صبحي حديديصفحات الثقافة

دينوكا بريفا… تعالي إلى كوباني!/ صبحي حديدي

 

 

 

المحنة الكبرى التي يعيشها أشقاؤنا الكرد في كوباني ـ تحت وطأة ثلاثية الأطراف، على الأقلّ: «داعش» الإرهابية، وتواطؤ نظام بشار الأسد الذي لا يقلّ إرهاباً، وصمت قوى إقليمية ودولية ـ تشدّني، عاطفياً وجمالياً وتاريخياً، إلى قصيدة بعينها من الشاعر الكردي السوري الكبير سليم بركات: «دينوكا بريفا، تعالي إلى طعنة هادئة». وكانت هذه القصيدة قد نُشرت للمرّة الأولى في مجلة «مواقف»، عام 1972، فطرحت اسم بركات بقوّة، واخترقت موانع الكتابة الشعرية العربية في قلب بيروت، عاصمة الحداثات العربية، وكرّست الشاعر ناطقاً بليغاً (بفصحى جبّارة غير مألوفة) باسم الموضوع الكردي، في التاريخ والجغرافيا والحكاية والأسطورة.

ولعلّي أسارع إلى اقتباس المقطع الاستهلالي الأخاذ، والصاعق في ما يستهلّ من مناخ، وما يقترح من معجم: «عندما تنحدر قطعان الذئاب من الشمال وهي تجرّ مؤخراتها فوق الثلج وتعوي فتشتعل الحظائر المقفلة، وحناجر الكلاب، أسمع حشرجة دينوكا. في حقول البطيخ الأحمر، المحيطة بالقرية، كانت السماء تتناثر كاشفة عن فراغ مسقوف بخيوط العناكب وقبعات الدرك، حيث تخرج دينوكا عارية تسوق قطيعاً من بنات آوى إلى جهة أخرى خالية من الشظايا». درك تلك الأيام يمكن أن يمثّلهم، اليوم، أيّ صنف من المسلحين الذين يستهدفون الكرد في كوباني، أو في أية بقعة معاصرة تقطنها أغلبية كردية، بصرف النظر عن هويتها العسكرية أو العقائدية، وما إذا كانت إرهابية معلنة أم مبطنة.

مقطع آخر يسير هكذا: «دينوكا. ماذا أقول للصيّادين الذين يضعون سروجاً فوق ظهور الكلاب السلوقية في سفح سنجار وجبال عبد العزيز؟ أنت مختبئة في مكان ما، ربما في زريبة، تشمّين التراب ومزاود النعاج. كبيرة أنت، بليلةٌ، مسكونة بالحصاد وبي. أسمع والدك يصيح: دينوكا.. أسمع والدتك تصيح: ‘دينوكا، احملي خبز الشعير هذا إلى المهاجرين وقولي أن يستريحوا قليلاً’». والمكان هنا، سنجار أو جبل عبد العزيز، ألا تتردد علائمه في مِحَن راهنة، عاشها الكرد أو الإيزيديون أو سواهم، تحت وطأة «داعش» أو شبيحة النظام أو مسلّحي الميليشيات من كلّ طراز ومنبت وغرض؟ «أنت تجهلين كيف يمتلىء الأخدود بين عامودا وموسيسانا بجثث البغال والأعضاء المبتورة. تجهلين من أين يحصل البدو على بنادق فرنسية، ولماذا ينتفخون على تخوم القرى حين يهجمون عاصبين رؤوسهم بعباءاتهم»، يتابع بركات، وكأنه ـ مع تبديل طفيف في المسميات، ليس أكثر ـ يصف الحال المعاصرة.

والحال أنّ القصيدة تُحكم شدّ الروابط بين الحكاية والفانتازيا، وبين الوقائع المادّية ومحفوراتها السرّية في باطن الوعي، بين التجسيدات البدئية لما يجري على سطح المحاكاة الطبيعية، والتصوير البصري التشكيلي الآسر، وبين المكان بوصفه أكثر من مجرّد كيان جغرافي معرّف أو قابل للتعريف، وبين المكان ذاته بوصفه موقع التنقيب عن الاستعارة المفتوحة. وثمة مستويات مركبة، وحاشدة ثرّة، تتقلّب فيها حكايات البشر (من الكرد والبداة والآشوريين والشركس…)، وحكايات الحيوان (الذئاب والنعاج والكلاب السلوقية وبنات آوى…)، وحكايات الطير (الكركي، الزرزور، الحجل…)، وحكايات النبات (السرخس، الخزامى، العنّاب…)، هذه التي تأتلف، مراراً، لتشكّل حكاية واحدة فسيحة لأسطورة تنفجر بعنف، في اللغة وخارجها، وفي الصورة وأعلى منها، وفي الإيقاع المنتظم والإيقاع المتفتّت.

ثمة أهمية أخرى خاصة لهذه القصيدة، هي أنها تسجّل أيضاً أوّل أمثلة استخدام بركات للنثر في قصيدة تواصل الاعتماد على التفعيلة والقافية (كما في هذا المثال: «أخرجُ من أعرافي ودياري جندياً من جند الوثنيين/ وأخرج مرتزقاً بالنحل إلى أزهار الغرباءْ/ فليكنِ الموت إذن ملءَ تراباتي/ وليكنِ النهرُ رسول الإعدام، أواكبه حتى مسجد آبائي بالأنباءْ»)؛ وإنْ كانت تلجأ أيضاً إلى «تذويب» السطر الشعري المستقلّ عن طريق إدخاله في مقاطع تدويرية طويلة. هنا تبدو الخصائص الموسيقية، الكامنة على نحو موروث في اللغة الطبيعية، وكأنها تتشكّل وتُستنطق على أفضل وجوهها إذا عملت جنباً إلى جنب مع بعض أنواع المعنى (ولا سيّما المعنى الأسطوري) لتحقيق الاستقطاب الشعري. علاقة كهذه هي، في حقيقتها، خلخلة أو إعادة صناعة للشيفرة أو جملة الشيفرات التي تحملها المفردة المستقلة، والتي تزيغ أو تغتني أو تنفجر عند تواشجها مع مفردة ثانية.

دينوكا… تعالي إلى كوباني، إذاً، بعد بريفا، فثمة هنا أكثر من طعنة دامية، إذْ يخرج الكــــرد «من جهـــة العــــراء» هنا، إلى جهات العراء جمعاء، حيث الجهات ليست البتة خالية من الشظايا.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى