مراجعات كتب

ديمة الشكر تعيد إحياء النقد العروضي منذ الأصول/ ذمحمد الغزي

الدراسة التي كتبتها الباحثة السورية ديمة الشكر وعنوانها «الرنين المطوّق/ العروض قديماً وحديثاً» تدور على طرائق تعليم العروض من خلال عدد من الكتب القديمة والحديثة. لكنّ الغاية البعيدة من هذه الدراسة هي التحقّق من ادعاء ما فتئ النقّاد يردّدونه ومفاده أنّ هذا العلمَ النبيل، وفق تعبير الكاتبة، قد بات جامداً لا روح فيه ولا حياة. فهل طاول الجمود طرق التأليف والتدريس أم طاول العلم ومادّته؟

والدراسة كل الدراسة هي محاولة للإجابة عن هذا السؤال من خلال دراسة عدد كبير من كتب العروض، وخلال هذه الإجابة انعطفت الكاتبة بالنظر على علم العروض، وكتبت تاريخه الطويل وسعت، بأناة وصبر، إلى فهم منطقه الداخليّ، والإحاطة ببنيته العميقة. وفوق هذا، تدبّرت ما طرأ عليه من تحوّلات، وإن كانت طفيفة، وهو ينتقل من عصر إلى عصر ومن مكان إلى آخر.

وفي صفحات من البحث العميق، عادت الكاتبة إلى منابت هذا العلم واهتمّت بالرجل الفذّ الذي وضع علمين اثنين، في وقت واحد، ولم يترك منهما فضلة لعالم يأتي بعده وهما علما النحو والعروض. وللعلميْن، كما هو معروف، غاية واحدة هي تجنّب اللحن، لحن اللغة ولحن الإيقاع. ولهذا عُدّ العروض، منذ القديم، «نحو الإيقاع «، من طريقه يحمي الشاعر قصيدته من كلّ خلل في نظامها النغمي. وقد طبّق الخليل منهجيّة واحدة وهو يضع هذين العلمين (النحو والعروض) وتتمثّل هذه المنهجيّة في التعويل على الأصول لاستنباط القواعد الكلّية، وهذه الأصول لا توجد إلاّ في «الشعر الفصيح والصحيح» الذي ظهر في العصرين الجاهليّ والأمويّ مستبعداً الشعر العباسي الذي عدل عن الأصول وتفشّى فيه اللحن. هذه المنهجيّة نفسها هي التي تحكّمت في الخليل وهو يجمع اللغة العربيّة إذْ ألزم نفسه أن يأخذها من مظانّها، أي من القبائل في الحجاز وتهامة.

اعتمد الخليل القصيد، من دون سائر الأنماط الشعريّة الأخرى، أصلاً في بناء نظامه وقد لاحظ أنّ هذا القصيد لا يجري على نسق إيقاعيّ واحد، بل على أنساق إيقاعية عدّة. فقام بتعيينها، ثمّ بوضعها في مجموعات، مجموعة لنسق الطويل وأخرى لنسق المديد. وما كان للخليل أن ينجز ذلك لولا قدرته العجيبة على التجريد، تجريد الإيقاع من طريق النقر.

هذا العلم الذي ولد دفعة واحدة على يد رجل واحد، انتقل بعد ذلك إلى كتب العروضيين الذين انعطفوا عليه بالنظر والتأمل حيناً وبالشرح والتفسير حيناً آخر. لكنّ هذه الكتب على تنوّعها واختلاف أساليبها كانت تنطوي على غايات تعليمية لا تـخطئها العين. وقد استعرضت الكاتبة عدداً منها وتأمّلت مادّتها من ناحية كما تأمّلت طرائق عرضـها لتلك المادّة من ناحية ثانية. وقد اختارت من المشرق كتب الأخفش (215/830) والزجّاج (311/923) وأبي الحسن العروضيّ (342/954)، ومن المغرب العربيّ كتاب ابن عبد ربّـه(328/939). وكـلّ هذه الـكـتب تبرز على نحو واضح بدايات تعليم العروض واستقرار تدوينه. فهذا العلم بات واضح المعالم، بعد أن تـولّـى هـؤلاء الـعروضـيون تـطويـعـه لمقـتضـيات التـدريـس والتـحـصيل.

ولئن التزمت كلّ المؤلّفات تقريباً بعروض الخليل لا تكاد تخرج عنه أو تستدرك على ما جاء فيه من قواعد، فإنّ هناك مؤلّفاً واحداً شذّ عن هذه القاعدة وأعاد النظر في عروض الخليل وهو عروض الورقة للجوهري (393/1002) هذا الكتاب لا يتوجّه الى طالب العلم بمقدار ما يتوجه الى قارئ خبير يقدّم له العروض «بطريقة مختلفة عن الكتب السابقه» على حدّ تعبير الكاتبة، مبرزاً على وجه الخصوص، أشعار المحدثين التي عدلت، في الكثير من الأحيان، عن عروض الخليل. لكن أهمّ ما يلفت في هذا الكتاب، محاولته اختزال علم العروض مُدخلاً بحوراً في أخرى وطارحاً بحوراً أخرى. وكما قالت الكاتبة، فإنّ عروض الورقة ككتاب فريد في علم العروض لم يصب نجاحاً يذكر. لهذا، لا نجد من العروضيين من عوّل عليه أو أخذ به باستثناء ابن رشيق.

ميزان الشعر

ثمّ تولّت الكاتبة قراءة عدد من كتب العروض التعليميّة، بدءاً من القرن الرابع وصولاً إلى عصر النهضة، قراءة متأمّلة لا تكتفي بالعرض والتحليل بل تعمد إلى المقارنة والموازنة والتقويم والمفاضلة في آن.

ولعلّ أهمّ كتاب توقّفت عنده الكاتبة هو كتاب «ميزان الشعر في عروض العرب والعجم والقوافي» لمؤلف مجهول هو كغام بن كيرقور مرغوصيان، ومزيّة هذا الكتاب أنّه استلهم العروض الغربيّ فقسّم البيت إلى مقاطع سمّاها «هجا» وقسّم المقاطع إلى نوعين ثقيل وخفيف. وقد أبرزت الكاتبة حدود هذه الطريقة والتباسها. لكنّ مزيّة هذه الطريقة أنّها حاولت المزج بين العروضين العربي والغربيّ بغية الإحاطة بالإيقاع العربيّ.

وفي فصل عميق وممتع اهتمت الكاتبة بـ «خصوصيّة تأليف المستشرقين في العروض العربيّ»، لافتة النظر إلى أنّ الكتابات الأولى تمّت باللغة اللاتينيّة وأدّت دوراً كبيراً في حضّ الباحثين على الاهتمام بالعروض العربيّ. لعلّ أهمّ هذه الكتب وأولاها بالنظر كتاب ستانيسلاس غويار الموسوم بـ «نظرية العروض العربي الجديدة «. وقد قارب هذا الكتاب العروض العربيّ بطريقة أصيلة خالف فيها كتب المستشرقين كلها التي سبقته مثلما خالف فيها طرق العرب أنفسهم في مقاربتهم لعلمهم العربيّ. فالمقاربة التي نهض عليها هذا العمل هي «مقاربة إيقاعية / نبريّة»، إذ إنّ الكاتب اعتبر العروض ذا طبيعة ارتكازية /نبرية ، ومن ثمّ اعتبر العروض العربيّ قابلاً للتدوين بالعلامات الموسيقيّة. تعلّق الباحثة على هذه المقاربة قائلة: «تقع هذه المقاربة في منزلة بين منزلتين: التعليم والبحث، فهي تقترح طريقة جديدة في تعليم العروض جديدة، لكنّها في الوقت نفسه تجريبية. ومهما يكن من أمر، فإنّ هذه المقاربة تشير إلى أنّ البحث في العروض إيقاعيّاً لم يتبلور بعد.

أمّا في الفصل المخصّص لـ «علم العروض في فترة الحداثة» فتناولت ديمة الشكر كتب الإيقاع التي ألّفها الكتاب المعاصرون بالنظر والتحليل. وقد قسمت مذاهب التأليف إلى ستّة اتجاهات: اتجاه أوّل متأثر بالمستشرقين، وثانٍ متأثر بالمقاربة النبريّة، وثالث متأثّر بالمقاربة الرياضيّة، ورابع متأثر يالمقاربة الإيقاعية، واتجاه أخير نعتته الكاتبة بالملتبس. وفي الوقت ذاته لم تغفل الباحثة عن الاتجاه التقليدي التحديثي.

في نهاية البحث، تلاحظ الكاتبة أنّ الشعر الحديث بشقّيه تيار شعر التفعيلة وتيار قصيدة النثر، لم يحظ باهتمام كبير في كتب العروض الحداثيّة. وهو الأمر الذي يبطن، في نظر الكاتبة، انقطاعاً بين التعليم والثقافة الراهنة. والقليل الذي كتب عن هذا الشعر جاء منجّماً في كتب النقد لا يفي بحاجة الدارس ولا يجيب عن أسئلته الكثيرة.

إنّ المتأمّل في كتب العروض الحديثة لا يجد، على سبيل المثال، وصفاً دقيقاً يستند إلى علم العروض لعملية الانتقال من الشعر التقليدي إلى الشعر الحديث. وتقدم الباحثة أمثلة عن الخلط الذي وقع فيه بعض الدارسين وهم يتحدثون عن القصيدة الحديثة، من ذلك أن صفاء الخلوصي لم يفرق بين التيارين وسمّاهما الشعر الحرّ، بل إنّه اعتبر قصيدة التفعيلة «لوناً من السجع وتنقصها بعض المقوّمات لتصبح شعراً عموديّاً وهي طريقة في التأليف الشعري مفككة وغامضة». أمّا قصيدة النثر فهي في رأيه «ليست قصيدة ولا نثراً… وإنّما هي كلمات مرصوفة لا تخرج منها لطائل».

إنّ المتأمّل في كتب العروض الحديثة يلحظ أن حظّ القصيدة الحديثة من التحليل جاء ضئيلاً وباهتاً لا يزوّد الطالب بالمعرفة اللازمة التي تمكنه من التفريق بين النصّ الموزون والنصّ غبر الموزون. رحلة طويلة امتدّت على ما يقارب اثني عشر قرناً أنجزتها الباحثة وهي تتأمّل تاريخ علم هو من أصعب علوم العربيّة ونعني بذلك علم العروض. وهذا التأمّل امتزجت فيه القدرة العالية على التجريد بالمعرفة الكاملة للتنغيم. ولعلّ من أهمّ مزايا هذا البحث أنّه استخدم لغة مشرقة، فيها الكثير من الصفاء والوضوح بل ربّما جنح أحياناً إلى استخدام لغة «أدبيّة» فيها نبرة ذاتية لا تخطئها العين، وهذا ما جعل قراءة هذا العمل ممتعة على رغم العدد الهائل من المصطلحات الغريبة التي يحفل بها هذا العلم.

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى