صفحات الرأي

دولة العلويين/ محمود الزيباوي

أعاد الصراع الدموي المتواصل في سوريا إلى الذاكرة “دولة العلويين” التي ظهرت أيام الانتداب الفرنسي واندثرت مع استقلال سوريا، وتردد الحديث عن مشروع “إقامة كيان مستقل في الجبل والساحل الشمالي الغربي، تجنباً لخياري النفي أو الموت”، في حال هزيمة النظام. في تقرير لوكالة “فرانس برس”، رأى مدير مجموعة البحوث حول البحر المتوسط والشرق الاوسط في مدينة ليون الفرنسية فابريس بلانش انه “إذا زادت حدة الصراع، فإن مصير سوريا قد يكون كمصير يوغوسلافيا، حيث انه قد تكون هناك دويلة علوية، عاصمتها اللاذقية”. وقال مدير الدراسات العربية في المعهد الفرنسي للشرق الادنى برونو باولي في بيروت “إنّ النظام قد يجد نفسه مضطرا للانطواء على نفسه في المنطقة الساحلية بهدف خلق كيان مستقل”.

تحت عنوان “مدخل إلى المذهب العلوي النصيري”، نشر الباحث السوري جعفر الكنج الدندشي في عام 2000 كتاباً عرض فيه تاريخ هذه الجماعة بوجهيه الديني والمدني. أهدى الباحث كتابه “الى شعبنا العربي، على أمل أن يجد وحدته العربية الضائعة”، ومهّد له بمقدمة تختزل صعوبة الولوج في هذا التاريخ الشائك. رأى الكاتب أن الكتب الخاصة بتاريخ العلويين تعبّر عن ثلاثة اتجاهات، وسعى إلى التعريف بهذه الاتجاهات بكثير من اللباقة. يغلب منطق الدفاع عن العلويين في الاتجاه الأول، وأبرز ممثليه محمد غالب الطويل، مؤلف “تاريخ العلويين” الذي طُبع في اللاذقية عام 1924، في زمن “دولة العلويين”، أيام الانتداب الفرنسي، وبعده هاشم عثمان، صاحب كتاب “العلويون بين الأسطورة والحقيقة” الصادر في بيروت عام 1985، ومنير الشريف الذي أصدر بعد تسع سنوات “المسلمون العلويون، من هم وأين هم”. يعتمد الاتجاه الثاني “التهجّم على النصيرية”، وتعبّر عنه بشكل خاص ثلاثة كتب صدرت في عام 1980 بأسماء مستعارة كما يبدو، “العلويون أو النصيرية” لعبد الحسين المهدي العسكري، “الجذور التاريخية للنصيرية العلوية” لعبد الله الحسيني، و”العلويون النصيريون بحث في العقيدة والتاريخ” لأبي موسى الحريري. يبقى الاتجاه الثالث، وهو الاتجاه الذي يلتزم “المنهجية العلمية كسبيل للبحث”، ويمثله بحّاثة لا نجد “بينهم أي كاتب باللغة العربية”، في مقدمهم رينه دوسو الذي أصدر في مطلع القرن العشرين دراسة تاريخية عنوانها “تاريخ النصيريين ودينهم”، جاك فوليرس، مؤلف “بلاد العلويين”، الصادر عن “المعهد الفرنسي في دمشق” عام 1940، ومنير مشابك موسى الذي انجز في باريس عام 1958 أطروحة في علم الاجتماع “عن العلوية النصيرية”.

التاريخ المحرّم

شرع جعفر الكنج الدندشي في دراسة تاريخ العلويين في نهاية 1979، يوم بدأ في إعداد أطروحته الجامعية، وعنوانها “الإسماعيليون والنصيريون العلويون والدروز في سوريا، البنية الاجتماعية والتاريخ”. اكتشف الباحث أن “قلة قليلة من كبار رجال الدين في الطائفة العلوية النصيرية يعرفون أصول معتقدات مذهبهم، حيث أن الجانب الباطني لا يمتّ بأدنى صلة إلى الجانب الظاهر”، وعرف أن هذا النوع من الدراسات يظل مقيداً بقيود يصعب فكّها، نظرا إلى الحساسيات الذي يثيرها. كتب البعض عن النصيريين بدافع “روح الانتقام”، وكتب البعض الآخر بدافع “البحث عن إسناد البراءة من ذنب اتّهموا به”، وكتب فريق ثالث “بنظرة اصحاب الدراسات الغربية عن المشرق”. على رغم ذلك، ظلّ موضوع العلويين محرّماً، ولم يدخل نطاق دراسات تاريخ الأديان في بلادنا إلى يومنا هذا. حدّد الكاتب الأسباب التي تمنع إدراج هذا النوع من الدراسات ضمن مادة تاريخ الأديان، وأضاف معلّقاً بحسرة: “كنا ولا زلنا لا نجرؤ على مواجهة أنفسنا بواقعنا”، “نخاف من أنفسنا على أنفسنا، ونخاف من بعضنا على بعضنا الآخر، نخاف من تطرفنا وتعصبنا الذي يكمن في ذواتنا، نحاول أن نخفي جميع هذه الأحاسيس والانفعالات وهي تعيش معنا كأنفاسنا”، و”ندخل الى دراسة مواضيع كهذه ليس من الأبواب، إنما ندخلها كاللصوص، ندخل من كوة أو من نافذة في غلسة الظلام”. تختصر هذه الكلمات، الإشكالية التي تثيرها دراسة المذاهب الباطنية التي خرجت من كنف الإسلام، وتعبّر عن المأزق الذي يعيشه كل باحث عربي يرغب في دخول هذا العالم المغلق الذي بقي حكرا على بضعة من أهل الاختصاص العاملين بعيداً من دائرة الإعلام العام بفروعها المتعددة.

في الجزء التاني من كتابه “مذاهب الإسلاميين”، تناول عبد الرحمن بدوي “النصيرية” في فصل خاص يشكّل مدخلاً للتعرف إلى هذا المذهب، ويمكن القول إن اختزال هذا المدخل في بضعة سطور ليس بالأمر الهيّن. نجد في كتب التراث إشارات حول النصيرية وأتباعها في كتب وضعها مؤلفون لا ينتمون إلى هذا المذهب، وهم في أغلب الأحيان من مناوئيه الأشداء. في الطرف المعاكس، نقع على نصوص نصيرية منسية أخرجها من الظلمة عدد من كبار المستشرقين بين منتصف القرن التاسع عشر والعقود الأولى من القرن العشرين. عُرف النصيريون بهذا الاسم على مرّ العصور، ولم يُعرفوا باسم العلويين إلا بعد 1920، في ظل الانتداب الفرنسي، وبطلب منهم، كما لاحظ جعفر الكنج الدندشي، وهو الاسم الذي يُعرَفون به اليوم. عام 1848، أرسل المستشرق جوزف غاتافاكو إلى محرر “المجلة الآسيوية” الفرنسية رسالة ذكر فيها عناوين أربعين كتاباً من كتب النصيريين، وبدأ الباحثون في البحث عن هذه الكتب ودراستها منذ ذلك التاريخ إلى يومنا هذا. كان رينه دوسو أول من شرع في دراسة هذه الكتب بشكل معمق، وتبعه لويس ماسينيون في فرنسا، ورودولف شتروتمان في المانيا، وعرف المثقفون العرب بهذه الدراسات بعد عقود من طريق عبد الرحمن بدوي الذي اعتمدها في كتابه المذكور.

تختلف الآراء في تحديد مكانة النصيرية في كنف الإسلام. يجمع أهل الاختصاص على اعتبارها مذهباً باطنياً يرفضه الإسلام السني كما يرفضه الإسلام الشيعي الإمامي الإثنا عشري، ويستند هذا الرأي إلى كتابات تعود إلى أبرز أعلام أئمة الفريقين. في الطرف المعاكس، نرى من يدافع عن إسلام العلويين ويشدد على ضمّهم إلى هذه العائلة، على رغم كل ما قيل في هذا الشأن، “قالباً وكمّاً وكيفاً”. في كتابه “خطط الشام”، توقف محمد كرد علي أمام ما نقله القلقشندي في هذا الشأن، في موسوعته “صبح الأعشى في صناعة الإنشا”، ناقلاً من خلاله الموقف السنّي التقليدي، كما توقف أمام آراء سليمان الأحمد، والد الشاعر بدوي الجبل، الذي نقض كل ما قيل في هذا الموضوع، وأنكر كل المصادر الأصلية. في كتابه “المسلمون العلويون”، سار منير الشريف على خطى سليمان الأحمد، واستشهد بفتوى أطلقها مفتي فلسطين المجاهد أمين الحسيني، ونشرتها صحيفة “الشعب” في دمشق في نهاية تموز 1936، مفادها “إن هؤلاء العلويين مسلمون، وإنه يجب على عامة المسلمين أن يتعاونوا معهم على البرّ والتقوى، ويتناهوا عن الإثم والعدوان، وأن يتناصروا جميعاً ويتضافروا ليكونوا قلباً واحداً في نصرة الدين ويداً واحدة في مصالح الدين، لأنهم إخوان في الملة، ولأن أصولهم في الدين واحدة، ومصالحهم في الدين مشتركة، ويجب على كلٍّ منهم بمقتضى الأخوة الاسلامية أن يحبّ للآخر ما يحب لنفسه، وبالله التوفيق”. في المعنى نفسه، حمل كتاب منير الشريف مقدمة من الإمام العراقي حسن مهدي الشيرازي تعلن ان العلويين “من شيعة أهل البيت الذين يتمتعون بصفاء الإخلاص، وبراءة الالتزام بالحق”، و”هم شيعة ينتمون إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب بالولاية، وبعضهم ينتمي إليه بالولاية والنسب”، و”ان العلويين والشيعة كلمتان مترادفتان مثل كلمتي الإمامية والجعفرية، فكل شيعي هو علوي العقيدة، وكل علوي هو شيعي المذهب”. بدوره، توقّف جعفر الكنج الدندشي أمام فتوى الشيخ أمين الحسينى، وقال إنها تهدف إلى “تخفيف حدة التنافر الطائفي بين المسلمين وتوحيد الكلمة بين جميع أبناء الأمة”، غير أنه لا يمكن وضعها “في حيّز الكتب العلمية”، بل “بين كتب المصلحين، وتلك الغاية مشكورة إذا أدت إلى نتيجة”. تجدر الإشارة هنا إلى أن الدولة السورية اعترفت للعلويين بأنهم شيعة إمامية من خلال المرسوم الرئاسي التشريعي رقم 3 لعام 1952، وقرار مفتي الجمهورية رقم 8 من العام نفسه. وساهم هذا الاعتراف بخروج العلويين من عزلتهم التاريخية التي فرضها الواقع السياسي والاجتماعي على مدى قرون من الزمن.

الصدى العلوي

نشرت صحيفة “الشعب” الدمشقية فتوى مفتي فلسطين في نهاية تموز 1936، يوم كانت سوريا تحارب في سبيل استقلالها ووحدتها. كما هو معروف، عمد الفرنسيون في أول عهد انتدابهم إلى تقسيم سوريا خمس دويلات، دولة دمشق، دولة حلب، دولة الاسكندرونة، دولة العلويين، ودولة جبل الدروز. ولدت دولة العلويين بقرار أصدره المفوض السامي الفرنسي في 23 أيلول 1920، وتألفت يومها من “لواء اللاذقية” العثماني الذي يضم أقضية صهيون وجبلة وبانياس، وقضاء حصن الأكراد وصافيتا من “لواء طرابلس”، وطرطوس ومصياف من أعمال حماه. بعد سبع سنوات، باتت هذه الدولة مؤلفة من سنجقين. ضم السنجق الأول اللاذقية، صهيون، جبلة، بانياس، ومصياف. وضمّ السنجق الآخر طرطوس وصافيتا وتل كلخ. تحولت دولة العلويين إلى حكومة اللاذقية في عام 1930، وضُمّت هذه الحكومة إلى حكومة دمشق في الخامس من كانون الأول 1936 بقرار موقّع من المفوض السامي للجمهورية الفرنسية، وذلك بعد ثلاثة أيام من صدور قرار يقضي بضمّ جبل الدروز. هكذا توحدت الدولة السورية الوليدة، وشملت كل المناطق التي تقع اليوم ضمن حدودها.

امتدت دولة العلويين من وادي النهر الكبير جنوباً، إلى النهر العاصي شرقاً وشمالاً، والبحر الأبيض المتوسط غرباً، وارتفع فيها علم أبيض تتوسطه شمس صفراء، وتحدّه أربع زوايا حمراء. لم تقتصر هذه الدولة على العلويين، فكان من سكانها سنّة ومسيحيون واسماعيليون. في تلك الحقبة، صدرت في اللاذقية صحف يومية عدة، منها “جريدة دولة العلويين” الرسمية، و”الصدى العلوي” التي عمل على إصدارها وتحريرها إبرهيم جمال، بمشاركة والده. قبل نشوء دولة العلويين، خاض صالح العلي قتالاً ضارياً ضد الفرنسيين في هذه الجبال، وواصل نضاله حتى عام 1921، وجعلت منه أول حكومة سورية مستقلة بطلاً قومياً. نجد في الصحافة السورية واللبنانية طائفة من الأخبار التي تشهد لرغبة جزء كبير من العلويين في الوحدة. في المقابل، نقع على أخبار تعبّر عن الرأي المعاكس، أشهرها وثيقة رفعها ستة من زعماء النصيرية إلى رئيس الحكومة الفرنسية ليون بلوم في منتصف عام 1936، ومطلعها: “ان الشعب العلوي الذي حافظ على استقلاله سنة فسنة، بكثير من الغيرة ومن التضحيات الكبيرة في النفوس، هو شعب يختلف بمعتقداته الدينية وعاداته وتاريخه عن الشعب المسلم السنّي، ولم يحدث في يوم من الأيام أن خضع لسلطة مدن الداخل”. حملت هذه الرسالة توقيع كلٍّ من عزيز آغا الهواش، محمد بك جنيد، سليمان المرشد، محمود آغا جديد، سليمان أسد، ومحمد سليمان الأحمد. وقد نشرها الباحث ستيفن همسلي لونغرينغ في كتاب عنوانه “تاريخ سوريا ولبنان تحت الانتداب” نقله الى العربية بيار عقل، ونشرته “دار الحقيقة” في بيروت عام 1974.

لم تعمّر دولة العلويين طويلاً، وصارت جزءاً من الدولة السورية في نهاية عام 1936. بعد مرور أكثر من نصف قرن، يعود الحديث عن قيام كيان علوي في ظل واقع ديموغرافي جغرافي مغاير تماماً. وفي حين يستمر مسلسل الحرب الضارية في أنحاء الدولة السورية، تتفكك هذه البلاد على أيدي ابنائها المتصارعين في حرب أهلية تزداد تأججاً، يوماً بعد يوم.

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى