صفحات العالم

دي ميستورا في سورية.. امتحان الدور التركي/ أنيس الوهيبي

 

 

تبدو مهمة المبعوث الأممي الجديد إلى سورية، ستيفان دي ميستورا، مبهمة وغير واضحة المعالم. وكان قد عُين خليفةً للأخضر الإبراهيمي، بعد تحول في المقاربة الدولية حيال الأزمة السورية، نجم عن فشل مفاوضات “جنيف 2″، وتعديل موازين القوى على الساحتين، السورية والإقليمية. فالإبراهيمي الذي عيّن في لحظة صعود للمعارضة المسلحة في سورية، واكتسابها زخماً كبيراً وتسجيلها اندفاعة مهمة على حساب النظام وقواته، صمم تحركه الخاص بحل الأزمة السورية بناء على هذه الأسس، إلا أن الديناميكية التي سمحت بانتصارات المعارضة انتقلت، بعد حوالى عام، على تولي الدبلوماسي الجزائري مهامه، إلى قوات النظام، الأمر الذي عرّض مهمة الإبراهيمي إلى ضغوط عنيفة من النظام الذي أراد إعادة البحث في أساس تلك المهمة، مستنداً إلى مكاسب حيوية ميدانية ودبلوماسية حققها وحلفاؤه الإقليميون والدوليون.

ويأتي في صدارة المكاسب التي أسهمت في تحسين موقع النظام، اتفاق الأسلحة الكيماوية، ونتائج معارك القصير والقلمون والمصالحة في حمص، لكن أهمها على الإطلاق، وهو ما جعل المكسبين الأولين متاحي التحقق، توصل إيران ومجموعة “خمسة+واحد” إلى الاتفاق المؤقت في نوفمبر/تشرين الثاني من العام 2013، عقب مفاوضات سرية بين طهران وواشنطن بوساطة عمانية، بالإضافة إلى إنهاء حكم جماعة الإخوان المسلمين في مصر، وتصاعد حدة الخلاف بين السعودية والإمارات والأردن ومصر من جهة، وكل من “الإخوان” وتركيا وقطر من جهة أخرى، الأمر الذي انعكس على الفصائل المسلحة في سورية.

وجاء تعيين الدبلوماسي الإيطالي، دي ميستورا، ليعكس تلك التحولات. فالرجل الذي تسلم منصبه نتيجة تنسيق إيطالي روسي مصري، عيّن الدبلوماسي المصري، رمزي رمزي، نائباً له، في حين ضغطت موسكو منذ تعيينه لإعادة إطلاق مفاوضات جنيف.

الموقف المصري

يكرر النظام المصري الذي وصل إلى السلطة، عقب إطاحة حكم محمد مرسي، أنه يسعى إلى المحافظة على وحدة سورية، وصيانة المؤسسات القائمة فيها. ولا يبدو أن المستهدف من هذا التأكيد النظام، بل على العكس، يشير إلى مكان آخر مختلف كلياً. فتركيا والحكومة المؤقتة التي تدعمها، هي ما تعارضه القاهرة، تحت عنوان وحدة سورية، والخشية من مشاريع تقسيم لأراضيها.

وعلى الرغم من أن تقسيم سورية لا يبدو مشروعاً جدياً يطرحه أي طرف من أطراف الأزمة في سورية، الداخليين منهم أو الخارجيين، إلا أن القاهرة تستخدمه فزاعة تواجه بها تمدد نفوذ تركيا و”الإخوان المسلمين”، في حلب خصوصاً، وفي شمال سورية عموماً.

وفي الوقت الراهن، تبدي القاهرة علائم على نيتها محاربة النفوذ التركي في سورية، ولو كان ذلك على حساب تكريس النفوذ الإيراني في دمشق، لأنها تعتبر أن مشروع طهران أقل خطراً على أمنها الوطني من مشروع أنقرة، فضلاً عن أن توسع النفوذ الإيراني في سورية يفيد مصر لتطويق إسرائيل، وجرها إلى تقديم تنازلات للأولى. وفي التحليل المصري النهائي، التهديد الإيراني في المنطقة عسكري وجيوسياسي بإمكان مصر الاحتماء منه خلف الحاجز الإسرائيلي، في حين أن الخطر التركي ذو طبيعة مزدوجة، إيديولوجية وجيوسياسية، وهو يثير قلق النخبة المصرية، لأنه يهدد بالتحالف مع عدوها الداخلي.

الموقف الإيطالي

“تركيا والحكومة المؤقتة التي تدعمها، هي ما تعارضه القاهرة، تحت عنوان وحدة سورية، والخشية من مشاريع تقسيم لأراضيها”

يتحدد موقف روما من الأزمة في سورية بثلاثة عوامل:

1- شعور روما بأنها الخاسر الأوروبي الأكبر من الربيع العربي. فقد فقدت إيطاليا موقعها السامي في ليبيا لحساب باريس ولندن، ما أضعف نفوذها في البحر المتوسط.

2- لم تخسر إيطاليا مكاسبها في ليبيا فقط، بل تحملت موجات المهاجرين غير الشرعيين القادمين من ليبيا وسورية، والذين عملت السياسة الأوروبية “الإنسانية” على تكريس روما “كبش فداء” لأعبائهم الثقيلة.

3- يضغط الفاتيكان على الدبلوماسية الإيطالية، من أجل تهدئة الأزمة في سورية خوفاً على وضع المسيحيين هناك.

وهكذا فالتنافس مع باريس وضغوط اللاجئين والبابا دفعا روما إلى التعاون مع موسكو والقاهرة بشأن الأزمة السورية، ما مهد لتعيين دي ميستورا مبعوثاً أممياً.

الموقف الأميركي

حتى ما قبل سيطرة تنظيم داعش على الموصل، كانت واشنطن مندفعة من أجل التخلص من أعباء الأزمة السورية التي لم تفكر باستخدامها إلا رافعة ضغط على إيران. ولم يؤثر واقع تمدد داعش بشيء على الموقف الأميركي، بل على العكس، أقنع إدارة الرئيس باراك أوباما بإمكانية استغلال داعش، ورقة إضافية من أجل التوصل إلى صفقة نووية إقليمية مع إيران، تنهي العداء الأميركي الإيراني.

ولكي لا تُغضب واشنطن طهران، لم تبدِ أي بوادر للضغط على النظام في سورية. وهي صممت استراتيجيتها لمكافحة داعش، بطريقة تراعي المصالح الإيرانية في سورية والعراق، إن لم تعززها في المحصلة. ويبدو أن ترتيب الحل للأزمة في سورية بموجب أي صفقة أميركية إيرانية سيبقي سورية ضمن منطقة النفوذ الإيراني، وسيترك مؤسسات الدولة من دون تغيير حقيقي. وقد يُضحى ببشار الأسد على مذبح هكذا صفقة.

ومنذ بداية عام 2013 طرأ تحول على السياسة الأميركية في سورية، تمثل في سعي واشنطن إلى تأسيس مواطئ قدم لها بين الطائفة العلوية. ويبدو أن واشنطن تدير مناورة معقدة داخل الأراضي السورية، هدفها تقوية شخصيات عسكرية علوية داخل النظام. وجاءت معركة مورك تتويجاً لهذه المناورة، فقد استطاعت حركة “حزم” (المدعومة من واشنطن)، وعلى مدار عام، إحباط محاولات النظام لاستعادة المدينة، وعلى الرغم من أن قوات الجيش النظامي وضعت كل ثقلها لاستعادتها. ولكن، عندما أوفد النظام العقيد سهيل حسن (الملقب بالنمر) إلى المنطقة لاستعادة مورك، انهارت مقاومة المعارضة المسلحة بسرعة في المدينة، ما رفع شعبية “النمر” إلى عنان السماء بين العلويين. وبالفعل، تسربت أنباء عن صفقة عقدت بينه وبين حركة “حزم”، قضت بانسحاب المسلحين من مورك من دون قتال. وفرضية حدوث اتفاق ما بخصوص مورك، تتعزز من حقيقة أن الفصائل الإسلامية في بلدة اللطامنة وقرية كفر زيتا القريبتين من المدينة، لا تزال تقاوم، وبنجاح منقطع النظير، هجوم النظام منذ سقوط مورك قبل أكثر من ثلاثة أشهر.

ويبدو أن واشنطن تلقت دعماً من فرنسا والسعودية وبريطانيا في خططها لتعويم شخصيات علوية من داخل النظام على حساب بشار الأسد. وستجد الصفقة الإيرانية الأميركية، إذا ما تمت، أطرافاً إقليمية ودولية تدعمها، كروسيا والصين ومصر. وربما تتعاون واشنطن وطهران لترتيب حصة للسعودية في سورية، تقنعها بالانضمام إلى خطتهما هناك، وقد تلجآن إلى القاهرة، للضغط على الرياض، للدخول في سياق الحل. لكن قوى إقليمية ودولية ستجد نفسها متضررة بشدة منها، في مقدمتها أنقرة وباريس.

الموقف التركي

من نافل القول إن أنقرة لم تنخرط في الأزمة السورية لتجدها تسوى في نهاية المطاف ضد مصالحها، ولصالح منافسيها الإقليميين، السعودية ومصر وإيران. ومن نافله أيضاً أنها لن تقبل بأي ترتيب أميركي إيراني، يترك سورية في منطقة نفوذ طهران. لكن تركيا تجد نفسها في أمس الحاجة إلى وسائل وأدوات وقدرات لمواجهة ائتلاف كبير متنافر، إلا أنه موحد في معارضته تحركاتها في سورية.

فمن روسيا والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، إلى إيران والسعودية ومصر، وصولاً إلى الأكراد والحكومتين السورية والعراقية، تدرك أنقرة أن منافسيها وغرماءها كثر، وربما ينسقون معاً لمواجهتها. وعقب رفض أوباما شروطها للدخول في التحالف الدولي ضد داعش، لوحت أنقرة بالعمل بمفردها في الأزمة السورية. وأبدت تركيا إشارات إلى إمكانية التغافل عن بقاء الأسد جزءاً من الحل، لكنها رهنت موافقتها بتأسيس جسم حكم يمثل مصالح السنّة في سورية. وتبدو هذه المناورة مصممة رداً على اقتراب طهران وواشنطن من وضع ترتيب لسورية يسمح حتى باستبدال بشار الأسد بشخصية علوية، وإعادة تكليف حكومة جديدة، يكون فيها لأنصار واشنطن والرياض النصيب الأكبر، مع الحفاظ على النظام القائم كما هو.

من جهة أخرى، قررت أنقرة طرد حلفاء خصومها من مناطق نفوذها في شمال سورية، كأدلب وحلب. ومن ذلك أنها غضت الطرف عن إنهاء “جبهة النصرة” جبهة ثوار سورية وحركة حزم في معاقلهما في جبل الزاوية في ريف أدلب. وجاء ذلك خطوة أولى ضمن مشروع أنقرة للضغط على النظام وإيران والولايات المتحدة، عبر ترك “أحرار الشام” و”النصرة” تسيطران على معسكري وادي الضيف والحامدية في ريف إدلب الجنوبي الغربي. وعلى الرغم من أهميتهما العسكرية، إلا أن الأهمية الحقيقية للمعسكرين تكمن في أنهما يشكلان خط الدفاع الأقوى عن جبال العلويين في غرب سورية. وبالتالي، باتت “النصرة” وحلفاء أنقرة في حصن يهدد جبال الساحل، بما ينعكس سلباً على أنصار النظام. ومن المعروف أن اهتزاز العلويين سيكولوجياً يعتبر عاملاً سياسياً في الأزمة، لأنه يؤدي إلى إضعاف النظام. إضافة إلى ذلك، فإن خسارة النظام المعسكرين يضعفان مجهوده الحربي في حلب. وكان سقوط المعسكرين، عشية وصول وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو، إلى طهران رسالة مقصودة أرادت أنقرة إيصالها إلى كل من إيران والنظام.

وباختصار، استخدمت أنقرة إدلب ورقة للضغط على النظام في اللاذقية، ولمجابهة ضغوطه العسكرية بالتعاون مع حلفائه الإيرانيين على حلب. وبعد سقوط المعسكرين، وجدت أنقرة أن الوقت مناسب للرد على مبادرة دي ميستورا بشأن حلب نفسها.

مبادرة دي ميستورا

بما أن مهمة دي ميستورا برمتها مستندة إلى الدورين، الإيطالي والمصري، فإن مبادرته لحل الأزمة السورية تعكس بدقة توجهات روما والقاهرة في الشرق الأوسط عموماً، وحيال سورية خصوصاً. وفي حين أن مصر ترى في خطة المبعوث الأممي تجميد القتال في مدينة حلب وسيلة لمواجهة النفوذ التركي، تجد روما فيها وسيلة لرد الصفعة التي تلقتها من فرنسا في ليبيا.

“اهتزاز العلويين سيكولوجياً يعتبر عاملاً سياسياً في الأزمة، لأنه يؤدي إلى إضعاف النظام”

ويبدو أن إيران توافق على الخطة من حيث المبدأ؛ فهي تشل تركيا، وتزيد من خلافاتها مع السعودية ومصر والاتحاد الأوروبي، وتثبت وضع النظام في مدينة حلب، فضلاً عن أنها تمنح طهران اعترافاً بدورها وشرعية وجودها ووجود المليشيات الشيعية التي أسستها في سورية، والتي يقاتل فصائل منها في حلب. وما يؤكد هذا المكسب تقصد دي ميستورا ألا يوضح مصير المسلحين الأجانب الذين يحاربون إلى جانب النظام في حلب، في حين أشار إلى ضرورة مقاتلة الحكومة والمعارضة داعش والنصرة، وقت تتكفل طائرات التحالف بقصفهما من الجو.

وعلى الصعيد الدولي، تجد واشنطن وموسكو في خطة دي ميستورا آلية مناسبة لإبقاء المسار الدبلوماسي والسياسي حول الأزمة السورية مستمراً. الأولى، لكي تتفرغ لمشكلة داعش من جهة، والتفاوض مع الإيرانيين من جهة أخرى. أما الثانية، فلكي تلعب دوراً دولياً يفك عزلتها الخطيرة بسبب الأزمة الأوكرانية.

تحركات إيطالية ومصرية

سعت مصر إلى ترويج خطة المبعوث الأممي، لدى السعودية خصوصاً، في حين تكفلت إيطاليا بتسويقها لدى الاتحاد الأوروبي وتركيا. وفي تحركاتها، استغلت روما رئاستها الدورية الاتحاد الأوروبي، وكون مفوضة الشؤون الخارجية في التكتل الموحد، دبلوماسية إيطالية، هي فديريكا موغيريني.

“استغلت روما في تحركاتها بشأن دعم خطة دي ميستورا رئاستها الدورية الاتحاد الأوروبي”

وزار رئيس الوزراء الإيطالي أنقرة، من أجل إقناع المسؤولين الأتراك بتبني خطة دي ميستورا. وكانت موغيريني قد سبقته على رأس وفد أوروبي رفيع، إلى العاصمة التركية، بحث تفعيل مسار انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي في مقابل تفعيل التعاون الأوروبي التركي في مواجهة داعش وتسلل المقاتلين الأجانب عبر الأراضي التركية إلى سورية والعراق، للالتحاق بصفوف داعش و”النصرة”.

ووضعت موغيريني خطة دي ميستورا على بساط البحث، لكنها فشلت في إقناع المسؤولين الأتراك باستقبال المبعوث الأممي رسمياً، على الرغم من أن أنقرة كانت سمحت له بلقاء الفصائل المسلحة الناشطة في حلب، في مدينة غازي عينتاب.

ولم يحبط فشل المساعي الإيطالية والأوروبية لدى أنقرة حماس إيطاليا التي استقبلت عاصمتها وزيري الخارجية الأميركي جون كيري والروسي سيرغي لافروف، وما أشيع في أعقاب ذلك من أن روسيا حصلت على دعم الولايات المتحدة مبادرتها عقد مؤتمر للمعارضة، تتبعه مفاوضات بين النظام ووفد جديد للمعارضة في موسكو. واتجهت روما صوب الاتحاد الأوروبي، ودعت المبعوث الأممي إلى اجتماع وزراء خارجية الدول الأعضاء في التكتل الموحد من أجل حشد الدعم لمهمة دي ميستورا أوروبياً، إلا أن فرنسا وبريطانيا نجحتا في فرملة الاندفاعة الإيطالية، وتطويق مبادرة دي ميستورا، وتلغيمها باشتراط إرسال مراقبين دوليين لمراقبة تنفيذ الخطة، الأمر الذي ضمن أن يأتي إفشال الخطة من النظام وحلفائه الروس. وفي المقابل، عملت الدبلوماسية المصرية على ترويج الخطة لدى الرياض.

الموقف السعودي من الخطة

تبدي الرياض عموماً إشارات إلى تحول في مواقفها من الأزمة في سورية، فهي اقتربت كثيراً من الرؤية المصرية والروسية لحل الأزمة، بالقول بضرورة ترك مؤسسات الدولة قائمة، وباتت تطالب بتغيير عشرات الشخصيات القيادية في النظام، وفي مقدمتهم بشار الأسد، لقاء ترك باقي النظام قائماً بعد تحصيل مكاسب لحلفائها.

وبينما تتسارع التحضيرات لزيارة الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، حط الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، قبل أيام في الأردن لساعات التقى خلالها العاهل الأردني عبد الله الثاني، والذي توجه بعدها بيومين إلى الرياض.

وإذا كانت المفاوضات السعودية الروسية حول سورية تتسم بالصعوبة الكبيرة، فإن الكرملين لا يستطيع إلا أن يكون مرناً مع القاهرة، وهكذا تشكل مصر أداة وساطة مناسبة بين الطرفين حول الأزمة السورية. وعلى الرغم من ذلك كله، تموه السعودية مواقفها السورية، تحت غطاء من الغموض وعدم الوضوح، المقصود، ربما، لكي تضمن نجاح مناورتها الجريئة لضرب سعر النفط العالمي الذي من شأنه أن يضيق الخناق بشدة على منافستيها الجيوسياسيتين، إيران وروسيا.

لا يشمل هذا التعتيم على الموقف السياسي، بالطبع، الدعم السعودي الواسع للجبهة الجنوبية، هناك حيث تدعم السعودية بقوة، فصائل الجبهة من أجل إسقاط معاقل النظام الأخيرة في الشيخ مسكين ومدينة درعا.

وبخصوص خطة دي ميستورا، فللرياض تحفظات قوية عليها، لم تتمكن الجهود المصرية من إزالتها. فالسعودية لم تخض غمار الأزمة في سورية لتسلم بالنفوذ الإيراني فيها، بل هي سعت إلى ضرب نفوذ منافستها الإقليمية من الخاصرة السورية، وعملت على تحويل موازين القوى الإقليمية بتخليص سورية من النظام. لذلك، تقلق السعودية من أن خطة التجميد تعني اعترافاً بنفوذ إيران داخل سورية، نفوذ يعتبر، بحسب الوقائع على الأرض، الأكبر من بين كل القوى الناشطة على الساحة السورية.

عدا عن ذلك، سيصل تجميد القتال، ولو بدأ من مدينة حلب، لاحقاً إلى مناطق أخرى من سورية، الأمر الذي يضع السعودية أمام لحظة الحقيقة، في ما يتعلق بسياستها السورية. فعلى الرياض أن تقرر ما إذا كانت تقبل تجميد القتال في درعا والقنيطرة أيضاً. وهو قرار يوشك أن يفجر الموقف بين “النصرة” وفصائل الجبهة الجنوبية، فضلاً عن أنه يعني تجميد الصراع في نقطة تتقدم فيها قوات المعارضة بكل قوة.

وربما مالت الرياض إلى دعم التجميد، على الرغم من تهديده بكشف سياستها السورية، لأنه يشكل، في الوقت الراهن، أفضل وسيلة لكبح النفوذ التركي في شمال سورية. بناء على هذه الحسابات، استقبلت السعودية دي ميستورا بعدما رفضت أنقرة استقباله. لكن التحفظات السعودية على الخطة لا يبدو أنها في طريقها إلى الزوال قريباً. ولا شيء أدل على ذلك من التعتيم الإعلامي الذي فرضته الرياض على زيارة المبعوث الأممي. وعلى الأرجح، تبنى السعوديون ورقة الاتحاد الأوروبي لدى بحث الخطة مع دي ميستورا.

ولكي تحرج أنقرة السعودية، وتكشف سياساتها، طالبت على لسان الفصائل المسلحة في حلب بشمول خطة التجميد مناطق أخرى، واقعة تحت النفوذ السعودي، وعلى رأسها درعا، بذريعة الخشية من أن يؤدي التجميد في حلب إلى سحب النظام قواته إلى تلك المناطق، لمواجهة تقدم المعارضة.

تركيا ومبادرة حلب أولاً

يتعرض دور تركيا، الصامدة في ممانعتها الاستراتيجية الأميركية في المنطقة، في سورية لامتحان بسبب خطة دي ميستورا. فمنذ البداية، رأت أنقرة أن مبادرة تجميد القتال انطلاقاً من حلب خطوة موجهة ضد سياستها السورية ومطالبها من واشنطن لفرض مناطق عازلة وآمنة، وحظر طيران داخل سورية في مقابل موافقتها على الانضمام إلى التحالف الدولي ضد داعش.

وبحسب أنقرة، تبدو الجهود والتحركات المرافقة لخطة دي ميستورا وكأنها مصممة لاحتواء تركيا وجرها للموافقة على حلٍ يبقي النظام القائم في سورية كما هو، بعد إدخال تعديلات طفيفة. فتسليح الأكراد السوريين وحمايتهم، والتلويح بكيان منفصل لهم، وتعظيم الضغوط الاقتصادية والإعلامية، معطوفاً على عروض الإغراءات الأوروبية المرفقة بالتهديدات في حال عدم التجاوب، كلها خطوات رأى المسؤولون الأتراك أن رابطها الوحيد هو إقناع بلادهم بتليين شروطها، والانضواء تحت لواء السياسة الدولية حيال الأزمة السورية، والقبول بأولوية مكافحة الإسلاميين في المنطقة.

“يبدو أن قدرة تركيا على فرض مصالحها في المنطقة متعلقة بقدرتها على إبقاء التهديد قائماً على اللاذقية وحلب”

ولإحباط ما اعتبرته تهديداً خطيراً لموقعها في سورية، صممت أنقرة استراتيجية من شعبتين، عنوانها الرئيسي التفلت من قيود الحلفاء، والعمل باستقلال فيما يتعلق بالأزمة السورية. الشعبة الأولى سياسية، قائمة على استغلال اعتراف المبادرة بالطرف المعارض المسلح، وتسهيل إجراء لقاءات معه على الأراضي التركية، ولاحقاً إغراق المبادرة في وحل الشروط والمطالب. الشعبة الثانية عسكرية، وتتمثل في مساعدة حلفائها السوريين على طرد خصومهم من الشمال السوري، وبالتالي، إنهاء نفوذ واشنطن والسعودية والنظام هناك، واستكمال العمل لتأمين مواقع تسمح لتركيا بتهديد أي تسوية من دونها لمسألة حلب تكون بالضرورة على حسابها، وفي الوقت نفسه تعطيل أي صفقة إيرانية أميركية، عبر تهديد الساحل. ولذلك، اشتدت، في الأسابيع الماضية، المعارك في ريف إدلب الذي يشكل قفل القنطرة في أي تسوية لحلب، أو للأزمة السورية. ويبدو أن قدرة تركيا على فرض مصالحها في المنطقة متعلقة بقدرتها على إبقاء التهديد قائماً على اللاذقية وحلب.

وعلى الرغم من الضغوط الاقتصادية والسياسية التي تعاني منها أنقرة من الأميركيين والأوروبيين والسعوديين والإيرانيين والمصريين، وقلقها من نتائج التقارب الأميركي الإيراني، إلا أنها تجد فرصاً كبيرة لها في مواصلة سياستها الراهنة. فالتقارب الأميركي الإيراني والضغوط الغربية على موسكو على خلفية الأزمة الأوكرانية، يدفعان الكرملين إلى التقارب مع تركيا. وليس ذلك فحسب، بل إن الرياض القلقة من صفقة أميركية إيرانية يمكن أن تعيد النظر في عدائها أنقرة. وزيارة الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، تركيا وإعلانه إيقاف السيل الجنوبي مع توقيع اتفاقات لنقل خام النفط والغاز عبر الأراضي التركية، أفضل شاهد على كيفية تبدل موقع أنقرة. وبينما تنخفض أسعار النفط العالمية، يتعزز موقع أنقرة السياسي المستورد الصافي للذهب الأسود، في مواجهة منافسيها الإيرانيين والروس الذين يعانون أشد معاناة.

العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى