مراجعات كتب

“دون كيشوت” لسرفانتس: فارس يحلم بالسلام والحب المستحيل/ ابراهيم العريس

 

 

إذا أخذنا في الاعتبار ما يقوله كاتب إسبانيا الأكبر سرفانتس عن روايته الأشهر، وأشهر رواية في الأدب العالمي في الوقت نفسه، «دون كيشوت»، فإن الباعث إلى كتابتها إنما كان «رغبتي في أن أكتب رواية فروسية، تكون قادرة على الاختلاف إلى حد كبير عن روايات الفروسية المنتشرة كافة». والحقيقة أن ذلك الكاتب الإسباني الغريب الأطوار لم يتمكن من تحقيق رغبته فقط، وإنما كتب في طريقه أيضاً واحدة من أولى الروايات الإنسانية في تاريخ البشرية، وابتدع شخصية أتت من الصدق والعمق بحيث أنها قادرة على أن تلتصق بالإنسان وأخلاقه في كل زمان ومكان، بالنظر إلى أن مؤرخي الأدب، بل حتى مؤرخي الفكر الإنساني في كل زمان ومكان لا يتوقفون عن اعتبار «دون كيشوت» ليس فقط رواية الإنسان بامتياز، بل أكثر من هذا: العمل الأدبي والفكري الذي يؤرخ لبداية ظهور الإنسان كإنسان في التاريخ وليس في تاريخ الأدب فقط، ومن هنا عاشت هذه الرواية حتى الآن باعتبارها نسيج وحدها في تاريخ الإنسانية، وكتب عنها، ولا سيما خارج إطار البحث الأدبي، أعداد كبيرة من الدراسات والكتب كما جرى اقتباسها في العدد الأكبر من الفنون. وحسبنا هنا أن نلفت إلى أن «الدون كيشوتية» لم تعد بالتالي، ومع مجرى القرون سمة أدبية أو فنية، بل صارت سمة إنسانية عامة، يستخدمها أناس ربما لم يقيض لهم أبداً أن يقرأوا رواية سرفانتس العظيمة أو يسمعوا بها أو بكاتبها.

كتب ميغويل دي سرفانتس أو ثربانتس سآفدرا، روايته هذه خلال السنوات الست الواقعة بين نهاية القرن السادس عشر وبداية القرن التالي له، ونشر قسمها الأول في مدريد في عام 1605، ليعود بعد ذلك بعشرة أعوام 1615 وينشر قسماً ثانياً، هو بالأحرى إضاءة للقسم الأول وتفسير له، وربما أيضاً استنتاج نهائي لما هي عليه، حقاً، شخصية دون كيشوت. ورواية «دون كيشوت» التي نسبها سرفانتس، أول الأمر وعلى عادة بعض كتاب تلك المرحلة، إلى مؤلف عربي مجهول يدعى سيد أحمد بننجلي، تروي كما نعرف، حكاية ذلك السيد البائس المنتمي إلى منطقة لامانشا، الذي عرف بأخلاقه الطيبة وعونه للآخرين. لكن السيد كيشوت ليس إنساناً عادياً، بمقاييس زمنه على الأقل– وإن كان سيعود ليعتبر الإنسان العادي بامتياز في مقاييس الأزمان الإنسانية اللاحقة-، يعيش في داخله حالاً خاصة: إنه يتخيل نفسه فارساً مغواراً من دون أن تكون له القدرة على ذلك. ومن هنا يعيش مغامرات وهمية صاخبة، مع رفيق دربه الأمين سانشو بانشا، ويخترع لنفسه حكاية غرام مع الفاتنة دولسينيا، ويروح محارباً من أجلها ومن أجل البشرية جمعاء، من دون أن يدري أنه في حقيقة أمره لا يحارب أحداً، بل خيالاته. ولعل المشهد الذي يتجلى فيه هذا الأمر، هو معركته مع أولئك «العمالقة الجبابرة» الذين ليسوا في حقيقتهم سوى طواحين هواء. وكما أن كل شيء لا بد من أن تكون له نهاية، تبدأ نهاية ذلك السيد الطيب، الرومانسي الورع، حين يقوم واحد من أصدقائه، سامسون كاراسكو، بالتنكر كفارس، وغايته إلحاق الهزيمة به لمجرد إعادته إلى دياره بعد أن استشرى أمره وصار جنونه قاتلاً وخطيراً. ويتمكن كاراسكو من غايته إذ يهزم الفارس المقدام ويجبره على أن يتعهد بالتخلي عن الفروسية لمدة عام. وهي فترة ينفقها دون كيشوت في رعي الأغنام وعيش حياة دعة رعوية. غير أن ذلك لا يناسبه، بالطبع، لذلك ما إن يعود إلى قريته في النهاية حتى يقع فريسة المرض ويموت.

طبعاً من الواضح أن هذا التلخيص السريع فيه ظلم كبير لهذا العمل الفني والفكري. بل أن كل تلخيص أو اختصار ولو لسطور من «دون كيشوت» فيه إساءة إليها لأن هذا العمل هو من ذاك النوع الذي إما أن يُقرأ بحذافيره، أو لا يُقرأ أبداً. فالمهم هنا هو التفاصيل الصغيرة أصغر التفاصيل وأبسط الحوارات وكل أنواع الخيالات والإشارات طالما أن من البديهي أن سرفانتس لم يضع أي شيء هنا عبثاً أو بصورة مجانية. فهو إنما أراد هنا أن يبث كل روحه وتجاربه وأفكاره في سياق نص كان يعرف أنه لا يقدم فيه حكاية وحسب، بل فكراً عميقاً يحاول أن يرسم روح الأزمنة الجديدة تمهيداً للأزمنة المقبلة. ومن هنا ما قُيّض لرواية «دون كيشوت» من دراسات كان همها دائماً أن تلتقط الإشارات مهما كانت صغيرة، لتبني عليها تحليلات وأفكار مسهبة. ومن هنا لم يكن من المصادفة هنا أن يهتم الفلاسفة وعلماء الاجتماع– وهؤلاء الأخيرون في العصور الأقرب إلينا طبعاً– بتحري هذا العمل والطلوع منه بنتائج وأفكار غالباً ما تبدو وكأنها لا تمت إلى الأدب أو الإبداع الفني إلا بصلات واهية.

فبالنسبة إلى عدد كبير من الباحثين الذين انكبوا على تحليل هذا العمل طوال قرون وقرون، وربطه بذهنية زمنه والأزمان التالية، تمثل شخصية دون كيشوت، الوجود الحر لشخص لا يرى غضاضة في أن يتبع مشاعره وأهواءه: شخص يذرع العالم كله، متنقلاً من مغامرة إلى مغامرة، منتضياً سلاح الفرسان، لكنه في حقيقته وفي داخله لا يتطلع من متاع الدنيا كلها إلا إلى الحب، وإلى العدالة والسلام. تلك القيم البسيطة التي كان دون كيشوت، وبالتالي كان مبدعه سرفانتس، يرى أنها الحق الطبيعي للإنسان في هذه الحياة الدنيا، ومع هذا هو الحق الذي لا يطاول «النجم البعيد البعيد الذي لا يني الإنسان، الإنسان الحقيقي طبعاً، يحاول الوصول إليه معتبراً إياه حقه الطبيعي»، ولكن دون ذلك حقائق الكون والوجود. غير أن ما يتعين علينا هنا أن نلاحظه هو أن سرفانتس، إذ يعبر عن موضوع في غاية الحزن والإيلام، لا يفوته أن يجعل أسلوبه ساخراً متهكماً، لأن سرفانتس كان يرى أن السخرية والمرح إنما هما الابنان الشرعيان لأقسى أنواع التراجيديا. وعلى ضوء هذا آثر ذلك الكاتب أن يخلق أول وأروع بطل رومانسي تراجيدي في تاريخ الرواية، رومانسي لأنه ما انفك عن طلب المستحيل وهو يعرف أنه مستحيل وأنه لن يحصل عليه إلا في أحلامه، غير أن المهم بالنسبة إليه كان أن يسعى إلى مطلبه سواء تحقق ذلك المطلب أو لم يتحقق، وتراجيدي بالتحديد لأنه إذا كان في ساعات غفلة منه قد غاص دائماً في هلوساته وأحلامه مرتاحاً إليها، كان يحدث له في مرات كثيرة أن يفيق على واقعه ليكتشف عبث ما يسعى إليه وعبث كل ذلك المسعى وكأنه سيزيف لا يتوقف عن جر صخرته. ومع هذا، إذا حكمنا على مسعى «دون كيشوت» من خلال نظرة الأزمان التالية له يمكننا أن ندرك كيف أن رومانسيته كانت هي التي انتصرت في نهاية الأمر على تراجيديته.

ولد سرفانتس 1547- 1616 في مدينة القلعة الأندلسية في إسبانيا. وهو باكراً في حياته أصيب بعاهة مستديمة إذ فقد قدرته على تحريك يده اليسرى، خلال معركة خاضها وعاش طوال حياته تحت وطأة تلك العاهة التي يمكن القول، مع هذا، أنها ربما كانت صاحبة الفضل الأول في ولادة الكاتب فيه بالنظر إلى أن ذلك العجز منعه من مزاولة أي عمل يدوي ما جعل القراءة والكتابة الممارستين الأساسيتين اللتين وجهتا حياته وبالتالي خلقتا لديه ذلك الشغف بالأدب الذي كان من الصعب عليه أن يمارس نشاطاً جدياً غيره في حياته. وتقول لنا سيرة سرفانتس أنه قد حدث له ذات يوم أن اختطفه قراصنة البحر الأبيض المتوسط، وكان في الثامنة والعشرين، وأسروه في الجزائر، وهناك في سجنه بدأ نشاطه الكتابي الحقيقي بعد اطلاعه على بعض روائع الأدب العربي. وبعد تحريره عاد إلى إسبانيا حيث أمضى بقية حياته وهو يصارع في سبيل الرزق متنقلاً بين الكتابة وبعض الوظائف الحكومية البسيطة. وإضافة إلى «دون كيشوت» كتب سرفانتس قصصاً قصيرة ومسرحيات عدة، وروايتين تقلان قيمة عن «دون كيشوت» هما «لاغالايتا» و «برسيليس وسيغسموندا».

الحياة

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى