صفحات الثقافة

ديكتاتورية “الأكثر قراءة”/ دلال البزري

 

 

هناك شبح يحوم فوق رؤوس كتاب الصحافة ومحلليها وناقلي أخبارها، حمى تمسك بأنفاسهم، تؤرقهم، وتحرم غالبيتهم من هناء الإنتاج الكتابي… هذا الشبح يتمثل بتلك الفقرة التي صرتَ تجدها ماثلة على يسار مواقع الصحف كلها، الإلكترونية منها والورقية، والمعلِنة عن لائحة بمقالات أو “فيتشورات”، فازت بنصيب “الأكثر قراءة”. شبح غير لطيف، سيف مسلّط فوق رقابهم كلهم، توتر يومي هو مادة دسمة للتعليقات والتقديرات بين أبناء المهنة الواحدة، بينهم وبين جمهورهم؛ ترفع فيها من تشاء إلى الأعالي، وتنسى من تشاء. وهو توتر لا يعفي أصحاب الحظ السعيد، إذ انهم سوف يخضعون بعد حين، عندما يكتبون شيئاً آخر، إلى الأنظار نفسها، وانقباض القلب نفسه.

والحال ان جميع الإحصاءات أفضت كلها إلى نتيجتين: إن الأكثر قراءة من بين المقالات الواردة على المواقع الإلكترونية، هي تلك التي تتناول المواضيع “التراش”، أو الجنس أو المشاهير أو السجالات الحادة، العدائية، المستفزة، من ذاك النوع الذي يحيي الإصطفافات والتحيّزات والمعسكرات. وانه، على امتداد هذا الزمن القصير نسبياً، انتقلت الصحافة المكتوبة من أسلوبها الخاص، إلى الأسلوب التلفزيوني، الاستعراضي، المتسرّع، والمشبَع بالإثارة.

من أين أتى هذا الشبح؟ ما هو مصدره؟ من الصحافة الاميركية، الأكثر “مهنية” من بين صحافات العالم، والذاهبة، هي أيضاً، نحو الإندماج بالاقتصاد النيو ليبرالي: اقتضت المنافسة الشرسة بين صحافتها المكتوبة والاعلام المرئي، المعطوفة على تنامي دور الإعلان التجاري في تمويل هذه الصحافة، إلى الدخول في حلبة البقاء في السوق وعدم الإندثار، فصارت تغذيتها بإعلانات تتطلب ان ينجذب القارىء اليها، ليكون الزبون الإعلاني الأكثر عدداً من بين الصحف الأخرى المنافسة. هكذا اختُرع شبح “الاكثر قراءة”، وتطورت أساليبه الى حدّ استحداث إنظمة الكترونية تقيس احتمالات “الأكثر قراءة” من خلال إختبار العنوان فقط؛ كأن تضع للنظام عنوانين أو ثلاثاً، وتطلب منه أن ينبىء لك، أيهما سيكون “الأكثر قراءة”. وبدعة “الأكثر مشاهدة”، هي الأخرى، المرفقة بـ”الأكثر قراءة”، هذه خير دليل على استخفاف الشبح بالكتابة، ولامبالاته بكل شيء، غير المزيد من الإعلانات التجارية.

حسناً، “الأكثر قراءة” هو اختراع أميركي. ورغم كراهيتنا للإمبريالية، إلا أننا، هنا أيضا نسير خلف نماذجها من دون تدبّر ولا تفكير، بنوع من الأوتوماتيكية الفجّة. وإذا أضفنا إلى ذلك بأن مواضيعنا الساخنة الخاصة بنا، بعد الجنس والمشاهير، هي انقساماتنا السياسية-الدينية الحادة، أو فظائع “داعش” بعد فظائع الديكتاتوريات، يصبح من البديهي ان نضيف الإنحيازات الدموية إلى لائحة المواضيع “الأكثر قراءة”، لو أردنا إكمال الصورة، او إلباسها هنداما محلياً عربياً.

هكذا، ندخل عصر الرقمية وقد خضع كتّابُنا لقانون واحد، غير مرئي تماماً، مع انه منظور، هو قانون الإعلانات التجارية. إلى أي حدّ يمكن لمقالي ان يجلب الإعلانات، فيكون هو الأكثر قراءة، أو العكس: الى أي حدّ يكون مقالي “الاكثر قراءة” فيتحول إسمي إلى جاذب للإعلانات؟ هكذا يدخل الكاتب أو الصحافي او المعلق أو المحلل في حوافز داخلية غير معلنة، تشبه تلك التي تحرّك نجم شباك التذاكر، صاحب القول المأثور رداً على رداءة أفلامه بأن “الجمهور عايز كده”. وهذه ديماغوجية فكرية، لا ينقصها شيء لتكون سياسية، خصوصا في زمن ومنطقة تطغى عليهما الكراهيات السياسية والإنحيازات العنيفة.

والتلفزيون هنا خير رفيق: مثلما لجأ إليه الممثلون والمخرجون السينمائيون، فانتجوا له المسلسلات البائخة، التي انزلت مستواهم الفني إلى الحضيض، ولكنها رفعت شهرتهم إلى أعلى السماوات، كذلك يفعل الكاتب أو المعلق: يلجأ الى برامج التوك شو التلفزيونية، يقول فيه أي شيء حول أي موضوع، بصفته “خبيراً”، يضيّع وقته الثمين، ووقتنا، من أجل أن ينتشر إسمه بين الناس، ثم بعد ذلك يكتب كما لو كان “إعلاميا”، خريج التلفزيون، لربما فاز بذلك بـ”الأكثر قراءة” عندما سيطلّ إسمه على الشبكة. وهذه الحركة نحو التلفزيون، يوازيها حركة معاكسة للـ”إعلامي”، مقدم البرامج أو مذيع نشرات الأخبار، نحو الصحافة المكتوبة، الورقية أو الالكترونية، ليتفوق على الجميع بعدد قرائه ومشاهديه…

إن الإنكباب على حمى “الأكثر قراءة” يفقد الكتابة معناها ووثبتها؛ يحيل المعلومة أو التحليل أو الرأي إلى المرتبة الثانية، أو الرابعة، التي لا تستحقها، ليضع كل الطاقة الذهنية في خدمة البحث عن كيفية جذب الأعداد. وهو إنكباب، يدفع الكاتب إلى إضاعة حريته الداخلية، فيقبض عليها بملء ارادته، وبسينيكية سرية، يضعها في القفص المعلوم، هو الذي لا مبرر لوجوده من غير هذه الحرية. والأنكى ان هذه الحرية بالأصل ليست مطلقة، بل انه غالبا ما يداري قمعه الداخلي لها تجنباً لفقدان حريته كاملة، أو حياته. فالكاتب أو الصحافي في الأساس صاحب ضمير؛ هو ليس ببائع سجاد يفاوضك على سعره، ولا رجل سياسي يحتاج للكذب مئة مرة في اليوم الواحد، حفاظاً على دوره. هو صاحب ضمير، أو هكذا يفترض. ومن أجل حماية هذا الضمير من المزيد من الإقترافات، عليه أن لا يبالي بـ”الاكثر قراءة”. وإلا علّق الكتابة بين ديكتاتورية الصمت الملزم وديكتاتورية الكتابة تحت طلب “الأكثر قراءة”، بعدما عُلّق مصيره بين “داعش” وبشار.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى