضى أنور السادات تحت رصاص “خالد الاسلامبولي ” بحجة أن السادات “الرئيس المؤمن”  قام باضطهاد اﻹسلاميين وحبسهم !

حينها تنفس اﻷسد الصعداء وأيقن أنه قد اتخذ القرار المناسب لشخصه والذي “مد في عمره “.

هكذا انضم السادات ٳلى العشرات من الساسة العرب الذين غابوا عن الدنيا قتلاً أو في ظروف غامضة ، في حين امتدت أعمار آخرين رغم سفكهم لدماء الآلاف من أبناء شعبهم….

أحمد الشامي  http://www.elaphblog.com/shamblog

ahmadshami29@yahoo.com

نشرت في العدد الثلاثين من “حـريـــــــــــــات ” ، الجريدة الأسبوعية المستقلة للثورة السورية ، والذي صدر الاثنين في الثاني عشر من آذار  2012.

 http://www.syrian-hurriyat.com/issues/Hurriyat_issue30.pdf

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى