صفحات الثقافة

ذاكرةُ الأحذيةِ الرجاليّة/ مناهل السهوي

 

 

لم يكن يوماً اعتيادياً على كلّ حال، كنتُ على موعد مع إحدى المحطات الفضائية لتصوير تقرير عن الشّعر، وهذا أمر مربك بحد ذاته لأمثالي. بقيت طوال الطريق إلى “مقهى زرياب” أتساءل لمَ وافقتُ على ذلك!  كان عليّ أن أغادر التاكسي في ساحة باب توما، وأتوغّل مشياً في دهاليز الأزقة القديمة، ذلك أن المشي بين الحارات أمرٌ لا يتعلق بأن يكون لدي شيء هناك، قد أمشي لمجرد المشي، شيء يشبه التخلص من عبء كل ما يحيط بي. بدا الجو مشحوناً، سيارات تخرج مسرعة، أناسٌ يركضون -أحيانا ننسى أننا وسط الحرب- فقد استغرقتُ حتى وصولي (حمَام البكري). حمّام قديم ما زال يرتاده كثيرون للاستحمام على الطريقة الشامية القديمة، هناك أدركت أن قذيفتين سقطتا في الجوار قبل دقائق، وقفت أراقب الوجوه المدماة ونادل المقهى الذي كان يتفاخر بالدم على قميصه بعد إسعافه مصاباً، ماشيا بثقة، ينفض قميصه الملطخ من آثار القذيفة، فمن علامات البطولة أن يبتلّ قميصكَ بدم من تنقذهم. في العموم نحن نتعامل مع هذه الأمور بشكل يوميّ وبما أننا لسنا المصابين نستطيع أن نروي قصصاً عن الموت الذي كان قريباً وعن الجثث والإصابات والبطولات والقدر الذي أخّرنا لحظات عن الوصول فأنقذنا، وحدها الفتاة التي نظرت نحوي بوجهها المغطى بالدم ورأسها المائل كانت تودُّ الصراخ، لكن الدم يجعلنا نصمت بينما يصرخ الآخرون علينا، حملها رجلان من كتفيها كدمية رخوة، وضعاها في سيارة وانطلقوا بها إلى المستشفى.

ii

لست بطلة خارقة لأكمل طريقي نحو الداخل، يجب أن أتصرف بحكمة، هل أعود وألغي موعد التصوير، أم عليّ الانتظار ومتابعة ما سيحدث عن قرب؟  فليس الكلّ محظوظاً ليكون قريباً من الموت بهذا القدر ويخرج حياً  ليكتب عنه، ماهي إلا دقائق وسط ذهولي بحركة السيارات المسرعة، وبتأوهات المصابين وبشتائم السائقين لإبعاد المارّة عن طريق سياراتهم، نزلت قذيفة أخرى، الشيء الأكيد أننا في لحظات كهذه نعتقد أننا نفكر بحكمة لكننا نكون حينها كلّ شيء عدا التفكير بمنطق الحياة، فنحن في النقطة الأقرب للموت، للمرة الأولى أصرخ وأركض للاختباء في أي مكان، وضعت يديَّ على رأسي وجريت، لأجد نفسي وسط محل للأحذية الرجالية، الصراخ خوفاً لتجدي نفسك في محل أحذية رجالية هو التراجيديا بعينها، أجلسني البائع على كرسي واطئ، لم نكن في أمان تام، فالمحل الذي لا تتعدى مساحته المترين يفتح من جهتيه بزجاج على الشارع، شددت يدي على حقيبتي، نظرت للجهة المقابلة، كان حبيبان يختبئان في محل الشوكولا، وبضع فتيات في محل لبيع الورود، وعجوزان في محل للوجبات السريعة. اختباؤنا من الموت يشبه ذاكرتنا أليس الحب يشبه طعم الشوكولا الساخنة، أليست مجموعة من الفتيات المختبئات في محل زهور وتذكارات يشبه حزن الصبايا الوحيدات، أليست الوجبات السريعة تشبه هذا العمر الذي مر بخفةٍ كتناولنا قطعة من البيتزا، أليست الأحذية الرجالية حولي بجميع القياسات والألوان تذكرنا أن كلّ الرجال الذين أحببناهم رحلوا لنحتمي بعدهم في ذاكرة أحذية لا أصحاب لها؟

iii

اتصلتُ بالمصور والمذيع طالبةً منهما أن يختبئا في أي مكان، فهمت أنهما قد التجأا فعلاً في أحد المنازل المجاورة، آخر ما أريده اليوم أن يموت أحدٌ لأني أريد إخبار العالم عن الشّعر، وأن القصائد قادرة على تغيير العالم وأننا بحاجتها لتهدئة أرواحنا، وأننا يجب أن ننظر للعالم من عتبة الشّعر الأزلي، فلولا الكتابة لم أكن لاحتمل الموت والحرب والألم لهذه اللحظة، الشّعر الذي يختبئ الآن بين الأحذية الرجالية وفي احتماء العجوز تحت ذراع زوجها، الشّعر الذي يختبئ في خوفنا وترددنا للخروج ومتابعة يومنا.

لم أحتمل الاختباء طويلاً، شكرتُ البائع العجوز، وتمنيت أن تحيطه الرعاية الإلهية بحمايتها وخرجت للمقهى الذي اتفقت عليه مع المحطة، لم يكن يبعد أكثر من بضع دقائق، مشيت مسرعةً كنت مذعورة، ومشدوهة ككل من رأيت، نحن متشابهون في هذه اللحظات بطريقة لا تصدق، صادفت في الطريق آثار إحدى القذائف، هناك ما زال البعض يتفرج وكأن آثار الإسمنت والحجارة والدماء على الأرض لحظةٌ لا بدّ أن نشبع أعيننا منها جيداً، غريبٌ كيف يبقى الموت هو الشيء الوحيد القادر على إصابتنا بالدهشة!

v

بعد قرابة ساعةٍ من الانتظار اطمأنت ورشة الشعر أن لا قذائف ستسقط بعد، بدأنا التصوير، تحدثتُ عن الشّعر، كنت واثقة ممّا أقول لكني لم أكن واثقة أني قلته بأفضل طريقة، شعرتُ بالشّعر يبكي في زاوية المقهى الفارغ إلّا مني ومن النادل الصغير، كان المقهى فارغاً بصورة محزنة ومعقدة، هناك أشياء أخرى لا نعرفها تتعلق بنا وبالكتابة، تظهر فجأة، في لحظات غير متوقعة، هل عليّ أن أخجل من نفسي لأني عبرتُ جانب أناس يموتون، لأنني كنت قريبة من ألمهم لهذا الحد ثم تابعت يومي، تابعته على شاشة التلفاز بالحديث عن إيماني بأن الكتابة منقذ لروح البشرية الهائم بلا هدى! كنت أحتاج أن ينصت إليّ أحد آخر غير المصور والمذيع، شعرت بضيق وتمنيت لو لم أوافق على التصوير، يبدو أنني أفضّل عوضاً عن هذه الأمور مراقبة العالم حولي ثم كتابته، إنها نوع النجاة الوحيد هنا.

vi

في طريق العودة مساءً كانت الشوارع هادئة وغير مزدحمة كالعادة، لكن كل من مررت جانبه كان يتحدث عن القذائف والمصابين وأماكن سقوطها إلا شخصاً يتسكع مع رفاقه عاكسني قائلاً (حلوة بس بتخوّف!). الصبي والفتاة اللذان افترشا الطريق قبل مطعم (دروب الهوى) بقليل كانا يتحدثان كذلك عن القذائف، وصفت له الفتاة ما حدث رافعة رأسها للسماء مرددة بصوت أجش بأن مروحة السقف سقطت إثر القذيفة، نظرتُ إلى المكان الذي أشارت إليه فكانت السماء.. نظرت أيضاً نحوها وقلت (حلوة هذه المدن لكنها مخيفة!).

لم يكن غريباً الأمان الذي شعرت به اليوم رغم كلّ شيء، حتى حين قال لي صديقي في الخارج (أستغرب كيف ما زلتم تتحملون ما يجري)، في هذه المدن المخيفة، عناقٌ واحد في يوم قبيح للغاية يجعلك تتحدثين عن الشّعر وكأن شيئاً لم يحدث، عناق واحد من أحد يهتم حقاً لحزنك ونجاحك وخوفك يجعل منك موجة حرّة فوق وجه الحياة المدمّاة.

0*شاعرة من سورية

ضفة ثالثة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى