حمزة المصطفىصفحات سورية

دولة داعش وابن خلدون/ حمزة المصطفى

 

 

أسقط الغزو الأميركي للعراق، عام 2003، نظام صدام الديكتاتوريّ، وأسقط معه الدولة القائمة والتي كانت، على علاتها الكثيرة، تجمع الناس تحت مظلتها، وتقيد العصبيات الفرعية السائدة منذ قرون. وشرع الاحتلال ببناء دولة أخرى على أساس أنتربولوجي، تعتمد مبدأ المحاصصة الطائفيّة، وتركّز على الهويات الفرعية ما قبل دولتية. أعاد دستور العراق عام 2005 الناس إلى أصولهم الأولى؛ عشائر، قبائل، طوائف، إثنيات لا رابط بينها إلى رابطة النسب، أو الحلف، أو النعرة، أو الأصل القديم، فتعدّدت العصبيات، ودخلت في تناحر وتنافس على الموارد، والغنيمة (الدولة).

كانت العشائر السنيّة البدوية/ أو الفلاحية الحلقة الأضعف في الخلل المجتمعي الذي تعمق، بعد الاحتلال، إذ وجدت نفسها خارج لعبة الدولة والحكم، فاصطدمت مع الاحتلال ومشروع الدولة الجديد، وأنشأت كل منها ذراعاً عسكرية لتحمي نفسها من خطر الإلغاء أو الإبادة، التي طغت بعد اندلاع الحرب الطائفية عام 2006.

كان تأسيس إمارة أو دولة إسلامية في العراق حلماً راود أبو مصعب الزرقاوي منذ تأسيس جماعة التوحيد والجهاد عام 2003، لكنه اصطدم برفض مبدئي من قيادة تنظيم القاعدة، والتي كانت تركز على البعد العالمي للجهاد، وقتال العدو البعيد (أميركا والغرب). ما كان ضرباً من الخيال أصبح واقعاً بعد مقتل الزرقاوي في 7 يونيو/ حزيران 2006، وتسلم أبو حمزة المهاجر (مصري الجنسية) قيادة التنظيم في العراق، إذ لم يكن من وسيلةٍ أمام الأمير المعين، والذي يعتبر غريبا عن البيئة الاجتماعية، للحفاظ على تنظيمه من التفكك التدريجي إلا بتأسيس دولة/ إمارة إسلامية وفق الطريقة الخلدونية؛ دولة قوامها عصبيات عشائريّة متعددة، تجمعها رابطة دينية/ طائفية، تتغلب إحدى هذه العصبيات على الأخرى فتسيد، وتحتكر الشرعية الدينية، وتؤمر من رجل ذي نسب عليها، وتحكم بالغلبة والقهر والاستبداد. وتستطيع هذه “الدولة” تحمل الضربات العسكريّة الأميركية، وتحتكر، في الوقت نفسه، المشهد السني/ القبلي، لا سيما بعد بروز فصائل عسكرية عدة (جيش الرافدين، كتائب العشرين)، انبثقت عن العصبيات القبلية السائدة.

لم يجد المهاجر أفضل من كتاب “إدارة التوحش: أخطر مرحلة تمر بها الأمة” لأبو بكر

“كانت أفكار ابن خلدون حاضرة عند تأسيس ما تسمى دولة العراق الإسلامية” ناجي، للمضي في تنفيذ هذا المشروع. أهميّة هذا الكتاب للجهاديين لا تنبع من حسمه مسألة الأولويات في قتال العدو القريب (الأنظمة) أو البعيد (الغرب)، بل تضمنه كيفية إقامة الحكم/ الدولة التي تعتبر “ذروة سنام الجهاد”. المفاجأة أن كاتبه استقى أفكاراً من مقدمة ابن خلدون عن نشوء الدول، وكيفية الفناء الحضاري، وحاول تكييفها مع المشروع الجهاديّ الراهن، فتعممت في الأدبيات الجهادية الراهنة مصطلحات تتشابه مع التي استخدمها ابن خلدون في مقدمته مثل؛ الجماعة المؤلفة (العصبية)، والولاء والبراء (الحلف والولاء)، الشوكة والتمكين (الغلبة/ التغلب)، الأمير القرشي (النسب الرفيع)، التوحش وإدارته (الأمم الوحشية ملكها أوسع).

يشرح ابن خلدون، في مقدمته، كيف أن الرئاسة لا تكون إلا بالغلب. والغلب إنما يكون بالعصبية، وأن رئاسة قوم أقواماً أخرى، تكون عندما تغلب عصبيتهم العصبيات الأخرى، لأن ” كل عصبية منهم إذا أحست بغلبة عصبة الرئيس لهم أقروا بالإذعان والاتباع”. ويركز ابن خلدون على البداوة سبيلاً للتغلب، لأن البدو أشد شجاعة، وأقدر على التغلب “وانتزاع ما في أيدي سواهم من الأمم”. وفي معرض تناوله الأمم الوحشية، أو المتوحشين، يذكر ابن خلدون أن ملكهم أوسع “وذلك لأنهم أقدر على التغلب والاستبداد واستعباد الطوائف الأخرى”. من جهة أخرى، يركز ابن خلدون على حاجة العصبية لرابطة دينية، لجعلها أشد وأقوى، وكذلك تؤمن وازعاً أخلاقياً، ويضرب على ذلك مثال العرب؛ فهم، في رأيه، لا يتغلبون إلا على البسائط، ويقاتلون بعضهم بعضاً، ويهربون من المواجهة الصعبة (امتحان تأسيس الدولة)، ويفرّون منها إلى تجمعاتهم بالقفر (الصحارى). لذلك، لا تؤسس لهم دولة إلا إذا وجدت فيهم ” النبوة” أو توافرت لهم “ولاية دينية”.

كانت أفكار ابن خلدون حاضرة عند تأسيس ما تسمى دولة العراق الإسلامية عام 2006، إذ أدرك أبو حمزة المهاجر صعوبة بقاء تنظيم القاعدة ذي التوجه العالمي في بيئة اجتماعية تضج بعصبياتٍ قبليّة متناثرة، فسعى بداية إلى توظيف الرابطة الدينية في جمعهم على هدف واحد، فأعلن عن تشكيل مجلس شورى المجاهدين مظلة تجمع الفصائل العسكرية المنبثقة عن العشائر العراقية السنية. لكن هذا المشروع لم ينجح في تطويع العشائر مشروع القاعدة، فبدأ التنظيم البحث عن عصبية تستطيع التغلب على العصبيات العشائرية، وتصهرها، فحل تنظيم القاعدة نفسه، وتنازل زعيمه المهاجر عن منصبه للعراقي حامد داود محمد خليل الزاوي الملقب بأبي عمر البغدادي (1959-2010)، والذي أعلن عن تأسيس دولة العراق الإسلامية، وخير العشائر بين الولاء أو الحرب.

جاء اختيار الزاوي أميراً لهذه الدولة “المتوحشة” من أنه ينتمي لعشيرة “البوبدري”، وهي إحدى أهم العشائر في منطقة سامراء، والتي تدّعي أن نسبها يعود إلى “قريش”، ليتمكن من إخضاع باقي العشائر عبر البيعة أو بالحرب. وقد استطاع الزاوي أن يؤسّس سلطة على حيز جغرافي واسع في العراق، وأن يخضع مجتمعات محلية عدة لما سماها “دولة العراق الإسلاميّة”، قبل أن تجتمع العشائر المتضررة على قتاله، بمساعدة القوات الأميركيّة. وخلال تلك المرحلة، كان قادة التنظيم يصرّون على أن البيعة تؤخذ بالتغلب والقوة، وأن نهج الإخضاع والإذعان ضروري لإقامة الدولة المبتغاة، ولربما يفسر هذا الهدف نهج التوحش والسادية والغلو الديني والعنف الذي يمارسه وقد يفسر أيضاً سلوكه البراغماتيّ وانتهازيته المفرطة. المفارقة أن التنظيم لجأ للأسلوب نفسه لتأسيس ما سماها الخلافة الإسلامية، بعد سقوط الموصل 10 يونيو/ حزيران 2014.

العربي الجديد

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى