صفحات الثقافةعبد الوهاب عزاوي

دونكيشوت الحميدية

    عبد الوهاب عزاوي

تعاودني منذ فترة، قصة قديمة سمعتها غير مرة عن مجنون يسير في سوق مزدحم بالنساء، “سوق الحميدية في روايتين”، وهو يرتدي قميصاً فقط، عضوه التناسلي ظاهرٌ ومنتصب بشدة. كان يسير بين النساء فحسب. لم تقل القصة، على تعدد الرواة وتعدد الأزمنة والأمكنة، إن المجنون حاول الاعتداء على أيٍّ من النساء. لم تؤكد أنه كان يراهنَّ فعلاً، إذ كان يكتفي بالسير بينهن مسرنماً كالنائم.

من السهل التعامل مع رد فعل النساء “التقليدي” المتوقع أو مع رد فعل المجتمع المحافظ، لكن الصعوبة (والإغراء) تكمن في التعامل مع الحكاية من وجهة نظر المجنون. لا بد من الانتباه إلى أن وصفه بالمجنون يأتي كبترٍ للحكاية إذ يضع سلوكه في حيز اللامنطق، أي أنه يقطع الطريق على كل تفسير لعالمه الداخلي “المجنون”.

أتخيّل سيل الأفكار والمشاعر التي تعبر رأسه وهو يسير بعضوه المنتصب في نهر النساء، والملامسات العرَضية (أو التصادمات) التي ستحصل بين مقدم سفينته وبحر النساء اللعوب، والتأوهات التي سيطلقنها بشبقٍ منفلت من أسره، وأنين الرغبة الداعر. المرأة عابرة في خياله، المرأة- الفكرة أو الحلم التي تشمل كل النساء اللواتي يرين عضوه ويصبن بالذعر، الذعر باعتباره أداة إغراء أزلية، الذعر باعتباره خفراً وحياءً يزيد من الإغراء.

أتخيل بطل الرواية يرفض تخيّل قدوم إحدى النساء إلى عضوه الفروسي من باب الإعجاب لتمارس الجنس، ذلك لا يتجاوز حدود البورنو الرخيص. لا، إنه يحرص على حياء النساء وعلى عموميتهن في لعبته. إنه يسير ناظراً إلى الأمام كفارسٍ مكلَّل بتاريخٍ طويل لفرسان مكللين بكبرياءٍ وهزيمة تزيد من جمالهم. إنه يكثف تاريخاً طويلاً من البطولة والغوايات والتأوهات والحب والشبق في عضوه العابر للتاريخ، عضوه الخارق للمجتمع والعادات والتقاليد، عضوه الذي يمس الريح فتفيق، ويدخل الظلام الطري لسوق الحميدية المسقوف فيشع. إنه رمح النصر المتبقي من هزائم عدة، يسير دون وعيٍ ودون التفاتٍ لأن ذلك جزء من فروسيته. أتخيله شبه غائبٍ عن الوعي ويحلم بطريقٍ لا ينتهي، وبنساء لا ينتهين، وبشهوةٍ تلتصق على جسده من شذى أجسادهن، من رعشة أثدائهن المختبئة، من الرطوبة التي تسيل على أفخاذهن في أوقات الأنين والوحدة، من فحيح الرغبة العميق والأزلي الذي يتقد، رغبةً في الجنس. الجنس باعتباره اجتماعاً مقدساً وليس فعلاً جسدياً رياضياً محضاً، وليس فعل حب بالضرورة.

الحكاية هنا لا علاقة لها بالحب. الجنس عند بطلنا فعل نشوة وغياب، فعلٌ يفوق صاحبه، يصبح نوعاً من العبادة القديمة، ومن الألوهة العابرة في الأشخاص. إنه سليل أولئك الذين كانوا يقطعون خصاهم ليخيطوا قلادة لآلهة الحب عشتار، لكنه يرفض أن يحوّل النشوة إلى فعلٍ باتر مؤلم. يجعلها رحلة في نهر الاشتهاء، يقف عند المراحل الواعدة والحالمة للجنس، بدايات الشهوة النقية والمخدوعة بقدرتها على الخلود، الجنس باعتباره حالة يتمنى صاحبها دوامها وتصاعدها قبل أن يخونه جسده وينهي هذه النشوة بذروة دراماتيكية يليها سقوط إلى الحياة الواقعية، إلى عالم الأحياء بكل ما يحمله من صفات متوقعة ومتناقضة.

أتخيّل بطلنا (بطلي) يسير متمتعاً بتراكم الشهوة، ولا أقدر أن أتخيّله يقذف مثلاً. لا، إنه يحرص على ألاّ يحدث ذلك لأنه يرغب في إطالة حدث الشهوة، وتسعيره وليس رميه إلى نهايته. هنا يأتي التناقض الإيروتيكي العذب. لذا يرفض أن ينجرّ إلى أفخاخ النساء المتراميات بخوفهن المغوي، فيسير مسرنماً، حالماً ومنفصلاً عن الواقع. يخلق زجاجاً وهمياً بينه وبينهن، كيلا تنكسر اللعبة بالتماس الموقظ. يسير بطلي دونكيشوتاً خارجاً عن الواقع في حربٍ متمهلة، لا أعداء فيها، لا جنّ ولا مردة، ولا آلهة. لم تعد دولينسيه رمز الحب وأجمل نساء الأرض، لقد باتت الهواء العابق بالشهوة، مجمل النساء الخفرات. الحكاية هنا، حكاية الشهوة لا الحب، قصة إيروتيكية بامتياز، ومع ذلك فهو يشبه الدونكيشوت بتفارقه مع الواقع ورفضه له من جانب، ومن جانبٍ آخر من زاوية احترامه للمرأة، بل تقديسها باعتبارها جزءاً من الطقس المقدس. إنه يحترمها ويحبها ولا يقصد أي إساءة بتعريضها لفيض الشهوة المقدس. إنه يتعبد وجودها، عطرها، صوت خلخالها، يتنشق الهواء العابر تحت الثياب، ويحلم، يحلم بوصلها. يدرك أن الحلم أجمل من تحقيقه، لذلك يضخمه، يجعله مستحيلاً.

لن يغيب عن القارئ اليقظ أن السوق يحوي رجالاً أيضاً، لكن وجودهم هنا عرضي، فائض، كتفصيلٍ مكمل في اللوحة يمكن تغييره أو حذفه ببساطة. إنهم كالشجرة البعيدة في منظر طبيعي يركّز على المرأة الجميلة في الحديقة. لم يفكر فيهم حتى كأعداء، لسبب بسيط أن شهوته لا تسمح بفرض تفاصيل مشوشة، والأهم أنه لا يسيء إلى أحد، لا يصارع أحداً.

لا أريد أن أعرف كيف انتهت الحكاية، والحق يقال إن أياً من الرواة لم يذكر ذلك، لأنهم يقفون عند حدّ الغرابة، أو الجنون كما تفرض قوانين العالم المريض، يسهون عن جوهر الحكاية الغامض وعذوبة الجنس الطاغية فيها، تقديس المرأة والتضحية لأجلها، بصمت، وتواضع. أفكر أحياناً في الأحلام التي قد تراود بعض النسوة في ليلة الحكاية. لا أجد الخوف منطقياً، لأن البطل لم يمسس إحداهن بسوء، لم ينظر إليهن، ولعله لو نظر إلى إحداهن لأصابها شيء من الفرح، أن ينتقيها من بين كل النساء، أن تكون محط إعجاب.

أعلم أن استطرادي الأخير فيه الكثير من الشطط، لكن من الجميل أن نعلم أن بعض الحكايات العذبة قادرة على الاستمرار، على العدوى. أستطيع تخيل إحدى النساء في السوق لم تشعر بالخوف من هذا الحالم، ولنقل إن تركيزها انصبّ في الدرجة الأولى على العضو المنتصب، فضول مخلوط بخرق المحرم، والتبس الأمر عليها لأنها لم تستطع أن تفسر ملامح الرجل إلا بالحزن. قد تكون مسّتها حيرة من موقفها تجاهه، لكن هناك شيء من الشفقة أكثر حضوراً من سواه، شفقة على الرجل ليس لأنه مجنون بل من وطأة ما يحس به. انتصاب عضوه هنا دلالة على اتقاد الرغبة الممضة. فكرت في أنها المرة الأولى ترى فيها عضواً منتصباً لرجل بالغ. ستفكر حتماً في التغيرات التي تحدث على أعضاء الأطفال ولن تقدر أن تهرب من مقارنته بأعضاء الأطفال الذكورية المحببة. أكثر ما سيزعجها حيرتها أمام المشهد المفاجئ، ستحس أنها مطالبة بتفسير ما، لكنها ستكون عاجزة. ستكتفي بالإحساس الغامض بالشهوة الطاغية لدى الرجل، الشهوة الموصلة إلى “الجنون”.

أستطيع أن أتخيل طفلة ما تسير مع أمّها، ستستغرب المشهد بالتأكيد ولكنها قد تستغرب رد فعل أمّها أكثر. لن تفهم سبب التوتر الحاد والشروع في الهرب من شيء يبدو غريباً لكنه ليس مثيراً للرعب. ستفكر في الشيء البارز وفي عريه الغريب، والأهم في غيابه. ستفكر كثيراً في هذا الرجل “المخيف”، ستبحث في أسباب الخوف منه، وستتبارز في رأسها عشرات الأسئلة لن تفي عبارة “قلة الأدب” أو “الجنون” بتفسيرها. لكنها ستبدأ في التفكير في فكرة أن الأعضاء الذكرية تحمل خطراً كامناً سيعززه المجتمع بعد سنوات. لن تسمح بساطتها بتكوين فكرة واضحة حول العضو، حول ما يمثله من سطوة ذكورية واحتلال لأنوثتها، ما يمثله من إلغاء لجمالها. ستكبر الفتاة وتمر بلحظات يأس عديدة، وسيحصل أنها في بعض هذه اللحظات ستتذكر ذلك “المجنون” التابع لعضوه، ستحس بحزنٍ شديدٍ تجاهه، وستعجز عن تفسير هذا الحزن، لكن الذكرى ستمنحها نوعاً من المواساة.

الشهوة النبيلة هي البطلة الفعلية في هذه الحكاية. التحدي المجنون والمسالم للكبت. من الجميل أن أفترض أن مجنوناً غيري تبنّى جنون البطل، أعاد إحياءه في عالمه الداخلي. شخص آخر يفكر في الجنس خارج قوالب الرذيلة والكبت وباقي القوالب النمطية. يفكر في الشهوة باعتبارها عالماً أصيلاً في داخلنا جميعاً، طقساً نقياً نحلم به ونعاني منه ولأجله، الشهوة باعتبارها حنيناً ممضاً، يغمر الروح ويفيض أحياناً، حنيناً عضالاً، قد يقع في تضادّ وحشي مع العالم، في موقع الصدام بين اللحم والحديد، صدام يفرض نهاية تراجيدية تكمل المشهد. قد نتخيل الدم المتناثر من فمه من هول الضربات. ستنقلب التفاصيل الفائضة في اللوحة (الرجال) على هامشيتها وتنتقل على المركز، تحتله. أتخيّل بطلنا يُضرَب بشراسة في الشارع، وهو لا يردّ، لا يدافع عن نفسه ولا يعترض على كونه ضحية، وسيَصدم الضاربَ بمسالمته، سيؤكد الناس أن بطلنا “مجنون”، ويرسلونه إلى النسيان والحرمان، يرسلونه إلى الغياب لتبقى الحكاية وحدها في انتظار من يعيد إحياءها.

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى